قراءات نقدية

"الهايكو" ما بين التقاليد اليابانية والبصمة العربية

bakir sabatinشعر "الهايكو" آخذ في الانتشار السريع ليشق طريقه في المشهد الثقافي الإنساني وخاصة العربي باقتدار، ولعل بساطة "الهايكو" وقدرته على تحمل اللحظة التذكارية المبسطة في الشكل؛ قد أغوت جيلاً جديداً من الشعراء الذين وجدوا ذواتهم في هذا اللون الجميل من الشعر المفخخ دون تكلف في المشاعر، فهي لقطة تذكارية يأخذها العابرون معهم في زحام المدن كي تضيء لهم شيئاً في الذاكرة.

وشعر الهايكو في الأصل هو نوع من الشعر الياباني، يحاول الشاعر من خلال ألفاظ بسيطة تسجيل مشاعره إزاء لقطة عابرة لا تستغرق طويلاً شكلاً ولا مضموناً.

تتألف أشعار "الهايكو" من بيت واحد فقط، مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا ب(اليابانية)، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر (خمسة، سبعة، خمسة). ومن الملاحظ أن التعريف ذكر أرقاماً تتعلق بعدد الأسطر والمقاطع وتوزيع الكلمات على أساس الرقم الفردي. وهي أيضاً ترتبط بالأعمار والمواسم ومن ذلك الاحتفال بمراسيم:- شيتشي (سبع سنوات) – جو (خمس سنوات)- سان (ثلاث سنوات) وهي الأعمار التي يُحتفل فيها بصحة وسلامة الأطفال في اليابان. حيث يصطحب الآباء أبناءهم إلى المعبد القريب منهم للدعاء. ويستند اختيار سني العمر الفردية إلى الاعتقاد بأنها أرقام تدعو إلى التفاؤل، ويرسم الأطفال على أكياس الحلوى صورتين لطائر الكركي والسلحفاة واللذين يرمزان إلى طول العمر في اليابان.

ويرجع تاريخ "الهايكو" الحديث الى عام 1892م بظهور قصائد الشاعر الياباني (سيكو شايكي). وتعتبر الشاعرة اليابانية ” هيساجو سوجيتا” من أشهر شعراء "الهايكو" والتي اعتمدت القصيدة عندها في بناء "الهايكو" على أساس المشهد الأمامي والمشهد الخلفي.إذ تَتَملك الشاعر براءة الطفولة وهو يصف المشهد حسياً مستخدماً مفردات بسيطة وفطرية الدلالات وآنية من خلال عناصر مترابطة. كأن الشاعر في غيبوبة البوح لا يريد أن يغوص في أعماق البحيرة مكتفياً بمشهدها الخارجي البسيط.. فهو يصور المشهد حسياً ويبتعد بالمتلقي عن مطاردة الغاية في النص. إنها اختزال لمشاعر وأحاسيس الشاعر الانطباعية في سبعة عشر مقطعاً وفق التراكيب في اللغة اليابانية. ولمزيد من الفهم لهذا النوع من الشعر، لاحظ هذه اللقطة اللحظية المفخخة في النص التالي للشاعر الياباني باشو:

صفصاف أخضر (مشهد أمامي)

تتقاطر أغصانه على الطمي

أثناء الجزر (مشهد خلفي)

هنا يتأمل الشاعر الطبيعة فتدهشه اللحظة ويصورها الطفل القابع في أعماقه على نحو مشهد أمامي لشجرة الصفصاف التي حركت دلالاتها مشاعره وهي تتحرك في المشهد الخلفي الذي يتمثل بالمد وهو يعكس صورتها بلونها الأخضر ليختطفها الجزر.

ومن أهم خصائص شعر "الهايكو" هي ربط المشهد الحسي بدلالة موسمية إشارة إلى معالم الطقس الموجودة في بيئة اليابان الغنية؛ دلالة على المواسم الأربع. فتجدون أيضاً الإشارة للحيوانات (مثل السلحفاة التي ترمز إلى طول العمر) أو النباتات تعبيراً عن المشاركة مع البيئة التي ألهمت الشاعر، بناءً على الحالة النفسية التي يكون فيها الشاعر وهو يطبق عينه على خاتمة مشهد لحظي، ليتأملها، ومن ثم يكتبها قبل أن تنمو في عقلة فتخرج عن شروط "الهايكو". واليابانيون يحررون أنفسهم من الأزمات باللجوء إلى الطبيعة من خلال التأمل وفق العقيدة البوذية (اليوغو). علماً بأن هناك عيد في اليابان يسمى (يوم الاحتفال بالربيع) في الحادي والعشرين من مارس، يقدم فيه الناس الشكر للطبيعة ويعربون عن حبهم للكائنات الحية. وفي منتصف سبتمبر (الخريف) يحتفل اليابانيون بتأمل القمر وهو في حالة البدر ويفتحون النوافذ أو يلجأون إلى الجبال لمشاهدته. وهذا يدل على العلاقة الروحية بين الشاعر الياباني بالمواسم والطبيعة.. ويمكن من هذا المدخل فهم علاقة "الهايكو" بالحالات النفسية والسياقات الاجتماعية و الثقافية التابعة لتلك المواقف من منظور ياباني على اعتبار أن عمق دلالة المفردة عند الياباني تختلف عنها لدى الشعوب الأخرى. كل هذا يُلخّص في صورة ذهنية مُركّزة و مبسّطة في إطار تجربة فردية لتلك اللحظة.

ويمكن التوصل إلى النتيجة التالية في أن أصالة شعر "الهايكو" تنبع من تقاليد الشعب الياباني وخصوصيته. لذلك فإن تقليد هذا النوع من الشعر من قبل شعراء لا ينتمون إلى شعوب شرق آسيا (كونهم يتمتعون بسمات متقاربة وتجمعهم تقاليد ذات أصول فكرية ودينية واحدة)؛ فإن إبداعاتهم ستكون تقليداً باهتا للشكل على حساب المضمون.. لأن المفردة والدلالة اليابانية لا تنسجم مضموناً مع شبيهاتها لدى الشعوب الأخرى ولو توافقتا بالشكل.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم التجارب العربية في شعر "الهايكو" تذهب إلى استبدال الطبيعة بالإنسان، ما يدرجها في تصنيف آخر هو شعر "السِنْرْيو" (بتسكين النون والراء). فقصيدة السِنْرْيو، التي يرتبط اسمها بالشاعر الياباني سِنْرْيو كاراي (1718 – 1790)، تشترك مع قصيدة "الهايكو" في كافة الخصائص باستثناء الموضوع الذي يقحمه الشاعر في تفاصيل الصورة ليصبح الإنسان هو المحور بدلاً من الطبيعة. وفي هذا السياق يمكن للشاعر التقاط الصورة مشحونة بمشاعر الإنسان وهمومه وإسقاطاته السياسية أو الساخرة. ومن تجاربي الخاصة في سياق شعر الهايكو، اخترت المقطعين التاليين:

يحدق في الشمس (مشهد أمامي)

يغشاه العمى

الحقيقة ساطعة (مشهد خلفي)

أي أن الحقيقة تدمي مقل المشككين..

***

النافورة دمشقية (مشهد أمامي)

بتلات الود تغتسل بالقدود

الأفراح فاكهة (مشهد خلفي)

هذا يعني بأن مشاهدتي العابرة لنافورة دمشقية لخصت أشياء كثيرة عن هموم الشام.

وتعتبر تجربة الشاعرة التونسية هدى حاجي من التجارب الناجحة التي تقيدت بشروط الهايكو الياباني بنكهة تونسية، تقول الشاعرة في إحدى قصائدها:

غيوم سوداء (مشهد أمامي)

فراشة نائمة

برعم يحلم بالربيع ( مشهد خلفي)

فالغيوم السوداء العميقة أوحت بالمطر الذي طرق أحلام الفراشة ليستنهض الربيع، وهي لقطة قد توحي بالأمل.

***

في آنية الكرستال (مشهد أمامي)

أضمومة الإكليل البري

تموت يانعة (مشهد خلفي)

تقال فيمن يجزل العطاء حتى الرمق الأخير، ففي المشهد الأمامي تنطبع صورة الإناء وفي قلبه ضمة الورد، التي تبعث بدورها في القلوب السعادة، رغم أن الحياة تتسلل خارجة من عودها الرطب.

أما الشاعر والمترجم الفلسطيني نزار سرطاوي فهو من المهتمين بظاهرة الهايكو عالمياً، وله في سياق ذلك مقطوعات جميلة اخترت منها:

بعد الظهيرة (مشهد أمامي)

موعده مع اثنتين

هي وظلها ( مشهد خلفي)

***

شجرة لوز صامتة (مشهد أمامي)

البراعم تسقط وتسقط

والطفلة ما زالت تتأرجح (مشهد خلفي)

***

وأزعم في سياق هذا المقال بأن شعر الهايكو تجاوز حدوده اليابانية لتأخذه رياح التجديد إلى ربوع العالم كأنه غبار الطلع، وسنجد له مساحة واسعة في الوجدان العربي، فبات يشكل ظاهرة لا يستهان بها، بدلالة ذلك الانتشار المتسارع لمجلات شعر الهايكو ناهيك عن تأسيس نوادي حملت اسم الهايكو عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والتي اجتهدت بنشر الأجود من شعرالهايكو ، حيث يقوم على هذه النوادي شعراء حاولوا ترسيخ هذه الظاهرة محلياً باستخدام المفردات والدلالات الإنسانية مع خروج طفيف أحيانً عن الشروط التقليدية للهايكو من باب الخصوصية وترك بصمة عربية في هذا الفن بمحددات إنسانية مع الاعتراف بأن التجربة ما زالت في طور التجريب وإن ترسخت في الوجدان. ومن أهم هذه النوادي: نادي الهايكو العربي بإدارة الشاعر محمود الرجبي وهايكو سوريا بإدارة الشاعر سامر زكريا وهايكو الجزائر بإدارة الأخضر بركة ومعاشو بو شمة، وهايكو فلسطين بادارة حسن أبو دية، وهايكو المغرب بإدارة  الشاعر عبد العزيز أبو الفوارس، وغيرها..

 

بقلم بكر السباتين..

 

في المثقف اليوم