قراءات نقدية

طالب عمران: المظاهر الذاتية في (وجهة لناي مهزوز) للشاعر حسين بن خليل

الذات في النص الشعري تمثل الفكر والوجدان بينما يحيل الموضوع الى الواقعي والمعيش ..

أي ان الموضوع بهذا المعنى لا يكون موجوداً في الاساس وانما توجد الذات عبر جدالها مع الكون داخل القصيدة.

ان الطبيعة البشرية تسعى دائما وراء التجديد والتغيير ولعل مفهوم الحداثة لا يخرج عن هذا الاطار..

مع شعرية الحداثة تتماهى العلاقة بين الذات والموضوع وهذا ما نلمسه في النصوص الشعرية الحداثية وجهة لناي مهزوز للشاعر الحسين بن خليل الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في طبعتها الاولى 2023 .

حضور العنوان (وجهة لناي مهزوز) بوصفه بنية نصية لها اشتغالها الدلالي في النص وبناءه الدرامي وانزياحه الانفعالي المكثف ودوره في انتاج المعنى لدى الشاعر، والذي عبرّ عنه بلغة شعرية.

استهل نصوصه في نص نثري تناصا مع موضوع الصواع في قصة النبي يوسف لتحمل تجربته الشعرية بين الذاتية والموضوعية وهذا ما يعبر عن وجود علاقة بين التجربة الانسانية والرؤية الذاتية للشاعر.

أيتها العير .... مواعيد الرحيل يطوقها مؤذنو الملوك1

ما من سرقة...

الأصوات بيضاء،

وغنائم الصدفة

لا تبارح ساحة القتال....

*

أيتها العير من منكم حمل الخطيئة لتبرك الأرض؟

من سرق الصواع؟

اشتبكت نواياه مع فتيل يتهيأ رويدا رويدا ؟

من قضم الطريق

وأسرج العرش معه

ومن ثمة تأتي نصوص المجموعة العنونة الداخلية، جمل مركبة وبثنائيات ضدية، ومتقابلة ومفارقات لفظية مدهشة لأكثر من خمسين نصاً التي جاءت معظمها بصيغة بنى نصية يغلب عليها التركيب الانشائي والهاجس السردي، والميل الى الطول لذلك يستعين حتما الاغراق في السردية، تخلق حالات شعرية:

ندى وظواهر تشيع مخبوء/ بين بياس النهر وبلل الصحراء/لا تكبّل نهرك فضيلة السريان/ من يسرج روحا بين كماشتين/ بابل يصفر لها الارث/ سیل جاف وثوب يتجعد/ تلويحه بحاجبين مقطوبين/ بقي القداس جائعا/ وله على اكتاف الفزاعات/ ولوجي شهقة ممشوقة/ نَهِمةٌ وجُوهُ الأجوبة/ تغزلك المفارقات بدلا عني/ شبق دوّار رأسك/ وانذر سمرتي للبياض/ إلى عصفورة المنافي/اذلت ولم يصدقها نبي/ فعلة المزامير/ زهرة عاقرة ونوايا ماجنة/......

اعتمد الشاعر التجريب بالاعتماد على المفارقة بوصفه انزياحا وانحرافا دلاليا بقصد كسر الالفة المعتادة والخروج الى غير المعتاد

منطلقة منذ بدايتها من هذا الوعي نلمس ثمة علاقة بين اطراف ثلاثة، التجربة الانسانية، رؤيا الشاعر الذاتية، المتلقي، وهذا ما يميز الشعر الذاتي كما في المقطع من نصه (ندى وظاهر نشيج مخبوء)ص6:

لست كالندى أعصر من النعاس صبحا لأول ريق

يغرد خارج مسار نجمك

لست ليلا لتنضج تعابيري وقت المنتصف

هذي وجه زنبقة

خطوي كحصار

أسواري من غبار

غباري من خيوط التجاعيد التي تتدلى المرايا منها

محاولا الكشف عن المظاهر الذاتية وتجليتها في نصوصه الشعرية، نلاحظ ان خطابه الشعري يتحرك بمنطق الكشف عن الذات وتمثيلاتها عن طريق تفكيك النص واحياناً عن طريق السرد تارة أخرى يتجلى ذلك في مقطع لقصيدة بعنوان (من يسرج روحاً بين كماشتين) ص16:

كل ما حولي

يتناقض بطريقة لا يمسك برأس خيطها جوع...

أفول أبيض على غير العادة

تصحر يبحر على غير مشيئة الرمال

روح تحتضر بطريقة لم تعد مثالية للمعلولين مثلي

من يأخذ بيدي لي من القرارات الاكثر رعبا

يحيل منذ البداية الى الذات الفاعلة التي تمثل مركزية النص، كذلك ينطلق الشاعر حسين بن خليل في مجموعته (وجهة لناي مهزوز) راصد لذوات متعددة في نهاية الامر ذات واحدة هي ذات الشاعر التي تتداخل مع المشهد المحيط النهر، المدينة، بابل، نبوخذ نصر، عشتار، القرية، الصديق و... كما في مقطع منص له (بابل يصفر لها الارث)

لا تعني الخرائب شيئا

حول هذا النهر الحلي

وهو يلتف كبطون الحيات وبابل عطشى

لا يعني شيئا وجه عشتار ولا ابوابها

حين لا تكون بلا مسامير

تشد جنونها حين ينتهي عمر الموكب حزناً

أو يوقف نبوخذ نصر غزواته رعباً

كيف يرتجف الموكب هذا

وهو يحمل بين كفيه الغنائم بعد الحرب

يعتمد الشاعر مفارقة الموقف عبر الذوات الفاعلة بين المدينة وحاضرها وبين الذكريات المرتبطة بالطبيعة وماضيها..

اعتمد الشاعر الحسين بن خليل المفارقة بين حالتي الصوت والصمت صوت المآذن وصمته المستكين بما تصبح معه ذاته مسلوبة الارادة ويصبح الالم والمعاناة هما موضوعة الشعري نلمس ذلك في نصه (مئذنة عقيم): ص58

المآذن تمد وجهها للسماء

تشهق أنفاس المؤذنين

وتزفرها أصواتاً هستيرية في آذان الآلهة

تدق أبواب المصلين متى ما تشاء

الا مأذنتي

عقيم

لا تحدث عشقها للغارقين في خواصر النشيج

يا آلهة المرايا

ابتلعي انيني واسكبيه بين شفاه مترفة

أبلغي العاشقين

فالذاتية في شعره كانت نتاجاً لتردي الاوضاع السياسية والاقتصادية، والاجتماعية فتولد عن تلك الاوضاع المعاني التي اتصفت بالذات، فانتشر الحزن والاحباط والانكسار والتشاؤم و كما برزت معاني أخرى كالتفاؤل والثورة والاستعلاء والرفض الى غيرها من الاتجاهات، وجدت في نصه (هزائم لم يعرفها قروي) بعض ما يفصح عن مشاعره: ص73

أتهرب كعنق الريف وهو ينفلت من مئذنة المدينة

مكبرات الصوت

خالية من هفهفة النوايا على رأس النخيل

 حين يدفع بها الربح

ومرآتي

اسفنجة تراب

تمتص الملامح متى ما نزفت الجادة

أتهرب

کمشط عجوز تمر بين أسنانه صراخات ازقة مكتظة

وهو يرخي لها أسماعه

دون إفصاح عن ضجر لم يعده العمر القديم

كم يلزم

لرأس بدائي فهم الثورة بمنظار أزرق

 أو سماع الهتافات ليس من أعلى شجرة شائخه.

فالذاتية في الشعر هي حصيلة اتحاد ذات الشاعر بالعالم الخارجي والباطني،

وانها في الاخر هو تعبير عما يدور في الذات أولا وفي نفوس الغير ثانياً.

ان الذي يميز الشاعر الصادق من غيره هو ذاتيته، يقول محمد غنيمي هلال الذي قال :" ان العمل الفني ليس نتيجة الشعور فحسب وانما هو ذكاء وفكر وارادة، ويعتمد على الشعور والعاطفة ومن ثم يتخذ منهما الشاعر موضوع تفكيره)2 فموضوع الشعر في نظر غنيمي هو الصدق والاصالة فالشاعر الحق هو الذي يكون لديه ما هو جوهري في ذاته يميزه عمّا سواه وبفضله يكون هو ذاته وليس انساناً آخر.

نستخلص من ذلك أنَّ أي موضوع لا وجود له ولا قيمة فنية له الا اذا كانت هنالك ذات تدركه، كما ان الذات لا توجد من غير موضوع يظهرها لذاتها.

"لا يمكن لأي موضوع ما خارج ذواتنا مهما كانت قوته أن يكون في ذاته أو بذاته أكثر.."3

هذه الرؤية الجديدة للموضوع (الموضوعية) هي التي تتمثل فيها عملية الابداع الفني وهي نفسها التي تلتقي فيها الذات بالموضوع بحيث يصبح الذات موضوعاً والموضوع ذاتاً ويزول هذا التناقض..

وباللغة التي اعتمدها الشاعر تتحقق الذاتية في نصوصه الشعرية،  تدل على رؤية الشاعر الذاتية وقدرته على الصياغة الموضوعية صياغة تدهش القارئ وتلفت انتباهه الى امكانيته في استخدامه للغة .

وعلى هذا النحو تأتي النصوص عبر مجموعته(وجهة لناي مهزوز) محتفيي بذاتها في علاقتها بالواقع فيعبر عن آلامه وهزائمه والملل والضجر واحباطات العالم .

***

طالب عمران المعموري

.................

المصادر

1- خليل، الحسين: وجهة لناي مهزوز، بغداد، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، 2023 .

2- محمد غنيمي هلال: النقد الادبي الحديث، دار الثقافة، دار العودة، بيروت لبنان، 1973 ص315

3- محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الادبي من القديم والحديث، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1984، ص24

في المثقف اليوم