قراءات نقدية

عتبة لقراءة أحلام باصورا

hamed fadilسألت نفسي وعيناي تلاحقان الكلمات الساعية كخط من النمال في سطور كتاب أحلام باصورا لمحمد خضير، هل أنا من أولئك القراء المعنين بالمواضيع المغايرة.؟ القراء الذين يتوجه اليهم الكتاب المكانيون غير النمطيين  ــ على قلتهم ــ ليشاركوا بعد الانتهاء من القراءة في تأثيث الأثر الكلي الذي اشتمل على ما أثث به أولئك الكتاب فراغ قصصهم أو رواياتهم، وأعني بالفراغ المكان أو الفضاء الذي توجد فيه الأشياء بحسب التعريف الفيزيائي لنيوتن الذي ظل الاعتقاد بنظريته عن مسرح الفضاء وتأثيثه سائدا حتى مجىء أنشتاين الذي أكد الزمكانية وقال بحقيقة الفراغ أي الفضاء المرجعي الذي يستوعب المكانين المحدد والمزدوج.. وبما أن مكان الأحلام هو الفضاء الذي تُحلق فيه الأنفس عبر ثالوث الزمان (الماضي والحاضر والمستقبل) لترى ما لا يُرى من الأماكن، وتستدعي ما لا يُستدعى من الشخوص، وتتعامل مع ما لا يمكن التعامل معه من الأحداث والوقائع التي لا وجود لها في عالم اليقظة، الذي قد تكون أحلامه تأملات خيالية واسترسال في الرؤى كوسيلة لتحقيق الأماني وكأنها قد تحققت، واشباع الرغبات وكأنها قد أُشبعت.. فالأحلام من وجهة نظر فرويد تلجأ الى الرموز لتُخفي الأغراض التي يحضرها المجتمع، والمدينة كمكان كما جاء في تفسير الأحلام لابن سيرين تدل على أهلها وساكينها وتدل على الجماع والسواد الأعظم والأمان والتحصين، والمدينة الغريبة بتفسير ميلر تعني المواجهات مع مناسبات محزنة قد تؤدي إلى تغيير في مكان السكن أو نمط الحياة أو العيش. أما النابلسي فيذكر في تفسيره أن من رأى في المنام أنه دخل مدينة من المدائن يأمن مما يخاف، فدخول المدينة في المنام خير من الخروج منها استناداً لقوله تعالى (فخرج منها خائفاً يترقب)، وعن البصرة أو باصورا التي تعنينا في هذه المقالة، يقول الظاهري في تفسيره: من رأى أنه في مدينة البصرة فإنه يدل على حصول العلم والتفقه في الدين.. وكعادته في ما قرأنا له من منجزه المكاني المتفرد، وفق القاص محمد خضير في كتابه أحلام باصورا في المزاوجة بين المحلوم والمبصور. فباصورا هي الحلم الكبير الذي انداحت من حوله الرؤى أو تفرعت منه الأحلام.. فهي إذن متوالية حلمية، حكائية، مكانية، زمانية، شخصانية، تاريخية، وهي من وجهة نظر مواطن باصوري، (الطبقة المفقودة من البصرة) التي راح الحكاء البصري الحالم يبحث عنها في أحلامه المتوالية، فهو ينتقي أمكنتها وشخوصها وأحداثها الواقعية من مدينة البصرة الحالية ومن مدن عراقية أخرى ليحولها ــ في أحلامه ــ الى أمكنة مفترضة، وأحداث متخيلة مع الحفاظ على أسماء الشخصيات السياسية، والفنية، والأدبية المعروفة، التي حفرت اسماءها على جذع شجرة عائلة التاريخ العراقي المعاصر، ثم يعود ليحكيها لنا وكأنها أحلام تحتاج لمن يفسرها، أو قصصاً مفترضة صنعها مخيال كاتب تحتاج الى قارئ يخلع عليها ما نضته من ثياب واقعيتها.. لذا يتوجب علينا كمعنين في الثقافة المكانية أن نستدعي البصر والبصيرة والخيال في ثلاث قراءات  كي نقترب من فهم متن أحلام باصورا المدينة الملتقطة من بئر التاريخ بدلو الوارد محمد خضير الذي ساعدها على التسلل عبر الحاجز الشفاف الفاصل بين الوهم والحقيقة، باصورا المدينة الحلم هي نظيرة البصرة المدينة الواقع في معناة الأضداد والتوافقات، الاخفاء والاظهار، الأماني والخيبات.. والطريق الى باصورا لا يقاس بمقياس الخرائط التقليدي لتميز البعد الذي على الخارطة من ذلك البعد الذي على الأرض، فطريق باصورا هو المسافة ما بين الحلم والواقع ولذا فهو أقصر الطرق المؤدية الى مدن اليوتوبيات.. ثمة خاصية يشترك بها الناس كافة هي الحاجة الدائمة الى من يحدثهم عن انفسهم. يحفر في داخله ليستخرج ما في دواخلهم. فالهم الانساني منذ عُرفت المجتمعات واحد، وهو ما دأب الناس يبحثون عنه في قصص الآخرين المشابه لقصصهم.. البوراني المستكشف الباحث في داخله لمعرفة دواخل الآخرين بما يخص الانتماء الى أمكنة الأحلام أو أحلام الأمكنة.. في الطريق الى باصورا يطرح محمد خضير الواقع الانساني المحترق بنيران الشك واليقين والتصديق الكاذب بطروحات دواخل النفس البشرية والتكذيب الصادق بظواهر النشاط الخارجي المشدود بحبل من مسد الى أعماق بئر الموروث.. هل كان البوراني وهو يعكس الوجوه المتعددة في مرآة أحلامه ويغير أسماء الشخوص ويعيد ترتيب أثاث مسرح الفراغ يطمح الى تصحح حركة دمى التأريخ المتأرجحة بخيوط المؤرخين.. بريد باصورا دائرة الحيوات المُسْتَنْسِخَة للأمكنة والأزمنة والتأريخ الذي يكرر نفسه، فالمدن دلاء والزمن ناعور، الحاضر نسخة من الماضي، والمستقبل نسخة من الحاضر، ثالوث الزمن يستند الى ثلاثة مرجعيات هي (الما، والقد، والسوف)، ما حدث قد يحدث، وما يحدث، سوف يتكرر، ويلعب العدد أحد عشر الذي يذكرنا برؤيا يوسف دوراً كبيراً في  تثبيت امكنة المنشآت في مدينة باصورا يقول الحكاء الحالم: (لا أرغب في أن أدخل إلى نسختي الباصورية مدخلاً فانتازياً فأتحدث عن أحد عشر مكتباً للبريد، ومثل هذا العدد من نُسخ المكتبة العامة، ومتحف التأريخ الطبيعي) ويستمر في تعداد منشآت مدينة  الأحلام، التي تستخرجها يد الخيال من خُرج  باصورا وكأنه خرج بائع متجول في الأرياف يجب أن يحتوي على كل شىء.. لعبة الاضمحلال والظهور مستمرة في ألعاب باصورا.. فالمدن مستمرة في الوجود عن طريق الاستنساخ ما أن تضمحل مدينة حتى تظهر نسختها المحسنة، ليستمر مشوار الأحلام الذي نرافق فيه زمكانية الأحداث الواقعية والمفترضة، ونتابع مسيرة الشخوص الذين حلقت أرواحُهم الى الحياة العليا، أو الذين ما يزالون يدبون في دروب الحياة الدنيا. يستحضرهم الحكاء الحالم محمد خضير من الماضي البعيد والماضي القريب للذاكرة الجمعية. يعد لهم متكأً في خيمة أحلام باصورا، ويقول لنا: (ها ألا تسمعون طرق أكفهم على أبواب ذاكراتكم؟).. معجم باصورا كلمات مكنونة في صدور الباصوريين لا يجف مدادها ولا ينفد ما دامت المدينة قادرة على الانجاب.. يلعب المخيال والتصور وأحلام اليقظة دوراً رئيسياً في أحلام الحرفين والفنانين في خطوط باصورا الراوي الاركولوجي يرى ببصيرته ما مطمور تحت تراب الزمن  وعن طريق السرد المتواتر تتوالى الحكايات كتواليها في ألف ليلية وليلة فهناك دائما حكاية تولد من حكاية ولأن القاص محمد خضير يمتلك وبجدارة القابلية على تحريك الأشياء الجامدة  فإنه  يبعث الحياة عن طريق السرد التصوري في الايقونات واللوحات والطوابع وغيرها وقد سبق له تجربة ذلك في قصته الصرخة من مجموعته الثانية في درجة 45 مئوي.. الوقائع التاريخية والأمكنة المفترضة المعززة بالوثائق في حلمي أكاديمية باصورا والكشكول السرياني حيث يقود البحث عن الكشكول المعزز بأسماء حقيقية واقعية الى البحث عن جذور مصطلح الكشكول ولقد اتسعت حلقة السرد من الحِرَفْ الى الحرفيين الذين قادوا السرد الى أصل اللغات واللهجات المختلفة التي أدت الى سك النقود المتداولة في تلك الأزمان بأمكنتها الاستيعابية  الصغيرة والكبيرة ومنها البصرة التي ترعرعت فيها أطوار التطور الثلاثة (طور تأسيس الصناعات الحديثة، وطور الطباعة والتأليف الأدبي، وطور التمدين والتحديث الفكري والاجتماعي) ويختتم القاص محمد خضير نص الكشكول السرياني بالنص الديني المقدم من الخالق للمخلوق كمصدر للإصلاح: (اختصر تنقيبي في الكشكول السرياني المنسوخ بنص تنافذي من القسم الثالث، منسوب إلى الحكيم الآشوري أحيقار الذي خدم الملك سنحاريب في القرن السابع قبل الميلاد، يشبك أواصره بحكمة لقمان في النص القرآني).. في (تعبيرُ حلمٍ محفوظىّ) يغير القاص محمد خضير مسار السرد فيلجأ إلى عرض المشاهد السردية على طريقة خيال الظل الذي ابتدعه الكمال أبن دانيال في القرن العاشر الهجري، كما يعمد الى مسخ الكائنات الحية كما في قصص ألف ليلة وليلة حيث تتحول الفئران الى جواري..  الحياة كيس من الأحلام التي تثقل ظهر العمر وكذلك كانت احلام نجيب محفوظ  التي شملت ذوات اخرى غير ذاته في المتوالية السردية، التي شملت أحلام محمد خضير نفسه، ومحمود عبد الوهاب، ومهدي عيسى الصقر، على العكس من حلم السياب المفترض له وحده في المتوالية  الشعرية التي شملت البريكان، وسعدي يوسف.. أغنية جسر اللقلق حلم استذكاري لطفولة غابرة..  الايهام والتصديق في افتراض حلم الرجل السري.. حين يكون الحديث عن زمن غابر توصف كل الأشياء المواكبة له بصيغة الماضي، روائح العائلة المنسلخة من الأحلام تشي بأنها ذكرى من زمن ماضي.. الباب المسدودة تخلع حلة جديدة على الواقعية الانتقادية.. حلقة جالينوس تطابق الحلم والواقع.. هل يشير القطار الى ذلك السفر المستمر من محطة الأزل الى محطة الأبد، وهل يوحي المسافر الذي لم يخلع محمد خضير عليه اسماً أو يشير الى وقت صعوده الى القطار مما يوحي بأنه كان موجودا داخل القطار هل يعني المسافر الموت الذي يطارد المسافرين في قطار الحياة هل يرمز الطفل الى طفولة الرجل المسافر أم انه رمز الأمل المرتجى؟ .. يبدو لي ان حلم القطار قصة مكتوبة بالأسلوب الفانتازي المقنن. الوادي حلم شيزوفريني، ربما يرمز حلم سفر غير المعرف الى عجز امم العالم الثالث من اللحاق بقطار التقدم السريع الذي سبقتهم في الصعود اليه معظم الأمم المتقدمة.. في الحمام، في العيادة، في المرآب، في دورة المياه. تنتمي كل من هذه العنوانات الى القصص المتوسطة الرائجة كتابتها في العالم الآن. ضياع في السماوة تبادل في الأدوار، الولوج الى عالم النضج سواء للرجل أو المرأة  يتطلب بعض قطرات من الدم، هكذا فهمت الحلم المعنون الشعرة. في مقهى الظلال ربما يكون الظل متحدر من ظل آخر كما في خرائب بورخس الدائرية.. وأخيراً وليس آخراً سيظل الجواب على سؤالي الذي سألته لنفسي في الاستهلال محلقاً  مثل طائرة ورقية انفلت خيطها من بين اصابع طفل ظل يحلم بعودة طائرته عندما تسكن الريح، ولعل الريح ستسكن حين تكون لي قراءة ثانية لأحلام باصوراً كي أجد الجواب على سؤالي   

 

حامد فاضل                                                                                                  

                                                                                 

 

في المثقف اليوم