قراءات نقدية

همسة عن السياب وموقفه الفكري

musadaq alhabibسمعنا وقرأنا الكثير عن شخصية الشاعر بدر شاكر السياب "المهزوزة سياسيا والمغتربة المحطمة اجتماعيا" ولاسيما عبر التركيز المحموم على انقلابه على الحزب الشيوعي وانغماسه في القومية العربية. ففي ثقافتنا، ثقافة الاتهامات والمهاترات التي كانت في ذلك الزمن ومازالت الى اليوم تنمو وتزدهر، أرى إننا ظلمنا الشاعر الفذ وحاكمناه من منبر فكري ضيق ووضعناه في منظور لا يتناسب مع طبيعة وظروف تلك المرحلة ومتغيراتها، ولا مع ظروف الشاعر الشخصية وما عاناه من فقر وحرمان ومرض علاوة على مسلسل ملاحقات الشرطة ومضايقاتهم واهاناتهم والسجن والفصل من الوظيفة عدة مرات.

كان الشاعر مثاليا نقيا انتمى للحزب الشيوعي الذي رآه يحاكي مثاليته واحلامه في بناء الوطن الحر والشعب السعيد لكن الصدمة كانت بعد سنوات من النضال في صفوف الحزب اكتشف خلالها ان مثالية الحزب طوباوية فارغة ساهمت بتعقيد إشكالات ثورة تموز وأصبحت ظلا باهتا للبلشفية السوفيتية. وهذا الاختلاف الفكري هو الذي فسره افراد الحزب والمطبلين له بالعداء للشيوعية والعمل ضدها خاصة وان الشاعر سمح لنفسه تحت الضغوط، ان ينحدر الى نشر ردود فعله الانفعالية.

في مقاله المعنون "بدر التموزي" الذي كان جزء من مقدمته الطويلة للأعمال الكاملة للشاعر، يقول ناجي علوش ان قصيدة "المومس العمياء" هي التي قصمت ظهر البعير، وذلك في معرض تحول الشاعر للفكر القومي، ويصفه بأنه كان قوميا عربيا بالمعنى السلفي، مستشهدا  بهذا المقطع:

ما زلت أعرف كل ذاك، فجربوني يا سكارى

من ضاجع العربية السمراء لا يلقى خسارا

كالقمح لونك يا ابنة العرب

كالفجر بين عرائش العنب

أو كالفرات على ملامحه

دعة الثرى وضراوة الذهب

لا تتركوني، فالضحى نسبي

من فاتح ومجاهد ونبي

عربية أنا أمتي دمها

خير الدماء، كما يقول أبي

ولا أفهم كيف للأديب وصديق الشاعر ان يغض النظر عن التهكم المر الفاضح في هذا المقطع ويعتبره وكأن السياب تحدث بإيمان وعقيدة كبدوي صحراوي ينتفض لحادث اغتصاب عابر!! هذا المقطع يشبه الى حد بعيد ما صوره الشاعر مظفر النواب عن فلسطين (أو الامة العربية عموما) كبغي يتناوب على اغتصابها "قراد الخيل" من شيوخ النفط وأصحاب السيادة والمعالي قبل أسيادهم الذين يستعمرون بلدانهم. أرى شخصيا بأن السياب، قد ظُـلم حتى في الوسط الأدبي الناضج وكذلك من قبل المقربين منه! وبإمكاننا ان نستقرئ موقف بدر الفكري من خلال الهامش الذي كتبه تحت هذا المقطع والذي جاء فيه:

" ضاع مفهوم القومية عندنا بين الشعوبيين والشوفينيين. يجب ان تكون القومية شعبية، والشعبية قومية. يجب جعل أحفاد محمد وعمر وعلي وأبي ذر والخوارج والشيعة الأوائل والمعتزلة يعيشون عيشة تليق بهم كبشر، وكورثة لأمجاد الأمة العربية. أفليس عاراً علينا نحن العرب ان تكون بناتنا بغايا يضاجعهن الناس من كل جنس ولون"

كيف لأي قارئ ان يستهجن هذا الموقف ويعزوه للبداوة والسلفية؟ أليس واضحا وضوح الشمس أن الرجل رفض الطائفية رفضا قاطعا ودعا الى وحدة الصف والتكاتف والبناء والعيش للجميع بما يصون كراماتهم وبما يليق بهم كبشر لهم ماض منير وتاريخ مشرف؟ نعم لقد دعا الى الوحدة ولكنها وحدة الشعب الاجتماعية وليست الوحدة السياسية الزائفة التي صدع بها رؤوسنا سياسيو القومية والبعث خلال الاربعينات والخمسينات.

ورغم ان علوش يقر بأن السياب كان "يرى الخلاص في النضال وفي الدم الحقيقي الذي يسيل ويستشهد بأبياته "وكل قطرة تراق من دم العبيد ، فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد"، إلا انه يراه قد تحول الى شخصنة النضال وفردانية الموت والعزوف عن الاشتراك في حركة التاريخ من دون ان يوضح لنا مبررات عجز السياب الجسدي والنفسي الذي عرفه القاصي والداني، العجز الذي يؤرقه ويؤلمه ولا يترك لديه إلا مشاعره الطافحة بالصدق:

فيدلهم في دمي حنين

إلى رصاصة يشق ثلجها الزؤام

أعماق صدري، كالجحيم يشعل العظام

أود لو عدوت أعضد المكافحين

أشد قبضتيّ ثم أصفع القدر

أود لو غرقت في دمي الى القرار

لأحمل العبء مع البشر

وأبعث الحياة ان موتي انتصار

كيف لأي قارئ ان يغض النظر عن صدق المشاعر هذا ونقائها والصراع الدامي المحتدم في ضمير الشاعر بين مشاعر الحماس للانغماس في النضال وبين خيبة الجسد واستحالة تحقيق ما تمور به الإرادة؟؟

 

في المثقف اليوم