قراءات نقدية

تكوّن الشعر العباسي (3): خلاصة الأدب العباسي.. أدب الحضارة والحداثة

mohamadtaqi jonرثاء المدن: أول من رثى المدن الشاعر إسحاق بن حسان المعروف بالخريمي (ت 212هـ) برثائه بغداد أثناء الفتنة بين الأمين والمأمون، وهي من (135) بيتاً، أوردها الطبري كاملة في تاريخه(92)، ومنها:

قالوا ولم يلعبِ الزمانُ ببغدادَ وتعثــــــــــــــــرْ بها عواثرُها

إذ هي مثلُ العروس باديها            مهوَّلٌ للفتى وحاضرُها

جنةُ دنيا ودارُ مغبطةٍ                   قلَّ من النائباتِ واترُها

فلم يزلْ والزمانُ ذو غيَرٍ              يقدحُ في ملكها أصاغرُها

حتى تساقت كأساً مثمَّلةً                من فتنةٍ لا يُقالُ عاثرُها

يا بؤسَ بغداد دارَ مملكةٍ               دارتْ على أهلها دوائرُها

بالخسفِ والقذفِ والحريق وبالحربِ التي أصبحتْ تساورُها

يحرقها ذا وذا يهدِّمها                  ويشتفي بالنهاب شاطرُها

والكرخ أسواقها معطلة                يستنّ عيَّارُها وعائرُها

والنفطُ والغازُ في طرائقها             وهابياً للدخان عامرُها

أما رأيت الخيول جائلةً                بالقوم منكوبة دوائرُها

تعثر بالأوجه الحســـــــــــــان من القتلى وغلَّت دماً أشاعرُها

يطأنَ أكبادَ فتيةٍ نجُدٍ           يفلق هاماتهم حوافرُها(93)

 وقد فتح باب رثاء المدن لمن بعده كرثاء ابن الرومي (ت 283هـ) البصرة حين استباحها وأهلها الزنج، وهو يستهلها بالقول:

ذادَ عن مُقْلِتي لذيذَ المنامِ       شُغلُها عنهُ بالدموعِ السجامِ

أيُّ نومِ من بعد ما حلَّ بالبصْــــرَةِ من تلكمُ الهناتِ العظامِ

أيُّ نومٍ من بعد ما انتهكَ الزّنْــــــجُ جهاراً محارمَ الإسلامِ(94)

وخلال حكم الموحدين في الأندلس ازدهر فن رثاء المدن ازدهارا كبيرا، بعدما قويت شوكة الأسبان وصاروا يستعيدون المدن الاسبانية الواحدة تلو الأخرى، حتى ظـُنَّ أن الأندلسيين هم اخترعوا هذا الفن، والحقيقة إنهم ساروا على هدي الخريمي.

الهجاء الساخر

  أول من فتح باب الهجاء الساخر ابن الرومي. وراح يؤسس لمعاني هذا الهجاء فوجدها في الأمور الخَلقية، وفي العادات، والطباع ومن هجائياته الساخرة قوله:

وجهك يا عمرو فيه طولُ       وفي وجوه الكلاب طولُ

مقابحُ الكلب فيك طرّاً       يزولُ عنها ولا تزولُ

وفيه أشياءُ صالحاتٌ       حَماكَها الله والرسولُ

فيه هريرٌ وفيه نبحٌ       وحظُّهُ الذلُّ والخمولُ

والكلب وافٍ وفيك غدرٌ       ففيك عن قدْره سُفولُ

وقد يحامي عن المواشي       وما تحامي ولا تصولُ

وأنت من أهلِ بيْتِ سوءٍ       قصتُهم قصةٌ تطولُ

وجوهُهم للورى عِظاتٌ       لكن أقفاءهم طبولُ(95)

وصف حياة القاع

 تميز ابن الرومي بوصف حياة الناس الفقراء الذين يعيشون في قاع المجتمع، وليس سطحه الطافي المشرق الذي يعيشه الخلفاء العباسيون وأتباعهم. وهذه الطبقة التي وصفها ابن الرومي هي الساحقة المسحوقة، لذا احتل ابن الرومي مكانة شعبية كبيرة. وبالفعل تدل موصوفاته على أن فنه قائم على العيان والمشاهدة(96). من أوصافه حركة الخباز السريعة الرتيبة وهو يفرش كرة العجين في الهواء لتصبح قرصة ثم يدحوها في تنوره:

ما بين رؤيتها في كفه كرةً            وبين رؤيتها قوراءَ كالقمر

إلا بمقدارِ ما تنداح دائرةٌ       في صفحة الماء يرمَى فيه بالحجر(97)

وقوله يصف حمالاً وسوء حاله:

رأيتُ حمَّالاً مُبينَ العمى       يعثر بالأكْم وفي الوَهْدِ

مُحتَمِلاً ثِقْلاً على رأْسه       تضعُفُ عنه قُوَّةُ الجَلْدِ

بين جِمَالات وأشباهِها           من بَشَرٍ نامُوا عن المجْدِ

أضحى بأَخْزى حالةٍ بينهم       وكلُّهم في عيشةٍ رغْدِ

وكلهم يَصْدِمُه عامداً             أو تائهَ اللُّبِّ بلا عمدِ

والبائسُ المسكِينُ مستسْلِمٌ       أذلُّ للمكروه من عبْدِ

وما اشْتهى ذاك ولكنَّه          فرَّ من اللُّؤْم إلى الجَهْدِ(98)

وجرى على طريقته جحظة البرمكي (ت 324هـ) فمثل حياة الشعب التعسة(99)، وكذلك شعراء الكدية.

وصف القصور والبرك والعمران

من الموضوعات التي أدخلتها الحضارة والعمران وصف المدن والقصور والبرك والنافورات وغيرها. وممن كتب في ذلك ابن عيينة وعلي بن الجهم. وتوسع البحتري وتميز في ذلك. وقد وصف عمران مدينة المتوكلية، وحصن الجعفري، وقصري الصبيح والمليح، وبركة قصر المتوكل، وغير ذلك. ومن وصفه لحصن الجعفري:

فَرَفَعتَ بُنياناً كَأَنَّ زُهاءَهُ             أَعلامُ رَضوى أَو شَواهِقُ صَنبَرِ

أَزرى عَلى هِمَمِ المُلوكِ وَغَضَّ مِن       بُنيانَ كِسرى في الزَمانِ وقَيصَرِ

عالٍ عَلى لَحظِ العُيونِ كَأَنَّما       يَنظُرنَ مِنهُ إِلى بَياضِ المُشتَري

مَلأت جَوانِبُهُ الفَضاءَ وَعانَقَت       شُرُفاتُهُ قِطَعَ السَحابِ المُمطِرِ

وَتَسيرُ دِجلَةُ تَحتَهُ فَفَناؤُهُ             مِن لِجَّةٍ غَمرٍ وَرَوضٍ أَخضَرِ(100)

ومن وصفه البركة:

يا مَن رَأى البِركَةَ الحَسناءَ رُؤيَتَها  وَالآنِساتِ إِذا لاحَت مَغانيها

بِحَسبِها أَنَّها مِن فَضلِ رُتبَتِها         تُعَدُّ واحِدَةً وَالبَحرُ ثانيها

ما بالُ دِجلَةَ كَالغَيرى تُنافِسُها         في الحُسنِ طَوراً وَأَطواراً تُباهيها

كَأَنَّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً           مِنَ السَبائِكِ تَجري في مَجاريها

إِذا النُجومُ تَراءَت في جَوانِبُها       لَيلاً حَسِبتَ سَماءً رُكِّبَت فيها(101)

 وقد أصبح وصف القصور ولواحقها شائعاً مزدهراً في القرون التالية وانتقل ذلك إلى شعراء الأندلس.

الشعر التسجيلي

 وهو الشعر الذي يسجل أحداثاً تاريخية، أو معارك وبطولات مختلفة، أو غير ذلك بشكل متسلسل(102). وقد يكتب على شكل الشطرين بالقافية الموحدة، أو على شكل المزدوج وهو الغالب. ومهما حاول الشاعر أن يرتفع بهذا النمط فنياً فإَّن تقيّده بقضايا ذات طابع نثري تمنعه من التحليق وتبقيه في أرضية التسجيل المجرد. ولا تعدُّ من هذا النمط الأشعار التي تستخدم التاريخ كأشعار لأبي تمام، أو تؤرخ لأحداث باللمحة الشعرية وليس بالشرح والتسلسل التاريخي كشعر المتنبي المؤرخ. وللمتنبي قصيدة جغرافية سجل فيها أسماء الأماكن التي مرَّ بها هارباً من مصر إلى العراق، ولكنه لم يسجل المناطق تسجيلا جافا بل استخدم آليات فنية وجمالية وهذا لا يتاح إلا لشاعر كبير(103). ومن الشعر التسجيلي مزدوجة علي بن الجهم التي أرَّخ فيها منذ ابتداء الخلق إلى خلافة المستعين وهي في (335) بيتاً، ومزدوجة ابن المعتز في خلفاء بني العباس في (418) بيتاً، ومنها:

هَذا كِتابُ سِيَرِ الإِمامِ               مُهَذَّباً مِن جَوهَرِ الكَلامِ

أَعني أَبا العَبّاسِ خَيرَ الخَلقِ       لِلمَلكِ قَولُ عالِمٍ بِالحَقِّ

قامَ بِأَمرِ المُلكِ لَمّا ضاعا          وَكانَ نَهباً في الوَرى مُشاعا

وَكُلَّ يَومٍ مَلِكٌ مَقتولٌ               أَو خائِفٌ مُرَوَّعٌ ذَليلُ

وَكُلَّ يَومٍ شَغَبٌ وَغَصبُ          وَأَنفُسٌ مَقتولَةٌ وَحَربُ

وَلَم يَزَل ذَلِكَ دَأبَ الناسِ         حَتّى أُغيثوا بِأَبي العَبّاسِ(104)

شعر الابتسامة

أضافه كل من الحمدوني (ت 260هـ)  وأبي حُكيمة (240هـ) ففتحا باب الشعر الظريف أو (شعر الابتسامة) الذي لا يهدف إلى التجريح كالهجاء الساخر، بل إلى النكتة والطرافة المضحكة. وقد استفرغ الحمدوني شعره في وصف طيلسان أحمد بن حرب، وشاة سعيد، وفقر الحرزي، وإبط قـُرب جارية البرامكة، وقبح أبي حازم. كل ذلك في قالب شعري اختص به، يقوم على توليد المعاني الشعورية العميقة، وتنبيه الذاكرة على المواقف الضاحكة. ومن قوله في طيلسان بن حرب:

يا ابن حربٍ كسوتني طيلساناً         ملَّ من صحبةِ الزمان وصدَّا

فحسبنا نسجَ العناكب لو قِيس إلى ضعف طيلسانكَ سدَّا

إن تنفستَ فيه ينشق شقاً         أو تنحنحتَ فيه ينقدُّ قدَّا

طالَ تردادُه إلى الرفو حتى         لو بعثناهُ وحدَه لتهدَّى(105)

ومن وصفه لشاة سعيد:

أيا سعيدُ لنا في شاتك العِبَرُ         جاءتْ وما إنْ لها بَولٌ ولا بَعَرُ

وكيف تبعرُ شاةٌ عندكم مكثتْ         طعامُها الأبيْضان: الماء والقمَرُ

لو أنّها أبصرتْ في نومها عَلَفاً         غنّت له ودموع العين تنحدرُ

يا مانعي لذَّةَ الدنيا بأجمعها         إنّي لَيُقنعني من وجهك النظرُ(106)

  واستفرغ راشد بن اسحاق الكاتب (أبو حُكيمة) شعره في وصف العِنَّة والعجز الجنسي فجاء بأعاجيب المضحكات والنوادر، وللتحرج من هذا الموضوع انصرف الكتاب القدامى والباحثون المحدثون عن تدوين هذا الشعر وجمعه فبقي منه القليل.

وصف الطبيعة

 أول شاعر اختص بوصف الرياض وتفنن فيها هو الصنوبري (ت 334هـ). فأكثر أشعاره في وصف الرياحين والأنوار، ومناظر الزهر والشجر والغدران والأنهار(107)، فاتحاً باباً جديداً من شعر الوصف خاصاً بالطبيعة. وقد قلده الشعراء العباسيون. وتوسع الأندلسيون فيه لتميز طبيعتهم. وتتجلى عظمة فن الصنوبري في تعبيره اللفظي المتمثل بتلوين وتنويع الكلمات ونشرها وكأنه يحاكي بها الأشكال والأنواع التي يصورها في شعره. وتأتي ألفاظه منسجمة من معانيه الدالة بدقة عن مكامن التصوير، بحيث لا يحس القارئ إلا بالطبيعة حية أمامه. ومن شعره الطبيعي:

يومٌ ذيولُ مُزنِهِ       على الثرى مُنسَحِبَهْ

بروقهُ سافرةٌ       وشمسه منتقبه

والرعدُ في أرجائه       ذو ألسنٍ مصطخبه

بين رياضٍ كلّها       في حُللٍ مُكتَّبه

فروضةٌ مشرقة       وروضةٌ ملتهبه

تذهبُ منها العينُ في       مثلِ الحليِّ المذهَّبه

أكرم به يوماً مضتْ       ساعاته المستعذبه

كلحظةٍ مخلوسةٍ       وقبلةٍ مُسْتَلَبه(108)

وقوله:

أما الرياضُ فَعِشقُها عِشْقُ       لم يبقَ فيَّ لغيرها طُرْق

زَهْرُ الرياضِ إذا هي ابتسمتْ       تدعو فيسرعُ نحوها الخَلقُ

فتظلُّ تنطقُ وهي ساكتةٌ       إنَّ الرياضَ سكوتُها نُطْق(109)

وصف المعركة

 أضاف المتنبي في القرن الرابع فن التصوير الحربي إلى الشعر العربي بمهارة عجز عن تحقيقها غيره، فإذا قرأت حربياته فكأنك تنظر إلى فيلم سينمائي حي، وقد قام المتنبي بدور المصور (Cameraman). قال ابن الأثير "إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا"(110). وقال الشاعر النامي يذكر ابتداعه هذا الفن:" كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي"(111). ومن حربياته قوله:

عُقبى اليَمينِ عَلى عُقبى الوَغى نَدَمُ       ماذا يَزيدُكَ في إِقدامِكَ القَسَمُ

فَلَم تُتِمَّ سَروجٌ فَتحَ ناظِرِها       إِلا وَجَيشُكَ في جَفنَيهِ مُزدَحِمُ

وَالنَقعُ يَأخُذُ حَرّاناً وَبَقعَتَها       وَالشَمسُ تَسفِرُ أَحياناً وَتَلتَثِمُ

جَيشٌ كَأَنَّكَ في أَرضٍ تُطاوِلُهُ       فَالأَرضُ لا أُمَمٌ وَالجَيشُ لا أَمَمُ

إِذا مَضى عَلَمُ مِنها بَدا عَلَمٌ       وَإِن مَضى عَلَمٌ مِنهُ بَدا عَلَمُ

صَدَمتَهُم بِخَميسٍ أَنتَ غُرَّتُهُ       وَسَمهَرِيَّتُهُ في وَجهِهِ غَمَمُ

فَكانَ أَثبَتَ ما فيهِم جُسومُهُمُ       يَسقُطنَ حَولَكَ وَالأَرواحُ تَنهَزِمُ

وَالأَعوَجِيَّةُ مِلءَ الطُرقِ خَلفَهُمُ       وَالمَشرَفِيَّةُ مِلءَ اليَومِ فَوقَهُمُ

إِذا تَوافَقَتِ الضَرباتُ صاعِدَةً       تَوافَقَت قُلَلٌ في الجَوِّ تَصطَدِمُ(112)

الشعر الفلسفي

 على الرغم من اختلاف الطبيعتين، فقد تعاطى الشعر مع الفلسفة وبالعكس، فثمة تأثر وتأثير متبادل بين الاثنين، إذ يوجد شعراء فلاسفة كالمتنبي والمعري، وفلاسفة شعراء كابن سينا والفارابي. ولكن سيختلف تركيز الأدب والفلسفة في أعمالهم؛ فابن سينا في أشعاره التي طرزها بالفلسفة اقرب إلى الأدب منه إلى الفلسفة المحضة في كتابه الفلسفي (الإشارات). والشعر الفلسفي هو الذي فيه تأمل فلسفي او فكرة نظرية شاملة في قضية من قضايا الفكر. وتأتي الفلسفة في قصيدة كاملة كقصيدة ابن سينا عن النفس من (19) بيتاً، ومنها:

هبطت إليك من المحل الأرفع         ورقاء ذات تعزز وتمنعُ

محجوبة عن كل مقلة عارفٍ         وهي التي سفرت ولم تتبرقعُ

وصلت على كره إليك وربما         كرهت فراقك فهي ذات تفجعُ

أنفت وما أنست فلما واصلت         ألفت مجاورة الخراب البلقعُ

وأظنها نسيت عهوداً بالحمى         ومنازلاً بفراقها لم تقنعُ

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها         عن ميم مركزها بذات الأجرعُ

علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت                 بين المعالم والطلول الخضعُ(113)

كما تأتي الفلسفة أفكاراً جزئية أو حكمة ضمن القصائد. والحكمة معروفة في الشعر الجاهلي والإسلامي، إلا انها صارت مقصودة ومطلوبة أكثر في العصر العباسي، ولاسيما حين صارت الشعوب التي امتزجت بالعرب تتفاخر بحكمتها عمقاً وكثرة كالهنود والفرس. ويقال: إن صالح بن عبد القدوس نقل ألف حكمة عربية والف حكمة فارسية. ونقل أبو نواس حكمة قالها كسرى:

كَقَولِ كِسرى فيما تَمَثَّلَهُ       مِن فُرَصِ اللِصِّ ضَجَّةُ السوقِ(114)

  وكان للفلسفة والمنطق تأثيرهما في الشعر مما جعل البحتري يثور على الشعراء المتمنطقين المتفلسفين لان الشعر يقوم على اللمح، والفلسفة تقوم على الشرح وشتان بينهما، قال البحتري:

كَلَّفتُمونا حُدودَ مَنطِقِكُم       في الشِعرِ يُلغى عَن صِدقِهِ كَذِبُه

وَالشِعرُ لَمحٌ تَكفي إِشارَتُهُ       وَلَيسَ بِالهَذرِ طُوِّلَت خُطَبُه(115)

ويتصل بهذا ما أسماه شوقي ضيف (طوابع عقلية)(116) وهي الأفكار التي ألقت ظلالها في الشعر، فنحن نجد أفكاراً في الهندسة، والفيزياء، والرياضات، وغيرها. ومنها ابن المعتز في مبدأين فيزياويين: التجزيء والتناهي:

يا قَومُ إِنّي مُرَزّا       وَكُلُّ حُرٍّ مُرَزّا

خَرجٌ كَثيرٌ وَدَخلٌ       نَزرٌ فَلِم لا أُعَزّى

فَالخَرجُ لا يَتَناهى       وَالدَخلُ لا يَتَجَزّا(117)

الشعر الصوفي

 هو الشعر الذي كتبه المتصوفة لنشر أفكارهم الصوفية، أو في تواجدهم وغيبوباتهم العرفانية. وكان شعرهم أقرب الى الدعاية منه إلى الفن الأصيل. ومن شعراء المتصوفة البارزين ابن الفارض والسرقسطي والحلاج. وللحلاج أبيات شهيرة تمثل هذا الشعر خير تمثيل وهي:

أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا       نَحنُ روحانِ حَلَنا بَدَنا

نَحنُ مُذكُنّا عَلى عَهدِ الهَوى       تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا

فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ       وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا

أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا       لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا

روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ       مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا(118)

وفضلا عما ذكرنا ومثلنا له، ظهرت أغراض كثيرة في العصر العباسي الطويل الزمن مثل: شعر الشكوى، الشعر الشيعي، شعر الثورات، شعر المراسلات والمهاداة، شعر الاخوانيات، شعر العتاب، شعر الألعاب كالشطرنج والنرد، وصف الأماكن كالحمامات، وصف الآلات والمهن المختلفة، شعر الأحاجي والألغاز، شعر التأذي من البق ونحوه، وغيرها كثير.

ما نقل من الشعر الفارسي إلى الشعر  العربي

ولادة الشعر الفارسي

 قبل أن نتكلم على ما نقله الشعراء العباسيون من الشعر الفارسي، نتكلم باختصار عن نشوء الشعر الفارسي الإسلامي في إيران.

لم يكن للإيرانيين شعر قبل الفتح الإسلامي، سوى ما ورد في كتاب النبي الكردي زرادشت (الأﭭستا)(119) وهي (ﮔاتها) العظات، ومقطوعات أخرى تسمى (يشت) و(يسنا) و(ونديداد)(120)، فضلا عن مقطوعات غير دينية ضاعت أو اختفت بعد الفتح. وكشفت الدراسات الحديثة عن وجود مقطوعات بالفهلوية الاشكانية مثل كتاب (بندهشن)  و(آياذﮔار زريران)، وبالفهلوية الساسانية مثل كتاب (جاماسب نامك)(121). و(أشعار العجم) هذه تشبه نشيد الإنشاد ومزامير داود في أنها لا تقوم على أساسات شعرية واضحة وثابتة كأساسات الشعر العربي، بل تعتمد على طريقة القراءة، وموسيقى داخلية كالتي في الشعر المنثور، وفيها لغة شعرية مميزة، وتحتوي على عناصر غنائية كثيرة، ولكن مضمونهما ليس شعراً، وقيمتهما الأدبية في البساطة وعفوية اللغة وليس في الصنعة الأدبية(122).

ولم ينشأ شعر فارسي بمعنى الكلمة إلا عندما حصلت إيران على استقلالها السياسي بقيام دويلات منفصلة عن الخلافة (123). وقد بنوه على أسس الشعر العربي المعروفة: الوزن والقافية والشطرين واللغة الشعرية، واتخذوا من الخط العربي أداة له (124). وذلك أن الدويلات المستقلة جعلت إنشاء شعر فارسي من ضمن أهدافها ليكون لها استقلال ثقافي فضلا عن الاستقلال السياسي. فوضعت الدولة الطاهرية أساس الشعر الفارسي، ونمَّته الدولة الصفارية في بلاطاتها بأمر من يعقوب الصفار بعدما تبرم بمدحه بالشعر العربي الذي لا يفهمه (125). ثم جاء السامانيون فأوصلوه إلى قمته ومنحوه الصبغة القومية التي تجلت بظهور الملاحم (الشاهنامات) (126).

 وكانت البداية حين التجأ المأمون إلى إيران بعد تولي أخيه الأمين الخلافة بسبب الخلاف بينهما، فمدحه أحد شعراء الفرس وهو (أبو العباس المروزي) (ت200هـ) بقصيدة منظومة باللغة الفارسية، ومنها:

كَس برين منوال ﭙيش از من ﭽنين شعري نـﮔفت

مر زبان ﭙارسي را هست تا اين نوع بين

ليك زان ﮔفتم من اين مدحت ترا تا اين لغت

ﮔيرد از مدح وثناء حضرت تو زيب وزين(127)

الترجمة:

لم يقل أحد قبلي شعراً على هذا المنوال/ فاللغة الفارسية، منذ كانت تختلف عن هذا النوع/ ولكني قلت لك هذه المدحة حتى تأخذ هذه اللغة/ حسنها وجمالها من مدحك والثناء عليك. ونجد قريباً من هذا التاريخ أشعاراً فارسية كتبها أبو نواس مثل قوله على بحر المجتث يذكر أعياد الفرس:

والمهرجان المدارِ

لوقته الكرارِ

والنوكروز الكبارِ

وجشن جاهنبار

وآبساڵ الوهارِ

وخرَّه ايران شارِ(128)

ويرى بعض مؤرخي الأدب الفارسي أن أول شاعر كتب شعراً فارسياً (حنظلة البدغيسي) (ت229هـ) في الدولة الطاهرية، وذهب آخرون إلى أنه ابن الوصيف السجزي (ت بعد 278هـ) في الدولة الصفارية(129). ولم يكن الدنماركي (كريستنس) مصيباً حين عدَّ ظهور الشعر الفارسي في أواسط المائة الأولى الهجرية، مستنداً إلى نص ورد في تاريخ الطبري ينسب إلى الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري (ت 69هـ) وهو إن أهل خراسان كانوا يسألون يزيدَ (إين چيست) يعني: ما هذا؟ فيجيبهم:

(آب است ونبيذ است. عصارات وزبيب است. سمية روسبيد است). أي: هذا ماء ونبيذ، وعصارات الزبيب، وسمية وجهها أبيض(130). وهذا لا يعدُّ شعراً، لأنه قيل على السليقة، وغير مضبوط على أسس شعرية.

 ولم يعترف الجاحظ بالشعر الفارسي الناشئ في إيران فقال: " وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب"(131). وتسقيطه الشعر الفارسي الإسلامي من عدد حربه للشعوبية. على انه أشر للعجم ما يشبه الشعر وهي أغانٍ بمنزلة الشعر في كلام العرب(132). وأنكر نشوان الحميري وجود مقاربة أو مشابهة بين هذا الشكل الشعري والشعر العربي بقوله "وللعرب الشعر الذي لم يشاركهم فيه احد من العجم، وقد سمعت للعجم كلاماً حسناً، وخطباً طوالاً يسمونها أشعاراً، فأما أن يكون لهم شعر على أعاريض معلومة وأوزان معروفة، إذا نقص منها حرف أو زاد حرف، أو ترك ساكن أو سكن متحرك، كسره وغيَّره، فليس يوجد إلا للعرب خاصة دون غيرهم"(133).

 وللتمهيد لبناء شعرهم الفارسي أعادوا تشكيل لغتهم الفارسية، فأغنوها وجملوها باللغة الفهلوية (الكردية القديمة)، والعربية " لأنَّ الفارسية الخالصة كريهة معيبة"(134). وكثرة المفردات العربية تعد ظاهرة في الشعر الفارسي؛ فالحاجة إلى مفردات عربية تزيد من أجل القافية لثراء العربية وفقر الفارسية في توفير قواف كثيرة؛ فقصيدة ظهير الدين الفارابي تتألف من (37) بيتاً جاء فيها (28) قافية عربية مثل: حور، مقدور، معمور، قصور، مغرور، طيور، ديجور...(135). كما تزداد الحاجة إلى العربية لإجراء الصناعات البديعية، لسعة نطاق اللغة العربية وكثرة المترادفات فيها، وهو ما لا تقوم به اللغة الفارسية(136). 

 ولكنهم لم يقفوا على حدود قواعد الشعر الجاهلي، وتقليد ما ينتجه الشعر العربي، بل راحوا يكوِّنون لهم خصوصية وتفرداً، فكتبوا مع الوقت شعراً لا تمله الأسماع ولا تعافه الطباع(137) . في العروض، أخذوا المصطلحات العربية نفسها، وكتبوا على (11) بحراً وأهملوا خمسة هي: الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل. وأضافوا ثلاثة بحور خاصة بهم هي: الغريب، القريب، المشاكل(138) فأصبح لديهم (14) بحراً. وأضافوا (23) زحافاً إلى الزحافات العربية التي تخلَّو عن بعضها(139). وغيروا في طبيعة بعض البحور فالرمل في العروض العربي سداسي وفي عروضهم ثماني. ومن ناحية الموضوعات أخذ الفرس الأغراض العربية نفسها، وأضافوا إليها: الشعر الملحمي، شعر القصور، شعر السؤال والجواب، الشعر المصحَّف، الشعر المعمّى ، شعر الألغاز، والشعر الملمع...(140). ومن ناحية الشكل كتبوا بنظام الشطرين، وكتبوا المزدوج الذي ابتدعه أبان اللاحقي وسموه المثنوي، وأكثر شعرهم ومطولاتهم عليه، وهم يعدونه طفرة في كتابة الشعر لأنه ينسجم مع طبيعة اللغة الفارسية الضيقة بالمفردات والقوافي. وكتبوا المدور وهو أن ينظم الشاعر ما يمكن قراءته من أي طرف، والمربع وهو أن ينظم الشاعر أربعة أبيات أو أربعة مصاريع ممكن قراءتها طولياً او عرضيا(141) وغيرها.

وبعد الاعتراف المحلي والعربي بالشعر الفارسي جاءت مرحلة الاعتراف به عالمياً، فصاحب كتاب (تراث الإسلام) اختار شعراء فرساً كالفردوسي وحافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي ممثلين للشعراء المسلمين. ولأصالة ونباهة بعض ما أنتجه الشعر الفارسي قام العرب بنقله إلى الشعر العربي فاشتهر، ولاسيما في القرون المتأخرة من العصر العباسي. ومما نقل من الشعر الفارسي إلى الشعر العربي:

الدو بيت

 وهو فن فارسي أصيل (142) يدل عليه اسمه الفارسي (دو بيت = بيتان). وهو شكل ووزن، ويسميه بعضهم الرباعي. يقوم على بيتين فقط، ويركز فيهما الشاعر المعنى تركيزاً فيختزل قصيدة طويلة. ومخترعه أبو عبد الله جعفر بن محمد بن عبد الرحمن بن آدم بن حكيم السمرقندي الرودكي (ت 329هـ) في أواخر القرن الثالث الهجري(143). وتبعة فيه الشعراء الفرس كعمر الخيام وعبد الرحمن الجامي(144). وانتقل الى الشعر العربي في القرن السادس، فكتبه العماد الأصفهاني (597هـ) ابن النبيه (ت 619هـ)، ابن الفارض (ت 632هـ)، ابن مطروح البلنسي (ت 635هـ) البهاء زهير (ت 656هـ). وزاد الافتتان به في العصور المتأخرة.

أوزانه عند الفرس كثيرة نحو (20) وزناً، وعند العرب أكثر من وزن. وجاء في كتاب فنون الشعر الفارسي: إن أوزانه اشتقت من الهزج (مفاعيلن مفاعيلن)، بينما أوزانه التي في الشعر العربي بعيدة جداً عن الهزج وأشهرها (فعلن متفاعلن فعولن فعلن)، مما يرجح أمرين: وجود أوزان أخرى ليست من الهزج نقلها العرب، أو أن العرب نقلوا شكله (دوبيت = بيتين) وتصرفوا في الوزن. من الدوبيتات العجمية قول بابا طاهر عريان:

موآن أسپيده بازم همداني     لانه در كوه دارم در نهاني

ببال خود برم كوهان يكوهتن                 بچنگ خود كرم نخچير باني(145)

الترجمة:

أنا ذلك البازي الأبيض الهمذاني/ ولي عش خفي في الجبل/ أطير بجناحي من جبل إلى جبل/ وأقبض بمخالبي على صيدي.

 ومن دوبيتات ابن الفارض:

أهوى قمراً له المعاني رقُّ         من صبح جبينه أضاء الشرقُ

تدري بالله ما يقول البرقُ         ما بين ثناياه وبيني فرقُ

*

روحي لك يا زائرَ الليل فدا   يا مؤنس وحدتي اذا الليل بدا

ان كان فراقنا مع الصبح بدا لا أسفر بعد ذاك صبحٌ أبدا(146)

 المسمط

  ترجع بدايات المسمط إلى العصر العباسي الأول (قبل عام 170هـ) وهي سنة وفاة الفراهيدي؛ لأنه عرَّفه في كتابه (العين) بقوله " الشِّعر المُسَمَّط: الذي يكونُ في صدر البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مُقَفّاة تجمعُها قافية مخالفةٌ لازمةٌ للقصيدة حتى تنقضي(147). ولاشكَّ أن بشار بن برد أو أحد شعراء الفرس من جيله اكتشفه. وأورد شوقي ضيف لأبي نواس مسمطتين واحدة رباعية والأخرى خماسية(148) وهما غير موجودتين في ديوانه. وذكر ابن رشيق نظم بشار لبعض المخمسات دون إيرادها(149). ويبدو أن هذا الجيل جوبه بالرفض الشديد لهذا الشكل من المؤسسة المحافظة مما حداه إلى كتابة مسمطتين ونحلهما إلى امرئ القيس، وقد أنكرها المعري بشدة على لسان امرئ القيس"(150). وقراءة دواوين العباسيين الأوائل تؤكد أنهم عافوه، لانَّ السليقة العربية المهيمنة لا ترتاح لغير القافية الموحدة. ولكنه لاءم السليقة الأعجمية فتلقفه شعراء الفرس فصار بمنزلة الأصيل لهم بعدما كسد عند العرب. وهم يكتبونه خماسياً وسداسياً. وأول من كتب المسمطات من الفرس الحكيم أبو النجم أحمد بن يعقوب الدامغاني المنوچهري (ت 432هـ)(151)، في نهاية القرن الرابع الهجري. ومن مسمطاته:

خيزيد وخز آريد كه أيام خزانست           باد خنك از جانب خوارزم وزانست

آن برك زرانست كه برشاخ رزانست      گوني بمثل پيرهن رزانست

دهقان بتعجب سر انگشت گزانست          كاندر چمن باغ نه گل ماند ونه گلنار(152)

ونقله الشعراء العرب (وهو بضاعتهم ردت إليهم) فشاع هذه المرة ونجح شكلا شعرياً، ولاسيما بعد نزول الشعر العربي من قمته ومجيء شعراء لا يملكون النفس العربي الطويل، ومن المسمطات العربية قول أبي المعالي ابن مسلم الشروطي البغدادي (ت بعد 545هـ):

يا ريمُ كم تجنّى         لِمْ قد صددتَ عنّا

صِل عاشقاً مُعنّى      بالوصلِ ما تهنّا

حتّامَ يا غزالُ         ذا التّيهُ والدّلالُ

والصّدُّ والمَلال        ُأفنى وليس يَفْنى

 المستزاد

 وهو زائدة موزونة لا يستوجبها المعنى أو الوزن، وتقفى هذه الزوائد مع بعضها في معنى متصل. وهو من اختراعات العجم، وقد أكد ذلك عبد الحي الحسني في كتابه (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر). ومن المستزاد في الشعر الفارسي قول ابن حسام الهروي:

آن كيست كه تقرير كند حال گدارا           در حضرت شاهي

كز غلغل بلبل چه خبر باد صبارا            جز ناله واهي

الترجمة:

من ذا الذي يستطيع وصف حالة الفقير - في حضرة السلطان/ وأي خبر لرياح الصبا عن صوت البلبل – سوى انه نواح وآهات.

ومن الشعراء العرب الذين كتبوا المستزاد الحريري (540هـ) كقوله في المقامة الشعرية:

يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى               (وقرارة الأكدارِ)

دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غداً            (بعداً لها من دارِ)(153)

فهي تقرأ أيضاً بغير الزوائد ولا تيأثر المعنى:

يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى

دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غدا

ويسميه العروضيون أيضاً (التشريع).

الملمع

 وهو شعر يجمع لغتين مختلفتين. والتسمية مأخوذة من اللغة فـ" كل ذي لونين من ثوب أو غيره فهو ملمع، ومنه الفرس الملع وهو الذي فيه سواد وبياض"(154). ابتدعه الشعراء الفرس جامعين في القصيدة الواحدة بين اللغتين العربية والفارسية لإثبات القدرة على التمكن والإبداع بهما. وازداد إقبال الشعراء الفرس على الملمع مع الزمن، ولم يقتصروا على التلميع بالعربية بل لمعوا بالتركية ايضاً. ومن الملمعات الفارسية قول رابعة القزدارية:

شاقني نائح من الأطيار                هاج سقمي وهاج لي تذكاري

دُوش بَر شاخك دَرخت آن مرغ     نوحه ميكَرد وميگر يست بزاري

قلتُ للطير: لمْ تنوحُ وتبكي            في دجى الليل والنجوم دراري

مَ جدايم زيار أز آن مِي نالم          تو چه نالي كه با ساعد باري(155)

ترجمة البيتين 2، 4: بالأمس على غصن شجرة كان ذلك الطائر ينوح ويبكي مولولاً/ إنني أئنُّ لمفارقتي حبيبي، فما أنينك وأنت في رفقة الحبيب؟!

 وجاء التلميع في الشعر العربي لدى الشعراء الفرس الكاتبين بالعربية، كأبي نواس وابن حجاج، وبديع الزمان الهمذاني، كما في قوله:

قرَّة عيني (بذكا)      محبتي أي فلكا

تريد أن تقتلني                  نه دُرُست كردي دِلَكا(156)

الترجمة الأبيات: أنت قرة عيني يا (بذك) ومحبتي يا فلك!/ تريد قتلي؟ فعلك غير صحيح يا قلبي.

وللشاعر الكردي (أنوشروان) الملقب بـ(شيطان العراق) قصيدة في هجاء مدينته أربيل ومواطنيه العرب والكرد. وهي ملمعة باللهجة العامية العراقية (ستة أبيات) بعد الأبيات الفصحى، ثم باللغة الكردية (ثلاثة أبيات). وقد اعتذر في قصيدة لاحقة عن هذا الهجاء(157). ولم نجد لشعراء عرب ملمعات؛ ربما لعدم إجادتهم لغة أخرى أو لصعوبة الإبداع بهذا الشكل. وازدهر الملمع في العصور المتأخرة بسبب الاحتلالات الأجنبية وتفشي لغاتهم. كما اشتهر في العصر الحديث، ومن شعرائنا المعاصرين الذين كتبوا الملمع الشاعر الكردي (بي كه‌س) فجمع بين العربية والكردية، والشاعر موفق محمد وجمع بين الفصحى والعامية.

شعر الكدية

 وهو شعر إيراني المنشأ، قديم في ثقافتهم وأدبياتهم، وهم يسمونه الشعر الساساني "نسبة الى ساسان، وهو شخص من بيت ملكي قديم في فارس يقال أنَّ أباه حرمه الملك، ويقال انه كان ملكاً واغتصب ملكه الملك دارا، فهام على وجهه محترفاً الكدية، وهي أسطورة"(158).

 شاع هذا الشعر في ايران دون العراق، وكتب على غراره شعراء عجم كالاحنف العكبري، وعرب كأبي دلف الخزرجي (مسعر بن مهلهل الخزرجي الينبوعي) الشاعر الرحالة. ومن وحيهم اخترع بديع الزمان الهمذاني فن المقامة التي اتخذت موضوع الكدية خلفية أدبية لغرضها اللغوي التعليمي. وقد استعار شعراً لأبي دلف في المقامة الأولى (القريضية). وهو صاحب القصيدة الساسانية (195) بيتاً في المناكاة(159) وذكر المكدين والتنبيه على فنون حرفهم وأنواع رسومهم وذكر ألاعيبهم، وتشتمل على مجموعة كبيرة من المصطلحات والكلمات الأعجمية الخاصة بأهل الكدية(160) وقد ترجمها الثعالبي مع القصيدة. وكان الصاحب بن عباد يحفظها ويعجب بها. ومنها:

على أني من القوم البهاليل بنى الغرِّ

بنى ساسان والحامي الحمى في سالف العصرِ

فمنا كل كمّاذٍ اللبوسات مع الهرِّ

ومن درْوزَ أو حرَّزَ أو كوَّزَ بالدَّغر

ومن درّع أو قشّع أو دمّع في القرِّ

ومن رعّسَ أو كبّسَ أو غلّسَ في الفجرِ

ومن شطَّب أو ركَّب للضربات والعقرِ

ومن مَيْسَر أو مَخْطَر واستنغَزَ للثغرِ

ومن رشّ وذو المكوى         ومن درمَكَ بالعطرِ

ومن دكّكَ أو فكّكَ أو بلْغكَ بالحر(161)

ومما انتقل من الشعر الفارسي إلى الشعر العربي أيضاً: (صنعة المردف)، (صنعة المتلون)، (فن بوقلمون)، (الترجمة) (السؤال والجواب)، (المدور) (المربع). ويلاحظ ان الفنون المنقولة من العجم شكلية، ليست ذات قيمة شعرية كبيرة. ويبقى شكل القصيدة ذات الشطرين والقافية الموحدة الأنسب في كتابة الشعر العربي على مر العصور.

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون

.............................

هوامش المبحث الثاني

 (1) ديوان ابن المعتز: 354.

(2) شرح ديوان المتنبي: 4/ 15.

(3) العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ابن رشيق القيرواني: 1/236.

(4) ينظر: شرح ديوان المتنبي، عبد الرحمن البرقوقي : 4/ 69.

(5) الشعر والشعراء، ابن قتيبة الدينوري : 2/ 747.

(6) بدائع البدائه: 49.

(7) شرح ديوان المتنبي: 3/340.

(8) شرح ديوان المتنبي:1/290.

(9) زهر الآداب وثمر الألباب، الحصري القيرواني:2/597.   

(10) الموشح- مآخذ العلماء على الشعراء في عدة انواع من صناعة الشعر، المرزباني: 329- 330.

(11) العمدة: 1/242.

(12) المتنبي، محمود شاكر:1/212.

(13) يلقب بالأنصاري وهو ليس أنصاريا في الأصل بل مولى لهم (ينظر: كتاب الأغاني: 19/25).

(14) شرح ديوان المتنبي: 3/ 366.

(15) قيل له عن قصيدة له: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب؛ فقال: نعم، بلغني أن سلماً يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه مالا يعرفه. (ينظر: كتاب الأغاني: 3/ 132).

(16) ديوان بشار بن برد: 331- 334.

(17) كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، أبو هلال العسكري: 67.

(18) العمدة: 1/ 138.

(19) ينظر: من حيث الشعر والنثر، طه حسين: 103.

(20) تاريخ الأدب العربي- العصر العباسي الأول، شوقي ضيف: 181.

(21) العمدة:1/ 198.

(22) بدائع البدائه: 230.

(23) فنون الشعر الفارسي، د. إسعاد عبد الهادي قنديل: 230.

(24) ديوان بشار بن برد: 404.

(25) ديوان المتنبي: 3/ 81.

(26) ديوان عبد المحسن الصوري: 1/ 112.

(27) البيان والتبيين، الجاحظ: 1/ 49.

(28) كتاب الأغاني: 4/30- 31.

(29) ديوان ابن دريد: 15.

(30) ينظر: الموسيقا الأندلسية المغربية: 50.

(31) معجم المطبوعات العربية، اليان سركيس: 1/ 214.

(32) تاريخ ابن خلدون: 1/ 584.

(33) دار الطراز في عمل الموشحات، ابن سناء الملك: مقدمة الناشر: 12.

(34) السماع عند العرب: 2/ 119.

(35) الموسيقا الأندلسية المغربية: 45.

(36) حوارات مع الجواهري، محمد صالح عبد الرضا: 22.

(37) المستطرف في كل فن مستظرف، الابشيهي: 2/ 374- 375.

(38) طبقات الشعراء، ابن المعتز: 229

(39) الشعر والشعراء: 2/ 779.

(40) كتاب الأغاني: 4/ 13.

(41) فتح الباري، ابن حجر العسقلاني: 7/ 303.

(42) ديوان أبي العتاهية: 54- 55. ومعنى قوله واقلب: أي إذا صحفت الكلمة عذر تصير إلى غدر.

(43) رسالة الصاهل والشاحج، أبو العلاء المعري: 527.

(44) وفيات الأعيان: 3/ 332.

(45) الشعر والشعراء: 2 :779.

(46) الشعر والشعراء: 2 :779.

(47) ديوان أبي العتاهية: 301.

(48) ديوان الوليد بن يزيد:84.

(49) ديوان أبي نواس: 258- 269.

(50) ديوان أبي نواس: 66.

(51) ديون أبي نواس: 129.

(52) العمدة: 1/ 194.

(53) الفلك المحملة بأصداف بحر السلسلة: 47- 48.

(54) العمدة: 1/ 189.

(55) مقامات الحريري: 517- 518.

(56) ديوان الطغرائي: 44

(57) الوافي بالوفيات: 6/ 238.

(58) المتنبي مؤرخاً، د. محمد تقي جون: 148.     

(59) الأدب العباسي- الشعر: 45.

(60) حديث الأربعاء، طه حسين: 223.

(61) ينظر: حديث الأربعاء: 2/ 221- 222. لا تذكر المصادر القديمة غير البيتين من المزدوجة. ونقل طه حسين عن مخطوط أبياتاً كثيرة، لذا نقلنا من طه حسين.

(62) ينظر: الأعلام: 3/ 192.

(63) ينظر في الأدب الجاهلي، د. طه حسين: 167.

(64) ديوان زهير بن أبي سلمى: 81.

(65) ديوان زهير: 86.

(66) الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء: 51.

(67) طبقات الشعراء: 89.

(68) طبقات الشعراء: 90- 91.

(69) من موالي الأمويين المخلص لهم. أصله من الرقة، وقد يكون بربرياً بالفعل، وضعف لغته يدل على أعجمية. وهو أحد الزهّاد المشهورين.، ومن المعمرين؛ فقد شاهد الإمام علي يصلح مسجد الكوفة، وله شعر يذم العباسيين لتضييقهم عليه، مما يعني انه عاش بين (30- 132هـ) في الأقل، أي ما يربو على (100) عام.

(70) جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر: 1/111.

(71) البيان والتبيين: 1/ 206.

(72) يتيمة الدهر، الثعالبي: 4/ 100.

(73) ديوان سقط الزند، المعري: 24- 28.

(74) تاريخ الشعوب الإسلامية، كارل بروكلمان: 161.

(75) ديوان أبي نواس: 171- 172.

(76) طبقات الشعراء: 88.

(77) أبو نواس النصوص المحرَّمة:56.

(78) ديوان أبي نواس: 267.

(79) مطيع بن إياس سلم الخاسر أبو الشمقمق- دراسات ونصوص شعرية: د. محمد يوسف نجم: 126.

(80) شرح نهج البلاغة: 18/ 386.

(81) كتاب الأغاني: 3/135.

(82) كتاب الأغاني:: 23/ 172.

(83) كتاب الأغاني: 23/ 174.

(84) كتاب الأغاني: 23/ 173.

(85) الوافي بالوفيات: 12/ 206.

(86) كان عمر بن أبي ربيعة في الظاهر بعيد عن السياسة والأمويين فلم يمدحهم. ولكنه في الخفاء يعمل لصالحهم. فانه وظف شعره لخدمتهم؛ فعمل على تسقيط أعدائهم برثائه قتلى الجمل من أعداء الإمام علي، كما رثى زوجة المختار الثقفي تجريماً لعدوهم مصعب بن الزبير، وشبب بسكينة بنت الحسين ليسيء إلى العلويين. وكان الخلفاء الأمويون كلما زاروا الحجاز التقوه وتسامروا معه، ومعروف أن أخاه الحارث قائد بارز في الجيش الأموي.

(87) ديوان العباس بن الأحنف: 248.

(88) أمراء الشعر العربي في العصر العباسي، أنيس المقدسي : 151.

(89) أمراء الشعر العربي في العصر العباسي: 152.

(90) تاريخ بغداد: 6/ 250.

(91) ديوان أبي العتاهية: 378- 379.

(92) تاريخ الطبري: 7/  52- 57.

(93) تاريخ الطبري: 7/ 52- 56.

(94) ينظر: ديوان ابن الرومي: 338- 342.

(95) ديوان ابن الرومي: 3/ 139.

(96) تاريخ الأدب العربي، بروكلمان: 2/ 45.

(97) ديوان ابن الرومي: 146.

(98) ديوان ابن الرومي: 401.

(99) تاريخ الأدب العباسي- العصر العباسي الثاني: 504.

(100) ديوان البحتري: 1/ 40- 42.

(101) ديوان البحتري: 1/ 34- 37.

(102) ذكر هوميروس في الإلياذة قوائم بأسماء القادة والمقاتلين وهو ما لا تتحمله شعرية القصيدة العربية. وذكر المتنبي أسماء نحو 24 موقعاً في مقصورته.

(103) ينظر: ديوان المتنبي: 1/ 160- 168.

(104) ديوان ابن المعتز: 481- 483.

(105) طبقات الشعراء: 370.

(106) الوافي بالوفيات: 9/ 47- 48.

(107) ديوان الصنوبري: 5.

(108) ديوان الصنوبري: 388- 389.

(109) ديوان الصنوبري: 363- 364.

(110) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الأثير: 2/ 349.

(111) لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني: 1/ 160.

(112) شرح ديوان المتنبي: 3/ 129-  142.

(113) تاريخ الإسلام، الذهبي : 29/ 23. حاصل الأبيات الستة أنها لأي شيء تعلقت بالبدن إن كان لأمر غير تحصيل الكمال فهي حكمة خفية على الأذهان، وإن كان لتحصيل الكمال فلم ينقطع تعلقها به قبل حصول الكمال، فإن أكثر النفوس تفارق أبدانها من دون تحصيل كمال ولا تتعلق ببدن آخر لبطلان التناسخ.

(114) ديوان أبي نواس: 414.

(115) ديوان البحتري: 1/ 234.

(116) تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأول: 147 وما بعدها.

(117) ديوان ابن المعتز: 263.

(118) ديوان الحلاج: 161.

(119) كتبت (اليسنا) بلغة أكراد المناطق الوعرة، وباقي الأفستا كتبت بلغة أقرب إلى الكردية الفيلية. وترجمت الأفستا إلى لغات أخرى مثل الفارسية والهندية. وبعد انتشار الإسلام في إيران صار ينظر لعلماء الدين الزرادشتي بوصفهم كفرة، فقلّت نصوص الأفستا وانحسر وجودهم في مدينتي (يزد) و(كرمان). وما لبث الكثير منهم أن هرب إلى الهند حيث الحرية والأمان الأكثر للزرادشتيين. وساعد هؤلاء العلماء مع البيوتات الفارسية على نشوء الدويلات المستقلة في إيران.

(120) الثقافة الروحية في إنجيل برنابا، محمود علي قراعة: 22.

(121) فنون الشعر الفارسي: 14- 15.

(122) كيف نشأ الشعر، الحلقة الثانية، شبكة الفصيح، انترنت.

(123) تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان: 2/ 7.

(124) فنون الشعر الفارسي: 13.

(125) محاضرات عن فنون الشعر الفارسي والحضارة الإسلامية في إيران: 5.

(126) كتبت ملاحم كثيرة باسم (شاهنامه = تاريخ الملوك) مثل: شاهنامه أبي المؤيد البلخي، شاهنامه أبي علي البلخي، شاهنامه أبي منصور( ).  ولكن أشهرها والتي كتب لها الخلود شاهنامة الفردوسي وهي من ستين ألف بيت، كتب الألف بيت الأولى منها الشاعر الدقيقي وهو مجوسي.

(127) فنون الشعر الفارسي: 23- 24.

(128) أبو نواس- النصوص المحرمة: 121. المهرجان: عيد الحب. النوكروز: النوروز. جشن جاهنبار: الاحتفال العام. آبسال: الربيع. الوهار: المشرف. خرّه إيران شار: إيران العزيزة.

(129) فنون الشعر الفارسي: 22- 32.

(130) محاضرات عن فنون الشعر الفارسي والحضارة الإسلامية في إيران: 4- 5.

(131) الحيوان: 1/ 74- 75.

(132) المحاسن والأضداد، الجاحظ: 236.

(133) الحور العين: 217.

(134) دراسات في الشعر الفارسي، محمد نور الدين عبد المنعم: 20.

(135) ألوان من الشعر الفارسي، دكتور أحمد معوض: 61- 67.

(136) محاضرات عن فنون الشعر الفارسي: 64- 65.

(137) فنون الشعر الفارسي: 21.

(138) فنون الشعر الفارسي: 339.

(139) دراسات في الشعر الفارسي: 25.

(140) ألوان من الشعر الفارسي: 206- 246.

(141) ألوان من الشعر الفارسي: 244- 245.

(142) فنون الشعر الفارسي: 170.

(143) مجلة الغري، سنة 1944، العدد: 15؛ الفلك المحملة بأصداف بحر السلسلة، كامل مصطفى الشيبي: 30.

(144) مجلة الغري، سنة 1944، العدد: 15.

(145) فنون الشعر الفارسي: 180.

(146) المستطرف في كل فن مستظرف: 2/ 379.

(147) قاموس العين: 2/ 853.

(148) تاريخ الأدب العربي- العصر العباسي الأول، شوقي ضيف: 199.

(149) العمدة: 1/ 192.

(150) رسالة الغفران، المعري: 144.

(151) محاضرات عن فنون الشعر الفارسي: 10.

(152) الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرگ: 4/ 6.

(153) مقامات الحريري: 212.

(154) الفايق في غريب الحديث، الزمخشري: 2/ 79.

(155) ألوان من الشعر الفارسي: 207.

(156) ألوان من الشعر الفارسي: 220- 221.

(157) معجم البلدان، ياقوت الحموي: 1/139.

(158) المقامة، الدكتور شوقي ضيف: 20.

(159) المناكاة: المغالبة، من نكيتُ العدو اذا هزمته وغلبته. وهي تعني بمفهومهم الخدع والفهلويات التي يسخرون بها من الناس وينتزعون المال منهم.

(160) تاريخ آداب العرب، الرافعي: 3/76

(161) يتيمة الدهر: 3/ 416- 419.

 

في المثقف اليوم