قراءات نقدية

قصيدة النثر الواقع والطموح.. مطارحة تنظيرية

ali mohamadalyousifيرى الشاعر د. بهنام عطا الله ان الافق المستقبلي لقصيدة النثر، هو في انتقالها من موقع الهامش الشكلي في الشعرية العربية، إلى مركز التبئير الاستقطابي للتجربة الشعرية، قائلا في مقابلة صحفية مع الأستاذ طلال حسن 2010 ما نصه: "اعتقد جازما، بان قصيدة النثر، ستكون قصيدة متطورة ديناميكية مستقلة بذاتها، كجنس أدبي، وانها ستسعى ان تكون ظاهرة فنية تنهض بالرؤيا، وتحرك النسيج اللغوي، الخاص، بتمظهراته المتميزة من خلال التكثيف والتخيل والشفافية". ولي التعقيب التالي:

1- الاعتراض على ان قصيدة النثر، جنس ادبي والاصح نوع ادبي فني يحمل كل مقومات استقلاليته المكتفية بذاتها الشعرية البنائية والجمالية، وهي ان استطاعت منذ سبعينات القرن الماضي في العراق وسوريا، ان تلحق بروادها في لبنان أدوينس، يوسف الخال، محمد الماغوط من سوريا، انسي الحاج، واخرين عديدين، لكنما المسالة الأساسية والمهمة اليوم هي بآفاق وطوحات قصيدة النثر. اذ كم الموجود الان من شعراء قصيدة النثر الذي لم يفهم ويقف على حداثة هذا النمط الاسلوبي اللغوي الجمالي الحداثي وعلى مميزاته الاصيلة. أقول كم شاعراً باستطاعته تحقيق اضافة نوعية بسيطة لمستقبل هذا الجنس أو النوع الادبي المستقل. الآن هناك في المشهد الثقافي الشعري العربي عموما ما نستطيع تصنيفه بانه يمثل ردة شعرية على مستويين، المستوى أو المنحى الاول هو بعودة شعراء عديدين إلى النظم العمودي الكلاسيكي الذين يطلقون عليه العمود الجديد الحداثي، وهي لعبة مكشوفة وليست أكثر من ردة على مستقبلية الشعرية العربية الحديثة، الارتداد أو المنحى الثاني هو اصطدام الكثيرين من شعراء قصيدة النثر بالطريق المسدود امام المجاوزة والاضافة لمستقبلية قصيدة النثر تحديدا ، نتيجة الابهام والغموض الغارق في التهويم الطلسمي من جهة، ونتيجة اهمال فاعلية وتأثير الذائقة العامة، واستقبال القارئ المتلقي للنص، بما يعطيه حميمية التواصل بين علاقة الشعر بالجمهور.

2- نحن اليوم بحاجة إلى نص شعري تجديدي، يشكل اضافة تجديدية ملموسة وواضحة، في مسار الجنس الادبي "قصيدة النثر" إحدى مثابات التطور في الشعرية العربية منذ انبثاق حركة التجديد والحداثة، في أربعينيات القرن الماضي. اننا نلمس المراوحة المكانية - الزمانية التي يتعثر بها اقطاب شعراء اجيال الستينيات والسبعينات وما تلاها من الفرق مارسوا كتابة قصيدة النثر من الشعراء العرب ما لا حصر لهم، ونجدهم اليوم يعتاشون على امجاد ماضوية تجاوزها الزمن، ان لم يكن ألغاها كما ألغاها التطور الحداثي في المعارف والاجناس الادبية وفي الشعرية ايضا، لقد افل نجم تسيّد النص الشعري للابداع الادبي والثقافي ليفسح المجال للرواية التي اصبحت سيدة المشهد الثقافي عالميا، ولكنها في مآل التراجع والنكوص والارتداد إلى ما يشبه الانفلات نحو اللجوء إلى تجنيس تجارب ادبية متداخلة، وهذه التقليعة في طريقها إلى الهزال والاضمحلال التدريجي ،شأنها شأن الحداثة التي استنفدتها الشعرية العربية ، والمجهول المستقبلي الذي يفصح عن احتمال تنبؤ نوع أو جنس ادبي مستحدث، لم تكتمل ملامحه الآن، وكذلك لم يكتسب تسميته الخاصة به، ولكي يكون طموح الشاعر بهنام وغيره من الشعراء المجددين في مساره الحقيقي الموصل إلى نتيجة مرتجاة أو متوقعة، فنحن كما قلنا في بداية الفقرة ثانيا، بحاجة إلى تجديد "قصيدة النثر" ليس بالتراكم الكمي المتداول، ولكن بالالتماعات النوعية المتميزة التي يمكنها ان تشكل عملية انقاذ السقوط واصطدام تجديد قصيدة النثر في وقوعها بالاجترار والتلاعب المتطرف في التكرار للنموذج الواحد سواءٌ بالشكل، أو في التقانة البنيوية المتهالكة للنص، وهذا يستلزم من قصيدة النثر على وجه التحديد، الصراع الجاد على جبهتين، جبهة رفض وممانعة الرضوخ لشد النظم العمودي القديم للشعر العربي والرجوع له، في اعتباره القديم الذي لا يمكن تجاوزه بالحداثة والتطوير، التي رافقها فشل في الشكل التعبيري الشعري لغة ومضمونا، هذا من جهة من جهة ثانية صراع التخلص من عيوب تجريب قصيدة النثر، في تقنيتها المتطرفة التشكيلية، وفي لغتها الابهامية الهامشية الفارغة من المحتوى، وهذا ما يميز تجربة الشاعر بهنام في محاولة التطوير وردم هوة التباعد ما بين الذائقة المتلقية والنص، وشفافية نصه الشعري في مجموعته الاخيرة .

3- لكي نخرج قصيدة النثر من عنق زجاجة الاجترار المعيد لنفسه حد الملل، علينا ان ننتبه جيدا لضرورة اهتمام شاعر قصيدة النثر، وحتى كاتب سرديات الاجناس الادبية الأخرى، إلى اهمية القارئ المتلقي كعضو مكافئ للنص، والعمل على ردم هوة التباعد المستشري المتفاقم ما بين النص الشعري والقارئ وللامانة فان ما لاحظته واضحا جليا ان نصوص الشاعر بهنام عطا الله، في مجموعته جسد تلك الخاصية العلائقية ما بين النص وفهم القارئ لهُ في كتابته لنصوص تصل وتشد ذائقه القارئ، وتستحوذ على تفكيره، وتحفزه على التساؤل والتفاعل الايجابي مع النص. ولغة نصوص المجموعة، توسطت ووظفت الغموض الشفيف الموحي الذي يمكن للقارئ المتلقي بسهولة، فك وقراءة وفهم ما وراء المفردة الشعرية. بغية كسب المتلقي، وهذه ميزة لا يقدر عليها الا شاعر ذو دربة ودراية فيما يكتبه دونما تفريط بجنبة الاسلوبية والبنائية الجمالية للنص، على حساب ترضية القارئ، بل على الشاعر ان يسحب المتلقي لمرتبة ومصاف فهمه للنص، وليس نزول الشاعر إلى لغة التعامل والتواصل السطحي، التي تعبر عن المباشرة الساذجة في مخاطبة القارئ بسرد فاقد لروحية الشعر والعاطفة والحرارة الخيالية الجمالية، وهذه المسالة أي علاقة القارئ بالنص، تعامل معها بعناد ومكابرة فارغة اجيال من الشعراء الذين وجدوا حيرتهم وانتهاء مسيرتهم الخادعة في الكذب على المتلقي حين ظهرت تيارات ما بعد الحداثة والبنيوية، والحفريات المعرفية في الاجناس الادبية والسرديات وتاكيدها اهمية وفاعلية المتلقي بالنص، فاسقط بايديهم. حين صدمتهم كتابات هبرماس وشتراوس وفوكو ولوتيار في تأكيدهم فقدان النص لقيمته الابداعية دونما متلقٍ.

4- يؤكد د.نبيل علي في كتابه "العقل العربي ومجتمع المعرفة" الجزء الاول، منشورات الكويت، ان فنون الحداثة، تشكو من نخبوية طاغية، وهو ما ادى إلى استفحال الامية الفنية خصوصا على صعيد الشعر، والتشكيل والموسيقى، ومما يزيد الطين بلة - على حد قوله - هو هبوط الفن الجماهيري إلى ذلك المستوى المتردي التي تبثه وسائل الاعلام، وبدلا من ان يرقى الفن بوعي جماهيره ، نراه يشوه هذا الوعي إلى حد الابتذال، (يراجع كتابنا الحداثة واشكالية التوصل والتلقي ، دار الروافد في لبنان، ودار ابن النديم في الجزائر 2014، ودار الشؤون الثقافية بغداد 2013 ،منشورات بغداد عاصمة الثقافة العربية).

5- نخلص من النقاط المدرجة اعلاه، ليس انسحابها على تعداد مثالب ونواقص نصوص الشاعر المقتدر بهنام، غير الموجودة، اصلا نظرا لعدم اختلافها وتقاطعها مع هذه المعايير القياسية الحداثية خاصة في مجموعته الاخيرة التي نتكلم عنها، التي جاءت نصوص الشاعر تجاوزا ملحوظا لغالبية تشخيصاتها السلبية لأغلبيتها السلبية، واقول ان نصوص مجموعة "هكذا انت وانا وربما نحن" جاءت مستوفية للاشتراطات المعيارية البنائية الجمالية، والمعيارية السيسيولوجية، في اشراكها ذائقة المتلقي مع النص، لكني اتقاطع مع التفاؤل المفرط الذي ذهب له الشاعر في قوله : اني اجزم ان قصيدة النثر ستكون كذا وتحقق كذا...الخ، كما ثبتناه في بداية القسم الثاني من هذه الدراسة. على لسانه في مقابلته الصحفية المشار لها في بداية هذه المداخلة .

6- لعل من المفيد هنا اني وضعت تعريفا للشعر ما بعد الحداثي ما نصه: الشعر الحداثي وما بعد الحداثة هو تهويم لغوي بلاغي، غير مبرمج، أو منمط بنائيا وشكليا، وهذه الفوضى الخلاقة مجازيا تسعى من خلال طغيان توظيف الخيال والتخييل الذي هو ضرورة قصوى في / من مقومات الشعر الحقيقي، إلى الغاء حضور منظومة الأفكار العقلية الدارجة في منحيين، كلاهما ليسا في صالح بناء الشعرية، لكنهما مفروضان حداثيا، المنحى الاول هو ان الشعر ما بعد الحداثي ألغى دلالة اللغة المحلية اليومية الواقعية الاجتماعية من حياتنا، والمنحى الثاني ان طغيان المخيال غير المنضبط بنوع من العقلانية يلغي منظومة الأفكار العقلية كلغة استعمال توظيفي تواصلي خاص بالفعل الابداعي، يحتاجه الشعر، فاضحى الشعر الان هو تداعيات اللاشعور في وصاية ضبابية كابية للعقل في تنظيم عقلانية النص، كي لا يدخل الفوضى من اوسع ابوابها، في غياب التنظيم العقلاني للنص.

واعيد بضوء ما ورد نفس التساؤل الذي ورد في حديثي بهذه الدراسة، هو كم من شعراء قصيدة النثر، وسرديات الاجناس الادبية الأخرى من الذين لا يفهمون افاق الحداثة وما بعدها بالشكل الصحيح، لكنهم يطبقون بعض منظوماتها ومفاهيمها المجتزئة بفوضوية شعرية وسردية سائبة في الكتابة؟ وهنا يكون من المهم تاكيد العبرة والنتيجة المرتهنة بنتيجة التفرد النوعي للشاعر المتمكن، وليس لكل من يحاول ان يكتب ما يسميه ابداعا ادبيا ثقافيا وكانت مجموعة الشاعر المبدع بهنام الاخيرة التماعة ضوئية واضحة على طريق شق الطموح لقصيدة النثر ، وربما يكون في الاتي المرجو منه الكثير.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

 

 

في المثقف اليوم