قراءات نقدية

المنطق الفني في روايات زيد الشهيد

saleh alrazukتتراكم المتابعات النقدية لروايات زيد الشهيد مؤلف (اسم العربة) و(ثلاثية أفراس الأعوام) و(سجين في بغداد) وغيرها.

ولكن حتى هذه اللحظة لم يلامس أحد جوهر رؤيته المختلف عليها لمعنى الرواية. هل هي مدونة للذاكرة أم إعادة كتابة للتاريخ النفسي للشخصيات؟.  بتعبير آخر: كيف نظر زيد الشهيد لفن الرواية.. هل كان يعامله كواقع منفصل عن كاتبه، أم كجزء من الأحداث المتخيلة التي تفسر ما يجري من حولنا؟.

والمشكلة في هذه الأسئلة أنها من داخل التجربة. فمنطق زيد الشهيد حداثي وعنفي. بمعنى أنه أوديبي، وينطبق عليه ما ينطبق على سوفوكليس.

لقد اهتمت كل روايات الشهيد بنقطتي تحول أساسيتين في تاريخ بلاده. وهما الانقلاب على الملكية والدخول في سلسلة الأحداث الدامية التي طبعت الجمهوريات. ثم غزو عام 2003 ونهاية الجمهورية الأولى وبداية فصل جديد يمكن أن تقول إنه حكومة ميليشيات. فالدولة في هذه الفترة مدينة أساسا لفكر إسلامي جهادي يتنكر بأقنعة غربية. وهذه مشكلة المشاكل. أن تضطر للتعبير عن روح المشرق بأساليب التفكير المادي للغرب.

وفي هذا الفراغ الذي يباعد ما بين طرفي المعادلة كان زيد الشهيد يحاول أن يوازن خطواته. وأعتقد أنه كان معنيا بمناقشة وتفسير الأصولية الشرقية بمنطق الحداثة. وفرض عليه ذلك أن يضع الشخصيات في طرف والأحداث في طرف.

فالشخصيات لم تكن تعبر عن منطق إنضاج الأحداث وتطويرها ولكن عن منطق رؤيته النفسية لجملة من الأفكار والمبادئ. وهي أساسا ناجمة عن وعي إدراك تصويري. فروايات الشهيد مزودة بحساسية خاصة لاستقبال ما يجري بعيدا عن نطاق تسلسلها. وبتعبير آخر إن الأحداث يمكن إسقاطها على الشخصيات. وكلاهما يحمل الأفكار النهائية وتامة التكوين التي تنم عن استراتيجية الشهيد وليس واقعه ولا خياله.

طبعا أنا لا أهجو هذه الروايات. فلكل مغامرة روائية منطق يحكمها. ويمكن تلخيص فلسفة زيد الشهيد بقانون لا يحيد عنه. وهو تدوين الفكرة بغض النظر عن قانون المرحلة. ولذلك غلبت عليه أساليب التذكر، والتسجيل، والتصوير، والمتابعة بالنظر. وحتى المونولوجات كانت عبارة عن صوت يأتي من أفكار غائمة وضبابية . فهي منسوبة لأسماء وليس لشخصيات.

وهنا لي ملاحظة. إن الشخصيات في روايات الشهيد هي أسماء لأفكار. كل شخصية تحمل فكرة يصعب عليها تعديلها. ولذلك إنها شخصيات مفكرة. وتشبه ما يؤديه القناع في المسرح الإغريقي.

للتوضيح.

الممثل هو هو، ولكن أفكاره وشكل وجهه هو الجزء المتغير. لقد سخّر زيد الشهيد شخصياته لتمرير الأفكار. ولم تكن تصدر عن تطور نفسي طبيعي. وأبرز مثال على ذلك (سجين في بغداد)(1). فهي مجرد مونولوج تاريخي منفوخ بالنشوة الحضارية، مع أن كل ما حوله يتساقط وينهار ويتعرض للتخريب والإلغاء.

مثلا بعد محاضرة عن الإله شمش وسلالة أوروك نقف وجها لوجه مع الرعاع وهم ينهبون مقتنيات المتحف بلا وازع. وهنا وجه المفارقة. أن لا تتحرك من مكانك بينما البساط ينسحب من تحت قدميك.

وأرى أن الدراسات المقارنة لأعمال زيد الشهيد، وعلى الرغم من البداهة والذكاء والفطنة التي تتحلى بها، لم تلمس النقطة الحساسة. إنها لم تشاهد عين الإبرة. أو تلك الفتحة الموجودة في الجدار العازل بين التجربة الشخصية والموضوع. هناك من يقارنه بفرجينيا وولف أو بفؤاد التكرلي أو بأعلام أدباء بغداد كغائب فرمان وغيره. والحقيقة أنه يدين بكل شيء لجماليات لغوية ولأفكار تدور حول هموم الجانب السري من العقل الذاتي.

ولتقريب الفكرة دعنا ننظر لروايته (شارع باتا)(2).

المفروض أنها رواية مكان تستفيد من التحولات التي طرأت على شريان رئيسي في مدينة السماوة لرصد التطور المعرفي الذي ضرب بلده منذ عام 1958 في انقلاب تموز وحتى عام 2003 وسقوط الصنم. لكن المشاهد لم تكن متسلسلة ومحكومة بمنطق انتقائي. فذاكرة الراوي، وهو مترجم ومثقف وزوج لناشطة في مؤسسات المجتمع المدني، يغربل ما يترسب في لاشعوره ليعبر عنه. وأحيانا يحصل ذلك دون اهتمام بخيط الأحداث. فالذاكرة تقفز من فوق جدار الزمن لضرورة معرفية. وأية ملاحظة مهما كانت صغيرة يمكن أن تفتح ثغرة في الجدار الكتيم العازل لتقود خطواتنا باتجاه أحد المحاور. نحو الماضي السحيق لأيام طوفان نوح وحمورابي وجلجامش، أو باتجاه الماضي القريب وذكريات حرب الخليج الأولى المريرة. هذا إن لم تقفز نحو اللحظة الراهنة بما فيها من تكهنات وتوازن بين مختلف القوى التي تلعب على الأرض. إنه جو عبثي. وما هو موجود هناك قد يتحقق في لعبة الذاكرة التي لها جوهر وماهية ترتهن لماضي التجربة. ويتخلل ذلك استعراض عضلات معرفية، وإلقاء ضوء على المخاوف ومصادر الرعب.

ولكن طوال الوقت كانت تحدو الرواية فكرة لا ثاني لها: أن الإنسان الحقيقي يموت، وأن الإنسان البديل والروبوتات تنتشر وتحتل مكانه.

وبهذا الاتجاه يقول في رسالة موجهة إلا حمزة، بطل الرواية: نحن لا نفكر بالآتي، ولا نصبو لبناء حياة يحدوها التفاؤل. وكل شيء تعمه الفوضى (ص 173-175).

ويضيف لاحقا: نحن لا يهمنا المستقبل ولا ننظر لأحفادنا وما ينتظرونه منا (ص174).

ثم يؤكد على هذه الفكرة في روايته (الليل في نعمائه) ويرى أن: حياتنا تغيرت والنظام تهاوى كورق يابس وحلت علينا لعنة التاريخ (ص 116)(3). ولا يمكن أن يفوتك المعنى. فنحن إزاء مرثية لما سلف، وتخوف مما سيأتي، وضمن غلاف يحيط به الحنين أو النوستالجيا ( بالحرف الواحد: الحنين الجارف كما وصفه في الليل في نعمائه أيضا، ص 116). وكل ذلك بلغة شعرية شفافة، وبمجاز يلعب باللغة .

وأعتقد أن هذه الناحية، جماليات اللغة، وجاهزية الأفكار، هما من خصائص الفينومينولوجيا الرومنسية التي وضع أسسها في سوريا معروف الأرناؤؤوط بروايته المبكرة (ملحمة سيد قريش)، وطورها لاحقا وحدثها بديع حقي مؤلف (جفون تسحق الصور) و(همسات العكازة المسكينة) و(التراب الحزين) وغيرها...

إنما الأول إسلاميات والثاني فلسطينيات أو أدب مقاومة.

إن العلاقات اللغوية والإغراب في الصور والإطناب في خلع الصفات النفسية على الشخصيات في مواقف محرجة من أهم سمات أدب زيد الشهيد. وهي بحق من خصائص التفكير الرومنسي بنسخته الجديدة. فشخصياته رسولية. تتحمل الرزايا وتستلهم الأسلاف وتكبر مساهماتهم في الحضارة. وروايته (سجين في بغداد) مخصصة بأجمعها للتفاخر والتباهي بماضي منطقة ما بين النهرين. ويكفي أن تعلم أن السجن هو المتحف الوطني في بغداد، بين الأنصاب والوئاثق والمنحوتات. وتعبيره يميل للمباعدة بين المشبه والمشبه به، أو الشيء والقرائن عليه، كقوله فاكهة السرور، دموع شمعة العين، حمامة القطار المنطلق، وهلم جرا، بنفس الطريقة التي تتبناها الرومنسية التاريخية والرومنسية المحدثة.

وبالمقارنة إن مشهد شروق الشمس على شعاب مكة في (سيد  قريش) تكاد تكون نسخة من غر وب الشمس على جسر السماوة في (تراجيديا مدينة).

أما لغة (شارع باتا) ومن قبلها (أفراس الأعوام) تحمل نفس الشدة النفسية والمعاناة التي تتكرر على طول روايات بديع حقي، ابتداء من العنوان وحتى كلمة النهاية. فهي لغة مزركشة بكل أشكال البيان والبديع. وأرى أنها مثال نموذجي لتطبيق دروس البلاغة التي تعلمناها من الجرجاني والثعالبي في القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد. إنها لغة تعكس تقاطبا فنيا (على وزن التقاطب الفكري بتعبير المرحوم هشام الشرابي). فالتجديد في الفكر التحديثي لم يكن مقتصرا على الأفكار الطازجة بل على طريقة حبك وصياغة هذه الأفكار (ص 23)(4). وفي حالة زيد الشهيد يمكن أن تشاهد إثنين في واحد. الفكر المحافظ والرغبة بتجديد وإصلاح الشكل، أو العقل الوطني بتشكيلات غربية مستحدثة (ص 23). وهذه هي خلاصة المعضلة التي يعاني منها الإنسان العربي في دوامته المعاصرة كما يعتقد هشام الشرابي أيضا.

من الضروري أن نقر أن زيد الشهيد نسيج وحده بين الروائيين المعاصرين. ومرجعياته ليست واضحة في أعماله، لكن مصادره هي التي تفرض نفسها. وهو الذي يحركها. بمعنى أن التناص غير مباشر ولكنه ضمني.

لقد اتكأت الرواية الجديدة على تراكم المعلومات والمشاهد وإنما من داخل منطقها المعزول والخاص. بينما في أعمال زيد الشهيد تجاورت الشخصيات من منطق صوري خارجي وتراكمت المشاهد من داخل رؤية فجائعية ذاتية. وساعد ذلك على دمج عدة استراتيجيات في منطق فني هجين يؤمن بالحداثة، ولكنه لا يرتاح للأزمنة الحديثة. ووراء ذلك كانت تتطور فكرة مركزية لا محيد عنها..

أن الأبدية هي الإنسان، والإنسان هو ذاكرته فقط، أو كما ورد في مستهل الرواية: ما يتركه خلفه من إشارات وأثر (ص17).

 

د. صالح الرزوق

.................

1 - بلا اسم دار نشر، 2012. وأعاد نشرها لاحقا بعنوان جاسم وجوليا.

2 - صدرت عن دار أمل الجديدة بدمشق، 2017 .

3 - صدرت عن دار أمل الجديدة بدمشق، 2016.

4 - المثقفون العرب والغرب ، هشام شرابي، دار النهار للنشر، بيروت، 1981.

 

في المثقف اليوم