قراءات نقدية

الأَسر الجسدي والأَسر الفكري.. أو ضياع عفوية الأنا بين الأسيجة الحديدية والأسيجة الدوغمائية

ali almirhigقراءة في سردية قيس حسن: جبنة في علبة كبريت

كما أعتقد أن هذا الكتاب فريد من نوعه. تكمن فرادته في موضوعه، فقد تناول المؤلف فيه نماذجاً من قصص الأسرى العراقيين في المعتقلات الإيرانية. وهو موضوع لم يأخذ حقه في الكتابة على المجال الأكاديمي ولا في الأدب شعراً أو سرداً أو سيرة ذاتية، وحسب رأيي المتواضع فإن هذا الكتاب يجمع بين منطقتي السرد والسيرة الذاتية، فالكتاب سيرة ذاتية على لسان ثلاث شخصيات عاشوا قرابة عشرين عاماً في معتقلات السجون الإيرانية. دخلوا المعتقلات في عمر الثلاثين وخرجوا منها وهم في عمر الخمسين!!. بمعنى أنهم قضوا أجمل سني العمر أسرى الكراهية وضحايا الحقد الذي صنعته الأسيجة الحديدية لنُظم العنف "المعتقلات" وأسرى "الأسيجة الدوغمائية" والفكرية المنغلقة لكلا النظامين المتحاربين العراقي والإيراني.

هو كتاب يقع كما أرى ضمن منطقة السرد، لوجود الروائي ليس بوصفه مُعايشاً للحدث، ولكنه يُنتج ألم الحكواتية "الأسرى" نصاً سرديا، فقد شكل (قيس حسن) حكايات الناجين من أسرى الحرب العراقية الإيرانية ببنية سردية تكشف خبايا الأسيجة ونَظم حبكتها التراجيدية عبر إستنطاقه لشخصيات حكاياته وتوصيفه السردي المحكم لحجم المعاناة التي عاشها أسرى الأسيجة، موظفاً "المكان" (المعتقل) لا بوصفه مكاناً للعيش المبتذل فقط، بل هو مكان لقهر العقل وتغييبه، مفي مُحاولة منه لجعل المكان أيقونةً لإستحضار الذاكرة المأساوية في المعتقل أو الذاكرة الجمالية للمكان "ما قبل الأسر" "الوطن وحضوره الرومانسي في الذاكرة التي رام مسحها النظامين المُتحاربين، لصناعة ذاكرة مؤدلجة، في المعتقل تحمل مضامين ومعتقدات النظام الإيراني سواء أكان ذلك عبر الترهيب أو الترغيب. وحين العودة يُمارس النظام العراقي مسحاً آيديولوجياً مُغايراً، وكأن هذا الأسير "فأر تجارب"، ولم ينفع لاهذا ولا ذاك في مسح مطويات الذاكرة لا في "الما قبل" ولا ال "في" "المعتقل"، حتى بعد مُضي سني أفضل ما في العمر.

بقيت أحداث سردية قيس حسن تدور حول حياة ثلاثة أسرى ما قبل الأسر وفي الأسر، ولم يُكمل سرديته ليُتابع تحولات الذات "الأسير" فيما بعد الأسر، وهذا الأمر حسبما مهم لبناء رؤية متكاملة لتحولات "الذات" "الأسير" الدراماتيكية التي لم تتشكل فقط في ما قبل الأسر وفي الأسر، وإنما تبدأ ديناميكيتها وإدراك تحولاتها النفسية في "الما بعد" "أي ما بعد الخلاص من الأسر والعودة للوطن"، كيف وجد الوطن؟ وكيف ربط بين رؤيته الرومانسية للوطن مع رؤيته لمتغيرات الواقع ومستجداته الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، فنظام صدام في االثمانينيات غيره في أوخرها وفي التسعينيات أيام الإنتفاضة وما بعدها، ودخوله للكويت في "أم المعارك"!!.

إن المكان (المعتقل) عند قيس حسن هو ذاكرة الجمال ونفيها عند شخصياته، ذاكرة وماضي الشباب قبل الأسر حينما كانوا يعيشون الحياة على سجيتهم، وحاضرهم الذي غابوا في تمظهرات العنف فيه وغيبهم فعل أفاعيل دُعاة الأسلمة.

كان توظيف المؤلف للعامل النفسي في سرده لحياة شخصياته ما قبل الأسر وما بعده تأثيره في جعل "القارئ" مُحايثاً للحدث ومُدركاً لتحولات الذات الراوية على المستوى النفسي السلوكي الفكري.

وهذا بيّن ليس فقط في ما قبل، بل في فعل الأَسر نفسه ودوره في تغيير النمط الفكري والسلوكي في الما بعد، فالأسير الذي عاد للوطن إنما عاد لوطنه وبذاكرته عن الأمكنة والشخوص ليستحضر لحظة مغادرته (الماضي)، ولكن شكل الأمكنة وعمرانها قد تغير، وشخوص المحلة و "الدربونة" قد تغيرت، فمنهم من مات وآخر أُعتقل ممن هم من أبناء جيله. وهناك أُناس جدد تركهم صغاراً، لكنهم اليوم (أوان عودته) كباراً في العمر، وفي تحولاتهم النفسية والعقلية بحكم تقدمهم في العمر والدراسة ومُقتضيات الحاجة العملية أو بحكم الأوضاع السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية التي خلفتها الحرب. فقد غادرنا الأسرى والشارع العراقي يمور بالصراع بين الشيوعيين والقوميين، وحينما عاد وجد أن الصراع السياسي قد تحول وصار بين القوميين والإسلاميين ونمو التدافع المذهبي والإقصاء الطائفي، وقد وجد الأسرى ممن ترك أولاداً له وزوجة، أن صورهم قد تغيرت، وسلوكياتهم بحكم التحولات الثقافية والاجتماعية هي غيرها، فهو إذن لا هو والآخرون ليس هم الآخرون، فزوجه والأولاد قد بنوا ذاكرتهم عن الأب لحظة مُغادرته، ولكنهم وجدوا أن هذا الأب غير الأب الذي ودعهم وقبل جباه بناته وبنيه وزوجته ووالده وأبيه.

أسرانا الذين عادوا هم "من الناجين التُعساء"، ومنهم عبدالسادة، وكريم، وشناوة أبطال حكايات قيس حسن.

هؤلاء بقايا ذاكرة الحرب التي كان وقوده الشُهداء، وشاهِدُوها أسرانا الذين ضيعتهم الحرب، فمن نجا منهم فاليحمد الله، وأكثرهم لم ينجوا سوى جسداً لكن أرواحهم وعقولهم غادرتهم فلا نجوى لهم ومن بقايا وآثارها لن ينجون.

قسم مفكرو نظرية السرد الشخصية السردية إلى قسمين: الشخصية المسطحة والشخصية المركبة، الأولى تمضي على حال لا تغير فيه ولا تبدل ملحوظ في عواطفها ومواقفها وأدوار حياتها، أما الشخصية المركبة، فهي شخصية قلقة معقدة لا تستقر على حال، فهي مُتبدلة الأطوار ومُتغيرة الأحوال، لا يعتمد السارد فيها على عنصر المفاجئة فقط، لأنه عنصر غير كافٍ لفهم الشخصية ونمط تحولاتها، لذلك يتم الإعتماد في بناء وضعها داخل البنية السردية على تحولات الشخصية وقدرتها على تقبل العلاقات مع الشخصيات الأخرى، والتأثير فيها. إنها شخصية مُغامرة وشجاعة، تصعد وتهبط، وتؤمن وتكفر، وتفعل الخير كما تفعل الشر، ولها تأثير بينٌ في من حولها، سلباً أو إيجاباً .

لقد سجل قيس حسن بسرديته هذه وثيقةً تاريخيةً لشهادات أجداد خُدِعوا وخدعتهم أنظمتهم السياسي ذات "الأسيجة الدوغمائية" بعبارة أركون.

الإنسان في هذه الأنظمة رقم يُزيد رصيد الحكومة في إستمرار حُكمِها أم لا.

لقد كره المجتع لون السواد، لأنه لون قاتم شبيه بالسجن، وشبيه بالحكم عندنا، فيا لهذا اللون القاتم كم كان رفيقاً لحياتنا؟.. ألم يحن الأوان لك لتوديعك لنا أم أنك قدرنا نحن أبناء سومر، بُناة الحضارة، وبلاد الذهب الأسود الذي صير العمر أسودا. وكأن الحزب الواحد واللون الواحد والفرقة الواحدة الناجية، قد صيّروا مصيراً لكل أسارى الجسد مصيراً واحداً يدعي إنتماءً ل "الله الواحد".

كان أسرانا في إيران يفطرون على جبنة بحجم قطعة الكبريت، فمن حصل عليها فقد نجى من جوع معدةٍ صارت بحجم قطعة كبريت ربما ستنفجر يوماً لإحتراق أغشيتها من ألم الجوع.

كان غذاء الأسرى بحجم "علبة كبريت" "وقاعاتهم (الأسرى) كعلبة الكبريت".

سأحاول ألاّ أخوض في تفاصيل حكايات الشخصيات وحياتها وصراعاتها إلا سعي للبحث عن مُضمرات البناء الفكري وتأثيره في تداعايت غياب الذات بفعل ضغط الأسيجة وتأطيرها العقل للتحكم بسلوك الذات المغلوبة (الأسير). ولربما سيخوض غيري ممن هم مختصون في السرد وأدب السيرة الذاتية بما هو قريب من إهتمامهم وبعيد عن تخصصي وإهتمامي.

أتقن الكاتب تعامله مع حكواتيي سرديته وحاول لفت القارئ للصراع الداخلي، لأن حكواتي السيرة الذاتية العفوي لا يقف كثيراً عند التحولات السردية وأبعادها المعرفية وعلاقاتها الاجتماعية.

فهذا عبدالسادة بطل إحدى حكاياته يعتصر ألماً في حياته قبل الأَسر، فقد تزوج والده أرملة شقيقه، بعد زواجه الأول، ثم تزوج بثالثة هي (حُرية) أُم عبدالسادة... وبعدها هاجر والده في عام 1959م محافظة ميسان بجوعها وقسوتها لبغداد، باحثاً عن مصير أفضل.

سكن "صرائف العاصمة" في غرفة من طين.

في عام 1962م إنتقلت عائلة عبدالسادة لمدينة الثورة بعد أن منح الزعيم عبدالكريم قاسم أراضٍ سكنية لسُكان العشوائيات.

بعد إستقرار عبدالسادة وتحسن حاله المعيشية، ونسيانه موت أمه في ميسان وضغط زوجة الأب، وزاوجه هو من زوجتين، "فقد مضى للحرب تاركاً خلفه زوجة وخمسة أطفال. وفي إحدى معاركنا مع الإيرانيين، حُصِر لواءه، وبعد معركة داميةٍ سلم نفسه، ليُؤخذَ أسيراً، وحينذاك أحس بالذل، لأنه كان يظن أن النظام الحاكم في إيران نظاماً إسلامياً عادلاً ولن يُعامله كجلاد، بل سيُعامله بوصفه ضحية عُنجهية نظام دكتاتوري مُتغطرس، ولا ذنب له لأنه قد شارك في الحرب حتى لا يُعدم هو أو أحدٌ من عائلته ولصق تهمة الهروب والتخاذل به أو بأحدٍ من أفراد عائلته، لأن وصم أحد بهذه التُهمة (وصمةً) في جبينه وخُذلاناً له ولعائلته ولعشيرته، ولا يليق هذا الوصف بعربي يعرف ويؤمن بأنه عربي، فلا يَقبل أي عربي بأن يُوصف هو أو أحد من أفراد عشيرته بالتخاذل.

إبتدأت حكاية قيس حسن الأولى مع عبدالساد ذو الأصول السومرية الذي هاجرت عائلته لميسان وحطت رحالها ببغداد.

أما كريم مظلوم حكواتيه الثاني، فقد كان من ميسان من مدينة المشرح، وقد أكمل دراسته الإبتدائية والثانوية فيها، ومن ثم أكمل البكالوريس في اللغة العربية بكلية الآداب/ جامعة بغداد.

كان كريم مظلوم يُشابه في فَقرِه عبدالسادة، وقد حكم عليهما القدر بأن يكون مكان عيشهما في مدينة الثورة.

الفرق بين عبدالسادة وكريم هو أن الأول قد تزوج أباه من أكثر من إمرأة، بينما نجد أن الثاني قد تزوجت أمه برجل آخر.

وحين ذاك هجرته أمه وغادرها هو وشقيقه وشقيقتيه، فإضطر للعيش والإنتقال لبيت أعمامه. وبعد جهد جهيد حصل كريماً على عمل في الإذاعة وذلك في شهر آب من عام 1978م.

 ولأننا وضعنا أبعاداً نفسية ثلاث ل (الحكاواتية) في سردية قيس حسن، هي الذات وتحولاتها وأحلامها في الما قبل (أي ما قبل الأَسر)، والذات وتمظهراتها في الأَسر، والذات في صراعها مع المتغيرات بعد الأَسر.

ونحن لا زلنا نتحدث عن الذات في مرحلة الحلم والأمل (ما قبل الأَسر) حينما كانت ذاتا متمردةً، في عنفوان الصبا والشباب.

نعود لكريم الذي بدأ بعمله إذاعياً في إذاعة العراق. شكت لحظة عمله وتقديمه لبرنامج إذاعي بداية تحقيق حلم الشهرة. فكم حلم بهذا اليوم.

كان كريم من عائلة فقيرة حالها كحال عائلة عبد السادة.

تزوجت أمه من رجل آخر، فصار يتيم الأب والأم. وقد تساوى مصيره بمصير عبدالسادة، فنهاية الأمل واحدة، فقد كان معتقل الأَسر واحداً.

إنتقلت عائلة كريم من ميسان للعيش في مدينة الثورة كما هو حال عبد السادة.

درس كريم في إعدادية قتيبة التي خرجت كثير من الأدباء والمثقفين. كان من زملاء كريم عبدالله صخي صاحب رواية "خلف السدة" ومن زملائه في هذه المدرسة الشاعر كريم العراقي.

يبدو أن فقر أبناء هذه المدينة القادمون من أقاصي الجنوب كان دافعاً لهم لشحذ عقولهم لتُعيد إنتاج الواقع الاجتماعي المزري لتصنع منه إبداعاً ثقافياً وفنياً، ولكن قهر النظام كان أقوى فتشتت مبدعو هذه المدينة، فمنهم من إنزوى وآخر هاجر لبلدان المنفى، وبعضهم تماهى مع السلطة وطبل وزمر طمعاً ف التقرب وإمعاناً في التزلف، وهناك وطنيون لم تهن عليه مغادرة الوطن محاولاً قدر إستطاعته التمسك بمبادئه من دون التخلي عن الدفاع عن وطنه حين تعرضه للمخاطر. فصار هذا ضحية وأُضحية لحرب لا ناقة فيها ولا جمل، لكن مُحب لذاكرة الصبا والشباب، مُحب للمحلة والشارع و "الدربونة" التي لعب دعبلاً و (جعاب) بها، فلم يكن أيديولوجياً إلا بمقدار ما تكون الأيديولوجيا خلاصاً وتخليصاً لشعبه من فقره، فلا محبة لها عنده حينما تكون خُسراناً وضياعاً لوطن. فليس بمستطاع طبي يداوي جرح الوطن النازف ولا بمقدوره ترميم الذات التي كسرتها سني الحرب ومعتقلات الأٓسر.، "عمر وتعدى التلاثين لا يفلان

عمر وتعدى وتعديت لا يفلان". فكان أسرانا بعمر الورد لم يتجاوزوا سني العشرين، فإلتهمتم معارك رعناء، فلم يذوقوا وهم بسني العشرين من عمرهم سوى الألم، فعمر من مثلهم في عوالم الدنيا يعيشون حياتهم لهواً وعشقاً وهم يذوقون طعم حياتهم حنظلاً مرا، فسنينهم العشرين "ما مرها العشك"ولم يمر بها "قطار الشوكٓ" ومر كريم فلم يسمع طنين الهاون ولا دكٓ كهوة ولا طعم هيله، خلص عمر الشباب بألم يشكلي وأشكيله. ومر عمر الصبا لحظة وتعده، ولا يكدر حمد يّهدي "قطار الشوك" لأن عبر من يمه وما بُطا شويه وتهدا. وركبنه قطار الحزن تبين قدر إلنا وما نكدر نرده.

نعود لسردية قيس حسن "جبنة في علبة كبريت" وبعد أن تحدثنا عن بطلي سرديته، عبد السادة وكريم، نعود لنُكمل الحديث شناوة بطل سرديته الثالث.

كان شناوة يعيش في مدينة الرفاعي إحدى أقضية الناصرية، فهو سليل الحضارة السومرية، حضارة الأدب والثقافة والفن والأسطورة، هو أبن الحضارة الأولى التي سطرت أبجدية الكتابة.

كان شناوة حالماً دائم النظر للسماء أملاً بتحقيق دولة العدل التي سيحققها لنا الإمام المهدي ليملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلأت جورا. فإنتمى لأحد أحزاب الإسلام السياسي الشيعية المححضورة آنذاك. وبعد أن إنكشف سره لأجهزة الأمن وعرف هو بذلك، فر هارباً وضاع جزءاً من عمر الشباب بين الهرب والقبض عليه وإيداعه السجن.

في عام 1979م حُكِم عليه بالسجن لسنتيتن قضى سنة في سجن بالديوانية، ثم رُحَل إلى معتقل (أبو غريب)، وبعد قضائه في السجن مُدة 90 يوماً، دخل عليهم ضابطاً برتبة كبيرة ليقول لهم: أن أبواب السجن مفتوحة لمن يرغب، لكنه لن يذهب لأهله، بل للحرب لتُبيضون صفحاتكم السوداء في الذود والدفاع عن الوطن في حربه العادلة ضد "الفرس المجوس"، بلغة نظام البعث، ورغم أن شناوة منتمٍ لحزب إسلامي ذو أيديولوجيا متوافقة مع أيديولوحيا نظام الحكم في إيران، إلا أنه فضل الموت في الحرب على عذابات المعتقل، فالموت أهون عليه من تلقيه للإهانات اليومية والتعذيب الجسدي وإتهامه بالعمالة، لذلك وافق على شرط هذا الضابط، فتلقى تدريباً بسيطاً لعدة أسابيع وبعدها سِيق جندياً في الحرب، ولم يُكمل 90 يوماً في الحرب في قاطع ميسان، ليقع أسيراً في أيدي الإيرانيين، فأُرسِل في مايس من عام 1981م إلى معتقل "برندك" وهناك إلتقى عبدالسادة وكريم ناظم.فشكلت حكاياتهم سردية قيس حسن.

بدا لنا و لكم واضحاً حياة أبطال سردية قيس حسن ما قبل الأسر، ولكن الذي لم يتبين كما أعتقد أن أبطاله الثلاث، لم يكونوا أحراراً، كما رغبنا ورغب مؤلف الكتاب، فالما قبل (قبل الأسر) فقر وقهر عاشه أبطال سرديته، فلم يكونوا أحراراً كما هم ظنوا وإعتقدوا، فهم أحرارٌ بالقياس لما عانوه وعايشوه من ذل وإحتقار في معتقلات الأسر، ولكنهم ليسوا أحراراً لا في صباهم ولا في الشباب، فالنظام كان فردياً شمولياً إن لم يكن دكتاتورياً بإمتياز لاسيما بعد عام 1979م، حينما أمسك صدام بالسلطة. ولم يكن أسر النظام لهم بخافٍ ومستتر، ولكن ضغط الفقر قد أَسّر الأنفس، فجعلها أسيرةً لرؤيا الأمل في وعود الدين، فصار أغلبنا أسارى الغيب والإنتظار، فلم يلح لنا في الأفق أمل في الخلاص من الإستبداد سوى التعلق بحبل شفيف هو حبل الإيمان الديني الذي عزف كثير من رجالاته على وتر النجاة والتعلق بسفينتها، مُزينين ومُحسّنين لرؤيتهم للخلاص فصيروا إتباعهم طريقاً للنجاة، ولفقدان المجتمع الأمل في إمكانية خلاصهم من الدكتاتورية، فقد قبلوا بأن يتبعوا دُعاة الخلاص و رُسل الحقيقة من رجال الدين كما إدعوا، فصيروا أنفسهم أسياداً وصير كثير من الناس من أنفسهم عبيداً ولملة أسيادهم دُعاة رُسل الحقيقة والأوصياء مُتّبعين.

فهل هناك أسرٌ أقسى وأمّرُ من هكذا أسر يُؤسرً الإنسان نفسه قناعة وتأييداً أو تزلفاً لزعيم قويٍ بلا قسر؟. بل فَرِحٌ ومرتاحٌ لإتباعه (الصنم) ومفتخرا.

وعود على بدء، قرائتنا لشخصيات سردية قيس حسن الثلاث، أستطيع القول أنها تُدرج ضمن القسم الثاني "الشخصية المركبة"، فكل من عبد السادة الشخصية الأولى وكريم الشخصية الثانية وشناوة شخصيته السردية الثالثة كلها شخصيات سردية مركزية داخل بنائه السردي، وجميع هذه الشخصيات هي شخصيات من النوع المركب والمعقد، لا يُمكن التكهن بمآلاتها لا عبر الأسلوب الإستباطي ولا عبر ال الأسلوب التصويري، ولا التقريري.

كانت سردية قيس حسن بعيدةً عن الإسلوب التقريري، لأن مهمته لم تقتصر على فقط على تقديم أبطال سرديته من خلال وصف أحوالهم وعواطفهم، وإن كانت هذه واحدة من مهامه، لكنه لم يقف عند هذا الحد فقط، بل حاول الدمج بين الأساليب الثلاث، فأفاد من الأسلوب التصويري تصويريته أفعال شخوصه وصراعاتها الذاتية كما ذكرنا من قبل تمظهرات شخصياته ومحاولة الكشف عن نوازعها الداخلية، قبل الأسر وفي الأسر وبعد الأسر، عبر رصده لتشكلات الشخصية السردية عبر الأزمنة الثلاث، زمن ما قبل الأسر وزمن الأسر نفسه، وزمن ما بعد الأسر، ولم يترك قيس حسن الأسلوب الإستنباطي، ولكن بصيغةٍ ما بعد حداثية متمردة على الواقع ولكن تمرده ينبني على وعي شروط كتابة محاولاً توظيف الأساليب الثلاث في مُؤلفه ،معتمداً على ذاكرة شخوصه، سواء أكانت هذه الذاكرة ذاكرةٌ تاريخية او اسطورية او مجازية او اجتماعية.

بدأ العراق حربه مع إيران ودخل الجيش العراقي في عمق الأراصي الإيرانية المحاذية له.

كان النظام العراقي يحكم وفق سياسة بسمارك "الحديد والنار"، مزهواً بقوته، فيما كانت إيران أبان الثورة تُريد إعادة ترتيب أمور إدارة الدولة بعد سقوط الشاه.

المُلفت للنظر أن الحرب دارت رُحاها بين بلدين إسلاميين جارين، كل منهما يدعي وصلاً بليلى (الإسلام)، وكلاهما يرفع ويُحارب كما يدعي ويُظهر تحت راية "الله أكبر"، وكلا المُتحاربَين قد وظف التراث والتاريخ القُدسي لمصلحته، فستجد في نظام البعث فرقة "موسى ابن جعفر" وصواريخ "العباس والحُسين"، وعند النظام لإيراني معركة "مسلم ابن عقيل" التي يتباها البرلماني الإيراني نادر قاضي بور بها لأنهم قتلوا فيها 700 أسير عراقي في هذه المعركة في تشرين الأول من عام 1982(!!!) إذ كان هذا البرلماني في هذ العام قائد فوج "الإمام الصادق" للمدفعية.

وبملاحظة بسيطة للنص نلاحظ الكيفية التي يُوظف بها المقدس التاريخي لإقصاء لمُختلف والمُغاير. وكل فرقة تُظر في خطابه الإعامي أنها "الفرقة الناجية".

كان أبطال سردية قيس حسن من ضمن الأسرى الذين نجوا، ولكنهم بعد ما شاهدوه في معتقلات الأسر تحسروا كثيراً لأنهم نجوا. وكان الكثير منهم يتمنون لو أنهم قُتلوا في الحرب لا أن يكونوا أسرى يموتون في اليوم ألف ميتة من شدة التعذيب والخوف والرعب الذي شاهدوه وعايشوه في هذه المعتقلات، فقد أُودعوا في معتقل يُشرف عليه "همشري"، وهي كلمة فارسية تعني بالعربية "ابن مدينتك"، وكان هذا "الهمشري" يُمعن بتعذيب الأسرى وهو عراقي مُسّفر يكره كل جنود العراق لأنه يعتقد أنهم "صداميون"، وكأنه يثأر منهم لترحيل نظام صدام له ولعائلته.

ورغم قساوة "الهمشري" وعنفه إلا أنني لا أجد فيه وفي أفعاله وهو الجلاد سوى ضحية أنظمة الإستبداد في بلدان الشرق، فقد تعيش عائلتك مئات السنين في هذه البلدان، وتحلف بكل المقدسات وبأغلظ الأَيمان بأنك وطني وتسعى لإثبات ذلك نظراً وعملاً، لكن هذا لن ينفعك، وستبقى مواطناً من الدرجة الثانية رغم ذلك.

وإلا بماذا تُفسر تهجير اليهود من غير المُتصهينين، وهم مواطنون أصليون، بل بُناة وطن، فمنهم التاجر ومنهم الغفير ومنهم الوزير؟!!.

فلا ألومن "همشير" لفعلته كثيراً، ولكني ألوم "البعير" الذي سَفّر "همشير"، فنزع عنه إنسانيته ليحوله لوحش كاسر من سلالة الحيونات المفترسه وأقل قول فيه أنه قد صار من "الحمير".

المهم أن أجساد الأسرى صارت مرمىً لبُندقية حارس غاضب يرغب بتمزيقهم لأي سبب حتى وإن كان فعله الشائن هذا تجريب لدقّته في التصويب من عدمه، وكأنه يُصوب على زُجاجة الببسي أو الكوكولا، وربما كانت قيمة هذه العُلب عند السجانين أغلى ثمناً من الأسرى.

كان أسير حينما يحتاج للتغوط يُطوق بدائرة في العراء مُحيطها الأسر ى، فمن أراد أن يتغوط فاليفعل ومن لم يرغب ويستحي فاليتنحى جانباً. حتى دورة المياه كانت مُذلة. والغريب المُستغرب عند أسرانا أنهم في دولة إسلامية، فلماذا يُستهان بهم ويُصرون حراس هذه "الدولة المُثلى" (كما توقعوا وطِبقاً لما ينبغي أن تكون عليه) على ذُلهم وإهانتهم؟، ولماذا داس أتباع هذه الحكومة وحُراس مُعتقلاتها على إهانتهم، حتى صيروا ذُلهم وإهانتنم وتعذيبهم بطريبة ساديةً عند أسرانا، لا يكتمل معناها ومبناها إلا ترويض عقول وأجساد الأسرى.

وإنتهت حكايات أبطال قيس حسن، ولكن الذي لم ينته هو معاناة هؤلاء وأمثالهم، والذي لم ينته هو معاناة عوائلهم في كيفية التعامل معهم وتعويضهم عن سني القهر والحرمان الطوبلة في معتقلات الأسر، والذي لم ينته ولا تبدو له نهاية سعيدة في الأفق القريب هو إنتهاء "العنف" في العراق وقمع المختلف والمُغاير، فكثير من العراقيين اليوم هم أسرى الخوف والرعب الذي تنشره قوى الرعب والإرهاب المدعومة من الخارج أو المدعومة من الأحزاب السياسية الفاعلة في السلطة، فأغلب العراقيين الذين يبغون الحرية هم اليوم أسرى. لأن الإنسان الحر هو الذي يعيش وفقاً لرغباته أو تصوراته العقلية وهو الذي يستشعر قيمة دوره في الحياة ويُدرك حجم المسؤولية التي تفرضها عليه حريته، وهذه الحرية المسؤولة تجعل منه كائناً مستقلاً لا ينقاد إلا للقوانين العادلة لأنها هي السبيل لخروج الإنسان من وهم التقديس والعبودية وأسر الإنسان لنفسه لأن جميع الناس متساوون في الحقوق والواجبات فلا فضل لسلطة دينية كانت أم سياسة على أحد. وتقديرها وإحترامها ينبغي ألّا يكون تقديساً، إنما تقدير كل شخصية ينبغي أن يكون بمقدار عطائها ووفائها للوطن.

  

 

في المثقف اليوم