قراءات نقدية

الحب في المنفى: قراءة في شعر يحيى السماوي

saleh alrazukيستكمل يحيى السماوي في (حديقة من زهور الكلمات)* ما بدأه في (مناديل من حرير الكلمات) و(شاهدة قبر من رخام الكلمات). فهذه الثلاثية المتميزة عبارة عن قصيدة ملحمية طويلة من غير دراما. بمعنى أنها تهتم بالعالم وليس بالذات.

ولكن في هذه المجموعة يمكن أن تجد كل شيء إلا العنوان. فالحدائق والزهور غير حاضرة في الأناشيد الشعرية القصيرة التي تترنم بها حنجرة السماوي، باستثناء قصيدة يتيمة ومغرقة بالحزن وهي (عبير- ص 85). ومثل هذا التعارض بين العنوان والمحتويات يدل أن السماوي مدفوع في كتابته بقوة التمني لا بالواقع الذي يكيل له كل أنواع الهجاء والسباب والشتائم. ويغلف هذه النبرة الهجومية بطبقة سميكة من العواطف السالبة وعلى رأسها الإحباط وخيبات الأمل والشعور المتنامي والمضطرد بالفقدان. فهو يفتقد لوطنه كما في قوله:

كل أرصفة الغرب

لا تغوي قدمي على التسكع

وحدها أزقة ودرابين السماوة

تقود قدمي. ص 126

ويفتقد لأمه التي تستحق منه لقب (الطيبة أمي- ص 115) وكأنها هي توأم  (الأرض الطيبة) في رائعة بيرل باك. ولا يفوتني هنا التماهي لدرجة التطابق بين صور الأم الفعلية (التي يرمز لها بالمهد والأرجوحة والظل والصدر الحنون) وبين صور الأم المانحة وهي الأرض (التي يرمز لها بالبيت والحقل والسنابل والرغيف).

ومن المؤكد أن عاطفة السماوي نضالية. فهو يختار بلا تردد الطبيعة الغناء لبلاده المنكوبة، ويعمل على تصعيد هذه العاطفة لمستوى العمل الهادف الذي تتبناه الواقعية الإشتراكية في أفضل وأعذب نماذجها مثل (الدون االهادئ) لشولوخوف و(وداعا غوليساري) لإيتماتوف وغير ذلك، حينما كانت القيمة مرهونة بالعمل والإنتاج وليس بالحيازة أو التملك. وبهذا المعنى يقول:

من أين لي

بإزميل ينحت المستحيل

لأقيم للكادحين

نصبا من عرق الجباه (ص 29).

و قوله:

الفلاح

منصته المنجل

العامل

منصته المطرقة

الشاعر

منصته الورقة (ص 133).

وأعتقد أنه بالضرورة معني بالقراءة التاريخية للمجتمع وليس بالتفسير الأسطوري للجهد الضائع والمفقود. حتى أنه يقول بصراحة إن أباه (ليس سيزيف) ثم يتساءل: من أين إذا ورث الصخرة المشدودة إلى ظهره؟! (ص123).

ولكنه يجاور في معظم الحالات بين البعد الروحي للتجربة الميتافيزيقية مع ما وراءها من هموم مادية لها طابع وطني وسياسي. ولا تخلو صوره هنا من التهكم والسخرية المريرة كما لو أننا في فصل من فصول كوميديا سوداء.

والبرهان على ذلك قصيدته (نواقيس- ص 146) التي يحشد فيها سلسلة من هذه الشتائم غير النابية كما في قوله: قساوسة المنطقة الخضراء، المعبد الأبيض في واشنطن، أرسل إلينا نواقيس أبابيل...

وتتكرر في قصائد المجموعة جملة من الثوابت التي لا تخلو منها كل أشعاره، سواء العمودية أو قصائد التفعيلة والنثر.  ويمكن تبويبها في ثلاثة بنود أساسية.

الأول هو عشقه الذي لا يلين للنساء، ومن الواضح أن في خياله امرأة مجردة، حتى أنه لا يبذل ولو جهدا بسيطا في التعريف بها. فهي بالنسبة له مثل الأرض والطبيعة، عبارة عن فكرة روحية وإلهام رباني، وطيف يفيض على قلبه ويحرك مشاعر الرجولة الكامنة فيه. ولا ينحو السماوي مثل سابقيه ليرسم تخطيطا لوجه أو قامة معشوقته، بل يكيل لها المديح العشقي بلا حساب، وبصورة وابل من الأحاسيس التي تصف فحولته فقط.

ويبدو من أول قصيدة (تماثيل وجداريات) وحتى آخر قصيدة (جذام) منتصبا وعضوه في حالة تهيج وتهيؤ، بينما عضلاته منفوخة بأحاسيس الذكورة. وحين يقترب من معشوقته لا يتوقف إلا عند أسماء أعضاء التكاثر والأنوثة، وأحيانا يسميها جهارا وأحيانا بالتلميح والإشارة. فالفرج هو المرود، وحلمة الثدي هي الياقوتة، وكامل الجسد هو الزورق الذي يمتطيه ليتهادى به مع التيار، وهكذا، وكأنه الشاعر اللبناني أمين نخلة الذي يقول عن صدر محبوبته:

ياقوتة حمراء غاصت في فمي

وشقيقة النعمان قد نولتها

فالمرأة عند كليهما منبع للذة الحسية والشبق والليبيدو، ولكنها بلا صفات معنوية أو علامات فارقة كما يجب أن نتوقع من عاشق نخبوي.

البند الثاني هو قصائد الأصدقاء والتي يتصدرها إهداء لواحد من رفاق الدرب أو رفاق الكلمة مثل هاتف بشبوش وحسين سرمك حسن وكريم جخيور...

ويستغل السماوي هذه الفرصة ليسمو بالعلاقات الشخصية إلى مصاف القضايا الكبيرة. فالقلب الأبيض الذي يحمله الدكتور سرمك بين حناياه في قصيدة (صلاة مؤجلة) يدخل في صراع مستميت مع نار هذه الحقبة التي تطهو آلامنا. وترسم هذه القصيدة للدكتور سرمك صورة تتجلى فيها كل صفات النبوة والتضحية والجسارة. حتى أن السماوي لا يتردد في وصف صديقه بعصا موسى التي التهمت ذئاب الصحراء وليس ثعابين البلاط فقط. ويكاد أن يساوي بينه وبين عروة بن الورد في الإصرار والتقشف والضرب بالسيف. ويستعمل السماوي، على وجه العموم،  كل أساليب التقديس والمبالغة في وصف أصدقائه حتى يصل بهم لمصاف أبطال ماركيز المسحورين.

وبالمناسبة.

لا يتوانى السماوي عن استعمال المبالغة السحرية في الغزل وفي المديح. لكنه لا يسترسل في الهجاء ويتكل على الوصف الواقعي والتشبيه والكناية المقيدة لتجسيد وشخصنة أعدائه.

أما البند الثالث والأخير فهو سلوك البيكاريسك. ويبدوالسماوي في هذه المجموعة، على خلاف سابقاتها، متشردا ومغامرا وجوابا للآفاق، ولكن تشرده بلا دراما ومن غير الفاجع الذي يغلب على قصائده عن صداقاته المتنوعة. وأرى أن تشرده وجودي بميول سياسية. وهنا لا تفوتني المقارنة مع أبطال وشخصيات الروائي والمفكر السوري مطاع صفدي.

فكلاهما، الشاعر  وكاتب الروايات، يستعمل نفس المفردات للتعبير عن الفراغ الذي يعاني منه، ومنها التسكع، آلامي الخرساء ، صراخي الصامت. وقد اختصر السماوي علينا الطريق وحشد كل هذه الصور والمفردات في قصيدته المتميزة (تسكع) حيث يقول:

وحده حذائي يسمع

حديث قدمي مع الأرصفة

وأنا أتسكع في بغداد

متعكزا بأضلاعي.. ص 186.

وكلما قرأت هذه الفقرة أتخيل أنها جزء من رواية (الجوع) لكنوت هامبسون حيث المعاناة هي قدرنا ومصيرنا. بمعنى أننا أصبحنا في مركز دائرة الفوضى والعدم والتي يقول عنها:

لا باب للدائرة..

أنا داخلها وهي خارجها..

فكيف يدخل العصفور

إلى عشه؟ (ص88).

ويمكن أن تفهم أن الدائرة ليست وحدة الوجود ولكن وحدة المنشأ وهو فرج النساء. وربما بهذه الطريقة يتمم السماوي أركان فلسفته الجديدة عن وجودنا الطارئ في العالم والمحكوم برغبات مدنسة لا يغلسها من أدرانها غير النية النظيفة.

ويمكنني في النهاية أن أصف هذه المجموعة بأنها تعبر خير تعبير عن ظاهرة موت العالم القديم وتأخر ولادة العالم الجديد الموعود. وكما يقول هيلوس نوز** إنه  بين الإضمحلال والتعثر تتسع الفجوة ويتغوّل ظلام الحضارات المعتدية. وهذا هو موضوع قصيدته (أيها الفرح) والتي يختمها بقوله:

الطواغيت

قدوا أمسي من دُبر

ومن قُبل قدّ المجاهدون الزور

يومي (ص55).

 

د. صالح الرزوق

..................

* صدرت المجموعة عن دار تموز بدمشق ومؤسسة المثقف العربي بسيدني، 2017.

**ترجمة عروة درويش. جريدة قاسيون. دمشق. عدد 816. تاريخ: 25 حزيران 2017.

 

في المثقف اليوم