قراءات نقدية

لحظة التنوير في قصة (الفندق) لمحمود الريماوي

saleh alrazuk

توجد في أرشيف القاص محمود الريماوي قصص فاتنة وتغري بالمزيد من التأمل والتفكير، منها (رجوع الطائر) التي اهتمت بمشكلة الحرية من منطق وجودي. و(القطار) التي برعت في معالجة مشكلتنا المزمنة مع التخلف والانتظار.

ولكنه في قصته (الفندق) يضعنا أمام عدة تفسيرات. تتناول القصة حكاية شخص يلبي دعوة إلى فندق، ويستيقظ صباحا، لكن يفاجئه أن السماء مظلمة، والفندق مهجور، ولا يوجد فيه أحد غير كلب كبير الحجم .

منذ أول نظرة تلاحظ بصمات كافكا. فالقصة كابوسية، يهيمن عليها جو طوطمي تنسدل حوله أستار من الظلمات. ويغلب على القصة، التي تبلغ بطولها حوالي 3000 كلمة، التأمل الداخلي والتفكير بصوت مسموع، وملاحظة مجريات العالم مع التأكيد على مفارقته، أو الانفصال عنه والسقوط من شجرة المجتمع في بيداء الروح التائهة.

غير أن الإشارات القليلة التي يضعها الريماوي في طريقنا، عن أزمة فلسطين والنكبة والصراع الوجودي حول حق العودة وانتظار الفجر بعد ليل طالت فترته، تضيف للقصة بعدا آخر، كما في مشكلة تفجير أحد مكاتب العال (شركة الملاحة الجوية الإسرائيلية)، أو طبيعة صديقه المضيف الخبير ببناء السجون وبيوت التعذيب. إنها إشارات طفيفة تلقي الضوء على مضمون القصة ولاوعي بطلها، وبالتالي لاشعور الكاتب نفسه.

كان كافكا متخصصا بأدب الضياع والتشرد وبأسطورة البورجوازي الساخط على قدره، والذي يمكن أن تسقط عليه مشكلة التيه اليهودي وضلال الفطرة البشرية. إنما كلب الريماوي، مع أنه مرعب ومخيف، لم يكن يحمل رمزا أبويا أزمع على خصاء الابن. فهو بلا عيون نارية تلمع في العتمة (شأنه في رواية "كلب آل باسكرفيل" لوالتر سكوت). ولا هو كلب مقابر يعوي وينبح على الأرواح التي تصعد إلى السماء، لتقاطع هذا المعراج نحو الأسمى وباتجاه عدالة الذات الإلهية (كما هو الحال في جميع أقاصيص ماركيز). كما أنه لم يرفع ذيله في الهواء مثل عصا الشرطي ويلوح به مهددا كأي رمز قضيبي. ناهيك أنه احتفظ بأنيابه ومخالبه المشحوذة في الخفاء. باختصار كان كلبا مهذبا كأنه روح حارسة أو ذكرى لشخص طيب تناسخ وحلت روحه في حيوان أليف لا يضر.

لقد كان الكلب مؤنسا وشاهدا على أزمة الضيف الضائع وعلى وحشة العزلة التي سقط فيها. وليس هناك أية لمحة تماهي بينه وبين صور الشيطان، الرمز الآخر على رهاب الخصاء.  وربما بتحويل بسيط يمكن أن يكون هو الإنسان الضعيف الذي جرفته هموم الواقع ليكون على هامش حياتنا الاستهلاكية. ومثل هذه التعميمات إذا ربطتها برمزية الزمن، من خلال الساعة الكوارتز التي يرتديها بطل القصة، تصبح إشارات لها خصوصية.

لقد كان بطل القصة على ثقة تامة أن الوقت هو النهار، لكن كانت السماء سوداء، كأنه في منتصف الليل. وأعتقد أن هذا الطباق (التعارض والتقابل الذي يرفضه المنطق الواعي) قد حول القصة إلى حكاية مركبة.

- من مستوى واقعي (بداية الأحداث وخاتمتها، السهرة العامرة واقتياد أشخاص مجهولين للبطل).

- ومن مستوى رمزي ونفسي (هو الحبكة، التخبط في الفندق المهجور).

فالهبوط من الغرفة إلى صالة الاستقبال بمثابة السقوط في الحفرة الوجودية أو الاستعداد للموت. وهو ولا شك موت رمزي يحتمل أيضا معنى الهزيمة والعجز وغياب المنطق والدخول في مرحلة السبات.

وللريماوي محاولات كثيرة يستعمل فيها التلميح وليس التصريح للإشارة لقلة حيلتنا وأزمتنا مع العالم. هذا غير أزمتنا مع أنفسنا. وكل قصصه في مجموعته (عمّ تبحث في مراكش)، وبالأخص قصتاه عن بورغيس ومحمد شكري، لها موضوع واحد.. هو أننا في حالة ترانزيت، نعيش بعقل سياحي في عالم غير دائم. مع التأكيد أننا لا نفهم أنفسنا، ونقارب الذات الكلية بشكل غامض، وبعقلية اتكالية، وداخل سحابة من السديم والضباب، كناية عن تفشي الخوف من السلطات، وربما كناية أيضا عن الهرب من المواجهة والخوف من لحظة التنوير والوعي. وبهذا المعنى تجد عدة صور منها: النافذة المفتوحة على السديم والعتمة، أمنا الطبيعة التي تتسربل بالسواد، الإنارة الشاحبة والهدوء الكابي....

وعلى هذا الأساس أرى أن بحث بطل قصة (الفندق) عن النهار الضائع بمثابة محاولة لكسر جو الظلم الفادح الذي يهيمن على بلداننا، ودعوة مفتوحة لاستعادة طور التنوير والنهضة الذي مهد لعصر اليقظة، وما تلاه من إصرار على محاربة الفساد والطغيان. كما يمكنني أن أعزو لذلك معنى البحث عن الذات وعن أفضل طريقة لإدراك الموضوع.

إنها قصة شيقة وبليغة. ومع أنها توجه أسئلة أكثر مما تقدم إجابات (يمكن أن تحصي فيها أكثر من 25 جملة وعبارة بصيغة الاستفهام)، فهي تضيف لتراث كافكا الفني هذه المعاني الواقعية عن صراع جيل من المثقفين ضد أسباب السقوط والتخلف.

 

د. صالح الرزوق

.....................

  رابط القصة:

http://www.qabaqaosayn.com/content/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D8%AF%D9%82

 

في المثقف اليوم