قراءات نقدية

أضاءت على فن الهايكو

jawad wadi2ما هو الهايكو؟: الهايكو نمط شعري ياباني خالد، كانت بداياته الأولى تنحصر في حدود اليابان ولا يتعدى حيز التراب الوطني، حين كانت اليابان تعيش عزلةً كاملةً مع العالم لظروف سياسية وقتذاك، لهذا ظل يعتمد على التجربة المحلية وما يلتقط الشاعر من صور ظاهرة أمامه وتكييفها في قالب شعري ونمط معروف ببساطته ومعجميته، لكنه يوظف ادراكات حسية ليست من السهولة معرفة قصدية الشاعر الذي يعتمد على اجتهاداته الشخصية وهو يعيش في حالة عزلة كاملة عن التجارب الكونية، مما يعني أن الشعب الياباني هو مبدع بذاته بعيدا عن مؤثرات قد تغني تجربته الشعرية الوليدة كما التجارب الإبداعية الأخرى في أصقاع العالم.

وفن الهايكو هو ربط فاطن بين طبيعة هذا النمط الشعري بكل مكوناته البلاغية والمعجمية وصوره الشعرية وعلاقته براهن اللحظة التي تحيط بالشاعر او التي تستوطنه بعد اقتناصها بوازع حسي متميز، كونه من السهولة الظاهرة والبساطة في التوظيف وعمق المعنى وسلاسة التعبير لهذا الفن الخالد.

والهايكو شكل شعري ظهر في اليابان منذ قرون وله تاريخ طويل، إنه القصيدة ذات الوقع من فن اللغة، هدفها أن توحي بالمعنى والصورة والايقاع، إلى عاطفة وحالة نفسية، إنها بمثابة التدرب الروحي للتوافق مع الشاعر وما يحيط به، حين يعيش الشاعر في حالة سمو وانسجام روحي، إنها نتاج قرون من الثقافة، لا تكشف عن عذوبتها إلا للأذهان الخفية والقلوب المتيقظة، بعيدا عن التصادمات والتوقدات الكبرى، ولا للصراخ والموت، والدم.

قصيدة الهايكو هي بساطة، ورشاقة، وتعرية للجوهر، هي زهرة من حقل واسع، إنها الزمن المرصود للصمت، إنها فرصة ممنوحة لنا، لنحب كل شيء، ونتكهن بكل شيء، إنها ومضة خاطفة من ثلاثة أبيات من الشعر. 

كان رائد هذه التجربة الملفتة الأول هو الشاعر "ماتسو مونفوزا" الملقب ب "باشو "1644ـ1694"، الذي يعتبر المؤسس والمعلم الأول لشعر الهايكو، الذي يعد بشكل عام الممثل الأكثر أصالة للعبقرية الشعرية اليابانية، وكذلك الشاعر بوزون "1715ـ 1783" الذي كان رسّاما أيضا، وقد غادر قريته منذ طفولته إلى إيدو حيث تتلمذ على يد هايانو هاغين، تلميذ باشو، شاعر الهايكو الشهير، ولما مات معلمه عام 1742، غادر العاصمة ليعيش حياة التشرد والبؤس، وهناك شعراء هايكو آخرون لا يقلون شهرة، مثل عيسى، وكيكاكو، وسبانو. وغيرهم الكثير.

من بين كل الأجناس الأدبية، ليس هناك أبلغ تمثيلا للطابع الوطني من شعر اللغة اليابانية (واكا waka ) الموجود في أقدم مراجع اللغة، وقد كانت النظرة للشعر من خلال قصيدة (التانكا  tanka ) أو القصيدة القصيرة المكونة من خمسة أبيات (5 ـ 7 ـ 5 ـ 5 ـ 7 ) أو مقاطع، وهو المعبر الحقيقي عن الروح اليابانية، وكان هذا الشعر يسمى شعر "الزن" مثلما بقية أجناس ابداع الزن من حكايات ومسرح وتصوير وغيرها، وكانت قصائد الزن مكرسة للمديح أو لتفسير تعاليم بوذا، منذ عهد هيان (794ـ 1185) وكانت نصوص الواكا تماثل نصوص ال (dharani ) المقدسة "تعاليم بوذا المقدسة" معتمدة على الماورائيات مما أعطى لليابانيين تصورا بأن لغتهم مقدسة.

وضمن النظرة التاريخية لشعر زن" الذي هو بدايات لشعر الهايكو الذي نحن بصدده، والأب الشرعي له، والزن هو سحابة نورانية، اجتازت آلاف السنين، مارة بالهند، والصين، والتيبت، واليابان، واليوم في بلاد الغرب. مرتبط بالبوذية.

خرج هذا النمط الشعري من البلاط ضيق الحيز والمكان، للشارع الياباني، حيث أن اليابانيين يحبون الشعر بشكل كبير. وتحديدا الغنائي منه، ليستمر في تهذيب قصيدة الواكا عبر قرون من الزمن وبتشجيع من الإمبراطور الشاعر جوـ توبا. ومنذ نهاية القرن الثاني عشر، انتشر شكل القصائد المتسلسلة الترابط التي اسميناها قصائد "زن" لتتشكل من ثلاثة أبيات (5ـ7ـ5) مقاطع، سميت بالهايكو، أو بيتين (7ـ7) من المقاطع سميت أجكو، وجاءت هذه النتائج بسبب انقسام الواكا التقليدية. ولكن على نحو متوازٍ للرنكا النبيلة، لتنسلخ منها الرنكا الحرة. وقد اشتهرت وسط جميع طبقات المجتمع الياباني، بمن فيهم الفلاحين. اندثرت كنتيجة لتطور النمط التقليدي للأشكال الأخرى، لتبقى قصيدة الهايكاي أو هوكو أو الهايكو هي الطاغية، ويشترط في هذه القصيدة أن توظف اللغة اليابانية فقط دون ادخال مفردات غريبة عليها، تنطوي على صور من الطبيعة وتصورات حولها بما يرتبط بها من طقوس وعادات ومخلوقات حية، وكانت تحتوي بالإضافة إلى الوصف الظاهر للعيان، معاني خفية قد يتعسر على القارئ الذي لا يمتلك خلفية كافية بهذا النمط الشعري وتفاصيل المجتمع الياباني، رموزا، وعادات، وتأريخا، فهمها وإدراك مقاصدها.   

 والهايكو كان يسمى قبل ذلك ب" الهايكاي أو الرنغا" كما أسلفنا، وكانا أتجاهين تقليديين يعتمدان على فطرة الشاعر واجتهاداته الذاتية، معتمدة على البساطة في الصياغات، ولكن بنقاء ذهني ورؤية بصرية متميزة، وتأتي هذه الإضاءة على الهايكو، مؤسسة على قصيدة باشو المشهورة " الضفدعة" معتمدة على البنية الثلاثية للبيت الواحد لقصيدة قصيرة ومبتسرة تتكون من ثلاثة مقاطع و17 حرفا (5ـ7ـ5ـ) بنمط تقليدي بعيدا عن المتغيرات التي اضفاها شعراء لاحقون سعوا لتطوير هذا النمط الشعري الفاتن. ولكن باشو عمد جاهدا أن يترك لمساته الشخصية على نمط الموروث الشعري الياباني التقليدي، لتركيزه الذي بات موروثا شعريا لمن بعده من شعراء اليابان على الزمان والمكان، بتوصيف كل ما تقع عينه عليه، من خضرة ومياه ونبات وحيوان وجبال وغيرها، معتمدا على المتغيرات الفصلية، فهذا الشعر بنظري وتصور المهتمين به، هو الوصف الدقيق للطبيعة بفصولها ومتغيراتها المناخية والزمانية ضمن مكان محدّد، ولكن بتوظيفات ذهنية فلسفية عميقة، تنسحب بطريقة أو بأخرى على تفاصيل الحياة المعاشة، لتتحول إلى نمط فلسفي من الصعوبة فهمه وفك اشتباك مفرداته، المؤلفة من صيغ بلاغية وجمل قد تبدو للقارئ للمرة الأولى مفككة ولا رابط بينها، ولكنها في الحقيقة تحتاج الى ولوج حقيقي لمنظومتها المعجمية وطريقة الربط بين مكوناتها لتعمل كولاجا شعريا غاية في التوظيف الجميل الذي تختفي وراءه أفكار وقيم يريد الشاعر توصيلها للمتلقي، وأرى كشاعر عربي، أن هكذا نمط شعري يحفّز بقوةٍ، قارئه أن يشارك الشاعر من قريب أو بعيد في صياغة النص ولو نظريا، وهنا تكمن قوة وفتوة هذا النمط الشعري الدائمة والباذخة  حقا.

وأجمل تعريف لهذا الفن أجده على لسان الشاعر الأمريكي جاك كيرواك، الذي اهتّم كثيرا بالهايكو، وأصدر ديوانه الشهير الذي أسماه "كتاب الهايكو"، مبتدعا الهايكو الأمريكي الذي لا يبتعد عن الهايكو الأصلي، بتزاوج فن البوب والبلوز وغيرها من صيغ الشعر الأمريكي الأكثر شعبية مع فن الهايكو، حيث يقول:

"الهايكو هو أن تُبقي عينيك ثابتتين على الموضوع، والهايكو الأفضل يمنحه الإحساس القادم من النظر إلى رسم عظيم، مثلا ل (فان كوخ) بفعل قوة النظر". وكيرواك معروف بشاعريته المميزة في فن الهايكو، التي اعتبرها النقاد إضافة وحافزا لبقية شعراء العالم ممن يعشقون هذا الفن، أن ينحو منحاه، حيث أنه بفطنته الشعرية المعهودة، وظّف في قصائده: الفصول، الريح، الغسق، الفجر، الضباب، الطيور، الجداجد، القمر، النجوم، كلها تناسخت مع رؤاه المعاصرة إلى جانب تقنيات الهايكو التقليدية.

ولكن النقاد اعتبروا أن ما كتبه كيرواك هو "السنريو" القريب من الهايكو وليس الهايكو ببنائه وتراكيبه ومنشئه الياباني، والسنريو هو مقطع ثلاثي يركّز على الطبيعة الإنسانية، وهذا ما ينطبق على الهايكو العربي الذي أطلقوا عليه "هايكو" تجاوزاً.

فحين نأخذ هذا المقطع الشعري الجميل لباشو:

بركةُ ماءْ

نطّةُ ضفدعْ

صوتُ الماءْ

ثلاث جمل شعرية يبدو أن لا رابط بينها، ولكن حين نذهب بعيدا في فهم الصور الشعرية بتوظيفها المعجمي، يمكننا أن نعمل كولاجا شعريا نتوصل من خلاله إلى مقاصد الشاعر الذي لم تكن قصيدته اعتباطية، بل بصياغة ملتبسة قصدا، تتوزع بين السكون والحركة وتوظيف المجسّات الحسّية للضفدعة، لتتحقق فكرة فلسفية بكل تداخلاتها الذهنية الخالصة، وهكذا بقية النصوص الشعرية، لنؤكد على ما ذهبنا إليه من أن المتلقي هنا يصبح شريكا قريبا للشاعر في صياغة نصه. ويمكننا أن نضيف توصيفا أدق من ذلك:

أن الزن وبالتالي الهايكو، هو سلوك ذهني بطرق مختلفة تماما، لإدراك الواقع المحيط، ذلك أن الشاعر يرى الشيء عاريا ومجردا، دونما سابق معرفة ذهنية، ودون تشويش أو انفعالات، مثل زهرة، حجر، حيوان، كائن ملفت، طير، أو ضفدعة، كما جاء في نص الشاعر باشو أعلاه.

شاعر آخر يشار له بالبنان باعتباره من رواد شعر الهايكو والمقلِّد للمعلم الأول باشو، ذلك هو الشاعر بوسون بوسا "1716ـ 1783".

ويمكننا من خلال متابعة جادة وعارفة لنصوص الهايكو، أن نخرج بنتيجة هامة تلك هي: أن شعر الهايكو هو "رسم لصور الحياة بكل مكوناتها". من توظيف الأمثلة والحكم والأقوال المأثورة، معتمدا بالمطلق على الحواس، ويمكنني القول، أن الشعر كماهية إبداعية تعتمد على حواس الشاعر وتلقفه للرديء والجميل في الحياة البسيطة، ليسقط نظره عليه بطريقة بصرية مغايرة للمألوف، أو يتلقاه كفكرة وبالتالي يأتي الاشتغال على البياض، وهذه المدارك الشعرية هي التي تميز شاعر عن آخر وتجربة شعرية عن غيرها، بمواصفات نقدية صارمة.

خضع شعر الهايكو شأن بقية التجارب الشعرية الكونية الأخرى، إلى تغييرات في بنية النص وبلاغته ومواد تناوله، ولكن بفكر فلسفي أنضج وأكثر فهما، ليصبح نصا مفتوحا لتهشيم الأساليب التقليدية التي كانت بمثابة العائق في اطلاق مخيلة الشاعر، شأن ما جرى على الشعر العربي والفرنسي والانجليزي وغيرها من تجارب شعرية عالمية، نتيجة التطور العلمي والفكري والفلسفي، والخروج من نمطية وجاهزية التفكير التقليدي وقوالبه المعيقة، حين أحدثت ثورة شعرية فعلية هشّمت القوالب الجاهزة وأعتقت الشعر من أساليب تقيّد حركة القصيدة التي تحررت كثيرا، حتى انفتحت على عوالم أكثر اشراقا وعطاء وتوظيفا لغويا، بأساليب تحاكي الراهن الشعري وضرورات التحول الأساسية في بنية القصيدة من خلال توسع معرفي وادراكي كبير في فكر المبدع المتطلع لتجارب خارج حدود وطنه والتلاقح معها، كتجربة الرائد بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري وحسين مردان، وغيرهم الكثير. ليمتلك الشاعر ذاته الشاعرة المتحررة من قيود الكتابة التقليدية، ولكن بنسق شعري ليس متاحا للكثير ممن زاحموا الشعراء الحقيقيين، وبالتالي يتضح الغث من السمين من خلال القراءة الفاطنة لمثقف طليعي يعرف كيف يتعامل مع حالة التوحد مع النص الشعري، اعتمادا على مرجعيته، وتفكيره المتقدم زمنا، ومكانا، ليمنح النص المقروء قيمة فنية شاعرة مؤسسة على تقنية الكتابة الجادة.

 ذات التغيير الشعري لمسيرة روح التجديد الضروري المطلوب حدث لشعر الهايكو الياباني.

يقول الباحث المغربي سعيد اكرامي في ترجمته لكتاب ريو يوتسويا (شاعر وناقد ياباني) والموسوم: "انطولوجيا الهايكو الياباني"

إن التجريد والتعميم في شعر الهايكو هو مطلق الغياب، يعتمد على عدة مميزات هي:

1ـ إنه قول لحظة بلحظة في زمان ومكان محددين.

2ـ يعتمد الجملة الناقصة كما الحياة، فهي لا تظهر أسرارها الخفية، جمل إسمية في الغالب معززة بمصدر، وقليلا ما نجد جملا فعلية.

3ـ توظيفه للحواس: اللمس والذوق والسمع والشم والبصر، لتوظف كإدراكات مادية من الواقع الملموس وليس كاستدعاءات عقلية.

ويعني الكاتب هنا أن شعر الهايكو يغاير تماما في طريقة صياغته، النمط الشعري المعروف والمعتمِد على الأحاسيس والمشاعر ودربة الكاتب والمعجم اللغوي وبنية القصيدة بموسيقاها الداخلية من خلال المفردة المنتقاة بعناية شديدة، فارضا قسوته الإبداعية على أن ينتج نصا متكاملا بعيدا عن الادراكات الظاهرة للعيان، كما في شعر الهايكو.

4ـ يوظف الهايكو حالات هزلية، تتقصّد السخرية وبث حالات الفرح والابتسامة، لتتحول المواقف الصارمة في الحياة إلى حالات من الانتشاء المفرح.

وهذه الميزات لبنية النص، تغيّرت بمساعي شعراء لاحقين أمثال "شيكي ماساواكا: 1867ـ 1902"، الذي اعتمد الصفاء الذهني. بإطلاق العنان للخيال الشعري، وهذا بحد ذاته يعتبر تحررا من قيود الهايكو الموروثة منذ عهد الشاعر باشو.

يلتقط شاعر الهايكو أية لحظة حياتية تزحمه مهما كانت بساطتها كإحساس منه بسعادة قصيرة.

يقول شاعر الهايكو الياباني الشهير "كيوشي تكهاما"

"أن الهايكو هو التعبير العفوي عن المشاعر والحياة من خلال فصول الطبيعة الأربعة".

هنا ينبغي أن نشير للشاعر إيبيرو نكاتسوكا 1887ـ 1947 الذي يعتبر المتمرّد الأول على قوالب الكتابة الجاهزة، بإقحامه أسلوب المشافهة الشعرية، لتتحرر قصائد الهايكو من صرامة المقاطع السبعة عشر ليقوده جهده الإبداعي لتأسيس " الهايكو الحر".

هناك الكثير من الشعراء العرب، شأن شعراء أوربا وأمريكا وبقية شعراء العالم، خاضوا هذه التجربة وتمثّلوا بها، ومن أشهر الأسماء الشعرية في هذا المجال، الشاعر محمد الأسعد الذي يعتبره النقاد أول شاعر عربي قام بترجمة وكتابة شعر الهايكو بكثير من التمكّن والتميّز، يشير هذا الشاعر والمترجم والممارس لشعر الهايكو، بأن "الهايكو يتّسم بالانسجامات اللغوية التي تنسج خيوط ثلاثة أسطر بجمالية جرس الألفاظ والحركات الاعرابية والميزان الصرفي، بالإضافة الى السمة البصرية التي يسميها "لغة الحضور" وصولا إلى لحظة الاستنارة".

هذه التوصيفات العارفة بماهية الهايكو تمنح الانسان ما يحتاجه من الصفاء والنشاط الذهني ومن اثارة وفرح بلذة الكشف.

 والهايكو يختلف عن بقية التجارب الشعرية العالمية التي لها من المساحات ما تجعل القصيدة تتحرك في كل المدارات، أما في الهايكو فالأمر مختلف تماما، كونه لا يمتلك الحيز لفعل غير شعري، لشدة الإيجاز اللغوي واقتصاده.

أن للهايكو القدرة على الانتشار خارج حدود بيئته ليغزو آداب دول مختلفة في بلدان الشرق الأقصى وآداب الغرب، فأكّد حضوره القوي والمؤثر في الهند والصين وروسيا وأوروبا وأمريكا وعالمنا العربي كذلك، بسبب قدرة هذا الفن على مخاطبة روح الانسان أينما كان، فهو يشتغل بمفردات الطبيعة، وهي أم البشرية جمعاء ومحور الوجود الانساني. ونجد من خلال القراءة الفاحصة والعاشقة لهذا الفن، أن هناك مشتركات كبيرة بين الشاعر والمتلقي، حيث يكون، بغض النظر عن موطنه وجنسيته ولغته، ليمتلك احاسيس تعتمل بدواخله من خلال قراءة نصوص الهايكو، وكأن الشاعر يتقصده هو، حتى وإن كان تواجده في أصقاع كونية مترامية، وهنا تكمن عظمة هذا النمط الشعري الخالد.

يقول المترجم فوزي محيدلي في مقدمته لترجمة شعر الهايكو:

"تتوخى قصيدة الهايكو الإيجاز وضغط المعطى الكلامي. انما تترك الكثير مما لا يقال، مقترحة بعض الترابط والاسباب الموجبة، لكن نادراً ما تجعل ذلك واضحاً. تعمد قصيدة الهايكو النموذجية الى وصف شيء أو عنصر طبيعي، زهرة، حيوان، أو مكان، متضمنة علاقة بين ذاك المدرك أو المحسوس وبين الشعور الإنساني أو الحالة الذهنية، كذلك تعتمد قصيدة الهايكو بشكل مكثف على لغة شعورية من دون أن تكون قَطْعية أو تعريفية محددة. هكذا، بدلاً من الاستنتاجات والملخصات، إقفال مناقشة أو أجوبة محددة، تتوخى الهايكو فتح الفضاءات، وإيقاظ مروحة من الاحتمالات الذهنية".

وقد نال هذا الفن الاعجاب وتبناه شعراء عرب كثيرون، حين وجدوه مغلّفا بالرمزية المكثّفة، سيما أولئك المحاصرون بقوانين صارمة من أنظمة شمولية، بتوظيف المفارقة والتكثيف والايجاز، الأمر الذي ساعدهم في إيصال الفكرة المبدعة للقارئ دون تحسس الرقيب المبتلي بالسطحية ورؤية الأشياء عارية دون الغور في مضمون النص، لسذاجته طبعا.

وهنا ينبغي الإشارة أن الهايكو الذي يكتبه الشعراء العرب هو هايكو عربي وليس يابانياً في كثير من الحالات، أسميناها شذرات، أو شعر الومضة، لا علاقة له بقوانين كتابة الهايكو، له خصوصيته واشتراطاته ولغته ومعجميته وحتى صوره، ومن أشهر ما تناول هذا الموضوع المقارن بين الهايكو الياباني وصنوه العربي، الشاعر جمال مصطفى في مقالته الموسومة" مسبحة الهايكو" المنشورة في "المثقف العربي" مذكرا بأهم الخصائص لكتابة الهايكو الجيدة بنظره "لفك الاشتباك بين الهايكو الياباني ومقلده الشعر العربي" هي:

ـ يُكتب الهايكو بثلاثة أسطر تمثل الرأس والمتن والخاتمة، وما زيد أو نقُص عن ذلك يعتبر خروجا على النمط المعروف.

ـ أن يكون السطر لافتا للنظر وليس طويلا.

ـ التركيز على أن اضاءة النص تعتمد على السطر الأخير.

ـ السطر الثاني بمثابة الحشو الذي يتجنبه أو يسقطه شعراء الهايكو العرب.

ـ ضرورة الابتعاد عن المجازات والتزويق اللفظي والزخارف الشعرية، لأنها ستبتعد عن نمط الهايكو ذو الطاقة الدلالية في تشكيله.

ـ أن يكون الهايكو سهلا وبسيطا من الخارج وذو معنى عميق تحت السطح.

ـ ممكن اللعب على الكلمات لتحقيق مبدأ الاثارة الشعرية.

ـ الابتعاد عن التحدث عن الذات وعدم التركيز على فعل المتكلم.

ـ الابتعاد عن توظيف الفعل لأنه يشتت التركيز.

ـ لا وجود لتسلسل منطقي وطبيعي للجمل الشعرية.

ـ الابتعاد عن حروف الربط مثل "أو، أم، ثم، كما...

ـ من الممكن توظيف الوزن الشعري.

ـ تقنية كتابة الهايكو:

(ماذا، متى، أين) مثلا:

غصن أجرد (أين)

غراب (ماذا)

عتمة الخريف (متى)

ـ تقنية المقاربة:

ضباب تشرين

عمتي العجوز

تسأل من أنا

هذه المجاورة تخلق تعتيما وضبابية مطلوبة في هذا الالتباس في الفهم.

ـ تقنية التفتح التدريجي حيث تكون الضربة الأخيرة هي خاتمة الفكرة وذروتها.

على جرس المعبد

تنام

فراشة

ـ تقنية الانتقال من العام الى الخاص. أو من الجزئي الى الكلي وبالعكس.

السماء كلها

في حقل الزهور الفسيح

زهرة الخزامى

ـ تقنية التلغيز. وغالبا ما نجد حل اللغز في السطر الثالث.

الزبون يشتري لغيره

البائع يطرد فكرة الاحتفاظ بواحدة

محل بيع الشواهد

ـ تقنية اللعب على الكلمات:

وهي تقنية معروفة لكل الشعراء لتوظيف الصور البلاغية ذات الغموض مثل التورية، بمعنى أن الهايكو يقول شيئا والمتلقي يفهم شيئا آخر.

وهناك العديد من التقنيات الرئيسية والفرعية مثل تقنية التضاد وتقنية المشهد وتقنية التعليق وغيرها.

ننتقل إلى قصيدة الومضة العربية ومقارنتها بالهايكو:

ترتكز قصيدة الومضة على تكثيف اللغة والتركيز الشديد واعتماد الاستعارة والصيغ البلاغية، دون تحديد لعدد الأسطر ولا موضوعات تداولها، وأحيانا تبدو الفوارق بين النمطين غائمة ومن الصعب التفريق بينهما. وهناك فارق شاسع بين الهايكو وقصيدة النثر، ذلك أن هذه الأخيرة تعتمد البوح والسرد وما شابه، لا نود التطرق اليها لأن الفروق واضحة وجلية.

وشعراء الهايكو بحسب الشاعر "جمال مصطفى" ينقسمون إلى ثلاثة أنواع:

الأول: شاعر متخصص بكتابة الهايكو ولا يكتب سواه.

الثاني: شاعر محترف ينظر للهايكو باعتباره فضاء تعبيريا ويوظفه لأفاق تجريدية أو فلسفية توسيعا لأفق اشتغاله.

الثالث: شاعر فنان وغالباً ما يكون رساما ينظر للهايكو من مرجعيات فنية.

الهايكو والشعراء العرب:

لا زمن محدد لتوظيف الهايكو من الشعراء العرب، ولكن ما تقوله المراجع أن الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، ذيل قصيدته باسم (الهايكوـ تانكا) عام 1968:

هايكو:

يا بابَ ديرتِنا السميكْ

الهاربونَ خلفَ صخرِكَ السميكْ

افتحْ لنا نافذةَ الروحِ

تانكا:

أجابَ شيخٌ يحملُ الفانوسَ في يديِهِ

يوزعُ الشمعاتْ

على نثارِ دمِنا المسفوكْ

وحينَ سلّمنا عليهْ

بكى... واصفرّ وجهُهُ... وماتْ

وهذا النص تفعيلي كما يلاحظ القارئ، ويبدو من خلاله، أن الشاعر المناصرة على اطلاع بشعر الهايكو، لكنه ابتعد كثيرا عنه ما عدا بعض الإشارات مثل: مقارنته بين الباب والسميك.

ومن الشعراء العرب الذين اهتموا بشعر الهايكو هم:

الشاعر المغربي أحمد لغليمي، في ديوانه "رسائل حب إلى زهرة الأرطاسيا" خصص هذا الشاعر ديوانه للهايكو، يقترب الشاعر كثيرا من الهايكو:

لشدةِ الأزهارْ

عدّلتُ عنْ

عبورَ الغابةْ

*

القمرُ في البركةِ

تبعثرهُ

ضفدعةْ

ومن الشعراء العرب في سوريا: محمد الأسعد، سبق ذكره، ولؤي ماجد سليمان ورامز طويلة. وللهايكو حظوة كبيرة في سوريا لكثرة المشتغلين عليه من شعراء ونقاد ومترجمين ودارسين، وتم تأسيس مجموعات لعشاق الهايكو في سوريا.

على جرفٍ صخريْ

تتلاطمُ الأمواجُ متلاحقةً

لا تطالُ ظليْ

(رامز طويلة)

 دون أن ننسى تجربة كاتب هذه المقالة الشاعر جواد وادي في ديوانه الصادر حديثا والذي أسماه "سيرة الفصول" والذي يقترب كثيرا من شعر الهايكو، وهو التجربة الأولى في كتابة الهايكو:

كلّما تناثرَ الزجاجُ

رفعوا شاراتِ النصرِ

وبدأتِ الأهازيجُ

*

مَنْ يزاحمُ الطيرَ

في علوهِ...

لا يسمعُ زقزقةَ العصافيرِ.

 

جواد وادي

 

في المثقف اليوم