قراءات نقدية

دراسة في رواية (انقطاعات الموت) لجوزيه ساراماغو

الماهوية الاجناسية ونواة المشخص السردي في اللارواية.. الفصل الأول ـ المبحث (3)

توطئة: ان مبعث دقة مشروعية آليات رواية (انقطاعات الموت) لساراماغو، همت إلى نقل قارئها إلى مراحل تشاطرية بالتصديق الواهم الذي جعل من عموم علاقات غياب الموت وحضوره، كأداة سيمانطيقية خاصة بنوعية محاور ربطية شبه مفتعلة إلى كونها ارتبطت بآليات السارد العليم كفرضية كيانية محتملة في أوج زيفها وزورها الواهم.إن ضروب الاختلاف التفصيلي في أدوات الرواية جعل من مادة موضوعاتها حكرا على مصداقية السارد العليم وحده لها، لذا بدت في أوج مراحلها الأخيرة وكأنها تعالج جملة تمثيلات ارتبطت بعلاقات أكثر إيغالا بالافتعال واستثنائية كون ممارستها الدلالية لا تخلو من محددات معينة في اللازمن واللامكان واللا العاملية الشخوصية، أي إنها فضلت ـ أي الرواية ـ أن تكون بذلك المستوى الاخباري الحاشد بصوت الزهد ومثاقفة المتصلى بمركزية ثنائية (المؤلف = السارد) شرحا ووصفا وتواصلا بالبنية الحكائية نحو تدابير متشعبة من الملفوظ ومنعطفاته الاسقصائية بوسائل الاقتضاء والربط بجملة ووحدة ومستوى من تحولات أوجه السرد الملزم بالمتوليات الخارجية من الخطاب الخارجي. وعبر هكذا جملة متواليات سردية، تبين لنا أن سلسلة صياغات المحكي ترتبط بوحدات إجرائية مؤولة ومركبة، كثيرا منها ما تعدى وظائف الرواية ومفترض الشكل والأداة الروائية، لتدخلنا في مستوى بعيدا عن ساقية (الزمانية ـ المكانية ـ الاحوالية) وقبل الخوض في شواهد من الانماذج النصية في بعض من المراحل الأخيرة من (رواية اللارواية) يمكننا الاشارة بالقول بأن أسلوب (جوزيه ساراماغو) في حدود تجربة (انقطاعات الموت) لا يعد من الخواص في صناعة الشروط الروائية الاجناسية الكامنة والمتكاملة، بقدر ما كان يسعى الروائي إلى تقديم تجربته في هذا النص السردي ضمن شرائط نتاج (اللارواية) أو لربما هي تجربة خارج نمطية الرواية التقليدية الموزعة بين (بداية ـ حبكة ـ عقدة ـ شخصيات ـ نهاية) لذا أقول ان من الواضح أن أدوات ساراماغوا مفتوحة على مستوى من الميتاروائي الذي راح يتكفل بزمامه صوت السارد وحده، دون إظهار إلا نخبة هامشية من الأدوار الظلية من الشخصيات: (بما إنك لم تخرج قط من هذه القاعة، فإنك تجهل ما الذي يستخدم في هذه الأيام. / ص208 الرواية) وبما إن ضروب التحاور بدت أكثر إحالة في القيمة التعليلية، لذا بدت معها كل الانماذج الشخوصية متحاورة في مجرى وقائع أكثر خارجية بأداة التأويل الضمني.وعلى هذا النحو تتحدد لدينا أفعال الأصوات المتحاورة كهيئات متداخلة ومتفارقة في الإحالة والسياق والنوع الخطابي، خروجا على درجات قيود الشكل والترتيب البنائي والمحصلة المضمونية الدالة.

ـ الموت والااستراتيجية الجديدة في نزع الحياة

وحتى تتميز خاصية وسائل الموت بأعتباره النموذج الأخص الذي لا تحصى مقاديره في استدعاء كل من يوجد ضمن نطاق استجابته، لذا صار من الضمنية والسرية والتقانة الممكنة أن يستدعي الموت كل من قد حان أجله إلى مراسلته في حدود مسلك أقرب ما يكون إلى موظف ساعي البريد: (لحسن الحظ أنني رأيتك يا سيد فلان، فأنا أحمل رسالة لك، وعلى الفور يظهر بين يديه مغلف بنفسجي ربما لا يستثير اهتماما خاصا في البدء، إذ يمكن أن يكون سفاهة أخرى من سادة الدعاية المباشرة، لو لا الحظ الغريب الذي كتب به أسمه، الشبيه بخط الفاكس الشهير الذي نشر في الجريدة ./ص140 الرواية) تتميز مخيلة ساراماغو بطاقة تأليفية تعتمد تقديم كل المقتضيات التحاورية في بنية شرائط المحكي.وبشكل واضح فهذا الاسلوب من النوع الأكثر دمجية في أنساق الحتمية في مفهوم السرد.لذا فإن علاقة المرسل برسائل الموت غالبا ما تتسبب بحالة من المرسل إليه أو بما يشابه عملية القبض على الروح وإخراجها من البدن.وبمجرد شروع ذلك المرسل إليه بفتح ذلك المظروف البنفسجي الكئيب الذي يحتوي بداخله ورقة مخطوطة بخط ركيك وغريب: (الرجل يقف هناك ثابتا، وسط الرصيف، بصحته الرائعة، ورأسه المتين وفجأة لم يعد العالم ينتمي إليه أو هو لم يعد ينتمي إلى العالم./ص141 الرواية) هذا الأمر الذي تعرض له أغلب الشخوص ممن تسلموا تلك الرسالة البنفسجية.

ـ إشارات الهامش الشخوصي ومقتضيات زمن الراوي .

لعل أن فعل القراءة للمتلقي لأهم مراحل (متن ـ مبنى) لرواية ساراماغو، يعاين ذلك الراوٍ المستفحل على مناصات ومقتبسات وإحالات العلاقات الوظائفية في البنية الدلالية في النص، ولدرجة وصول التوتر إلى أعلى مستوى من الوحدات السردية المكنونة في الشكل التجريبي ومقاصده الروائية .يمكننا القول هنا بأن نص الرواية (انقطاعات الموت) من النصوص التجريبية التي أحدثتها الحساسية الجديدة في النوع الروائي، وذلك لأن أغلب وظائف النص لا تتحلى بأقل تقدير إلى سلامة النوع في الرواية النمطية، لذا ظل حدوث أنساقها في علامات (أصوات مروية) عن مخيلة (السارد العليم ـ المؤلف) اللذان اختارا موضوعة الموت (حضورا ـ غيابا) كعلامة تجريبية في تثوير منظور فضاء اللاملامسة المباشرة له مع إدراك الذوات اللافعلية ومسارها المسرود في الحيز اللاروائي.

1 ـ الرواية وصناعة النوع التفاعلي في النسيج اللاروائي:

لعل أهم الأنواع السردية تحديدا هي الرواية، وذلك لكون هذا النوع أكثر شمولية وانفتاحا في شكله وعلاقاته ومكوناته بدءا من الحكاية إلى المتن وحتى مبنى الخطاب. تقودنا الأبعاد الاسلوبية والبنائية في عالم الرواية (جوزيه ساراماغو) إلى التعرف على تجربة مطروحة بكافة منطلقاتها في الرؤية والشكل والمضمون ـ تغايرا وتحولا ـ فالنوع الشكلي الذي اعتمده ساراماغو عبر روايته (انقطاعات الموت) مكفولا بتضافر الوحدة المسرودة على موقعية (الراوي ـ الاخبار ـ إجمالية السرد) وهذا التضافر في نوعه أخلى النص الروائي من أهلية مقوماته الروائية كـ (الزمن ـ المكان ـ الشخصية) ما راح يتجلى أمامنا ذلك الاطراد بمحتوى صوت السارد العليم وهو يتبنى جل عرض تجليات المحتوى في المكاشفة والتمثيل، وليس في محض علاقات متكونة من الأدوار الشخوصية وما تتبعها من مؤهلات تقليدية في فن الرواية.

ـ تعليق القراءة:

أقول في ختام دراسة مباحثنا لرواية (انقطاعات الموت) من أن النهايات العقدية للقرن العشرين برزت لنا أسلوبا جديدا في التجربة الروائية (الانجلو ـ امريكية) وقد ارتبط هذا الاستحداث الروائي بمفهوم الحداثة التي منحتنا هويات نوعية للشكل الروائي، وقد تعارف هذا الاتجاه لدى نقاد الرواية بما يسمى (ما بعد الحداثة) وهذا الوضع التحولاتي وضعنا إزاء مهارات جمة في الكشف عن بنيات روائية ذات أبعاد نوعية اهتمت بإضفاء (الميتانص) داخل مستويات وآليات أصعدة البنية الروائية، وبهذا يصبح (الميتاروائي) محددا داخل أوجه بنيات صغرى وكبرى في المتن الروائي ذاته، كما الحال عليه في مستوى تجربة وحدات ودلالات نص (انقطاعات الموت) ففي هذه الرواية ـ اللارواية ـ تبرز جوانب خاصة من مجرى المحكي المعدول بمتفصلات وقائع صوت (المؤلف ـ الراوي) إي أننا نجد أقوال الشخوص وأفعالها منظومة داخل الصوت السردي (الخارجي ـ الداخلي) اقترانا بموقع السارد الذي لا ينفك عن تقديم المادة المحكية عبر صورة البعد الذاتي للراوي والمؤلف من خلفه.ولأجل توسيع أفق المقاربة أقول بأن أغلب روايات ساراماغو يمكننا قراءتها على أساس من كونها وحدات نصية مسكونة بسلطة السارد العليم حيث تحكمها طرائق (ميتاروائية) منظورة ضمن مشروع فرض المغاير كرؤية انسجامية ـ تفاعلية، مع تحولات الآفاق النصية الموغلة بالعلامات والاشارات التعاقبية واللازمنية الواقعة بين حقيقة مرجعية النص ومقاصده التمفصلية الجديدة المتأرجحة بين صوت النص ومحموله المضمر خارج اللأطر النمطية من مصفاة المشخص في نسيج نصوص اللارواية.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم