قراءات نقدية

جمعة عبد الله: حكايات يوسف في الحب المقتول في رواية (قصة يوسف) للاديبة رسمية محيبس

يصدمك الفضاء الروائي في الصياغة والتعبير والرؤية، في أحداث سردية مدهشة في تفاصيلها ومعطياتها في الطرح والتناول، كأنها تؤكد، بأن لكل زمن له يوسف يحمل صخرته على كتفه بأشكال مختلفة، ولكن يبقى البئر هو السائد والمسيطر على مشاهد المعاناة الحب والواقع، ويقول الكثير من الحكايات، تستمد قوتها وخامتها من مجريات الواقع الفعلي، من عقلية وثقافة المجتمع الظالم، ومن الاعراف العشائرية المتشددة تجاه ظلم واجحاف حق المرأة وسلب إرادتها بسيف القتل أو في جرائم غسل العار، حتى في تعاطي الحب البريء في نقاوته و طيبته وبساطته وعفته، كأن هذا الحب العفيف خطاً احمراً للمرأة والشرائح الفقيرة المظلومة، ولكن هذا المجتمع يبيح زواج القاصرات في عمر الطفولة، واغلبهن لا يتحملن اعباء الحمل، ويتعرضن لموت عند الولادة العسيرة، وهن لم يخرجن بعد من أحلام الطفولة البريئة ولعب الأطفال. لذا فأن المرأة بصورة عامة والريفية بصورة خاصة، تواجه جملة من الصراعات الاخطبوطية في الحرمان و الاجحاف والظلم. الاديبة (رسمية محيبس) تعاملت بجدية رصينة في كشف عيوب المجتمع (العشيرة. التقاليد. السلطة) في الحب في البيئة الريفية والفقيرة، بحكايات الحب العفيف النزيه في برائته ونزاهته وبساطته. نجد أن المعادلة غير متكافئة من الإجحاف بحق المرأة وخاصة الريفية، في مقابل التمسك المرأة بالحب العفيف والنزيه كسلاح تقاوم به الحياة والظروف الصعبة، لتدلل على قوتها في الحب، تجاه ضعفها في معطيات المجتمع الأخرى، أي بتعبير آخر نور الحب الطاهر بالوفاء يضيء الاحساس الداخلي، تجاه ظلام المجتمع الدامس. من هذا المنطلق توجهت الاديبة الى اعماق مشاعر والحب واحساس العشاق العميق بهذا الشغف واللهفة، بشخصيات يؤطرون الصورة الجميلة للحب في حكاياته، ليس الغرض استنساخ صور وحكايات الواقع، بل وضع الواقع في مجهر الجدل والمناقشة والتأمل والتفكير. ووضعنا أحداث السرد الروائي ومجرياته المتلاحقة على صفيح ساخن من أحداث تراجيدية ودراماتيكية في شخوص الرواية وكيف تعاملت الأديبة (رسمية محيبس) مع شخوصها أو مخلوقاتها، الذين حولتهم في نهاية المطاف الى جثث واموات، وكأنها تسير في طريق معبداً بالجثث المتناثرة هنا وهناك بشخصيات الروائية، هذا يضعنا أمام سؤال وتساؤل وجيه: هل هي نزوة عابرة ارتكبتها الأديبة تجاه مخلوقاتها ؟ أم أنها تريد ان تشير الى معنى ودلالة بليغة التعبير، بتحميل الواقع الظالم تبعيات اجرامه، ومعاناة المرأة، وظلمها حتى في اختيار الحب العفيف الذي أن يقتل بدم بارد، أن ينهزم بالخيبة والإحباط، لتدلل بأن المجتمع غير صالح للحب، وكانه يحرث الحب في رمال الصحراء، غير صالح للبقاء، فما على العشاق ويوسف الذهاب الى العالم الاخر، ربما يكون أكثر عدلاً وإنسانية، من ظلم الواقع فوق الارض، الذي يكره الصدق والنزاهة والعفة، لانه تعود على التزييف والتجاهل والظلم والاجحاف والخداع. بذلك تعاملت الاديبة بصدق وحقيقة من معطيات الواقع رغم مرارته كالعلقم. وبراعة النص الروائي، استلهام في تناص بشخصية النبي يوسف والبئر، مع يوسف الجديد، الذي يحمل صفات وخصائص وسلوك يوسف القديم، في الجمال والسحر كما تقول اسطورة النبي يوسف (له بعض سمات النبي يوسف الذي تقول الأسطورة بأن الله خصه بنصف الجمال وترك لبقية البشر النصف الآخر) ص12، ولكن كما أبتلى يوسف القديم بالبئر، ايضاً ابتلى يوسف الجديد بالبئر الواقع الحياتي، حيث تهالكت عليه الازمات والمشاكل في حكايات الحب، رغم انه يفيض بالطيبة والصدق بكل مشاعره وإحساسه العميق، أن يسمع آهات وانين الحب المقتول من عمق شخصياته تجرعت مراته وافضت بكاياتها الى يوسف، يوسف المكافح بعقليته المتفتحة على الثقافة الإنسانية والأدب العالمي الانساني، يوسف ابن الريف والطبقة الفقيرة، عاش ظروف صعبة وقاسية، وكان يطمح الخروج من الواقع المأزوم بالتغيير، الذي يستجيب لطموحات وآهات الطبقة الفقيرة، والظروف القاسية للبيئة الريفية التي تتحكم بها الأعراف والتقاليد العشيرة المجحفة ضد المرأة والحب (لم تمنحني الحياة بعد الوقت الكافي، والمناسب لي كما أرغب يا صديقي، نحن الفقراء لا يحق لنا أن نحب ونستمتع بالحياة يا عزيزي، الحياة بالنسبة لنا مجازفة كبرى، ولا أخفيك بأنني حظيت بمحطات مضيئة شعرت من خلالها بالأمان هنا، لكن في أعماقي شيئاً لم يريوِ بعد ! أنا ابحث عن الحنان، ولم أحظَ بعد بحضن دافىء، وها أنا أخرج كما تراني فارغ اليدين، أنها مجرد محاولات، لكنني اقفز في الفراغ) ص160. واصل تعليمه الجامعي بالانتقال من الريف الى المدينة (بغداد) وانخرط في الكثير من النشاطات الادبية والفنية والثقافية، وصاحب شخصيات مرموقة في الوسط الثقافي والأدبي، وواصل ثقافته في الغرف من ينابيع الاصيلة من الادب الانساني العالمي، وتعامل مع الأشياء بواقعية رصينة وهادفة، وتحاشى الانخراط في السياسة والحزبية والخوض في غمارها الصعب، وكسب ثقة واحترام الناس، أنه يوسف في براءة الحياة وطيبتها، يوسف يحب بيئته الجنوبية، الماء والصيد والمشحوف، احب الحياة الحرة، وكان يسعى الى زرع شتلات الخير والصفاء والمحبة، لكن كان الواقع كان كرمال الصحراء لا يزهر بالنمو والخصب والعطاء، وكانت نهايته المأساوية مثل باقي شخوص الرواية، حيث مات يوسف، في حادثة قطار بالاصطدام وسقط القطار في الوادي العميق، وراح ضحيته عشرات المجندين الذين ركبوا القطار مجاناً متوجهين الى الموصل، وكان يوسف مجنداً وذاهباً الى وحدته العسكرية في الموصل، لتنهي رحلة حياة يوسف بالموت، ولم يكتمل حلمه بالتغيير في اعوجاج المجتمع والأعراف الظالمة تجاه الحب والمرأة. ذهب الى العالم الآخر هو ما يزال غصناً اخضراً طرياً، يفوح بالعطاء والخير، ربما الذهاب الى العالم الآخر، ارحم واكثر أنسانية (رحل في ظروف قاهرة من الفقر والحرمان، ومن أشياء أخرى، لا اعرف لمََ تجمع هذا الحزن كله في اجمل عينين في العالم ؟) ص172. وكتب صديقه يرثيه حزناً (ما يؤلمني ليس الموت ! فهو نهاية حتمية لنا، بل أنني أتألم، لان الايام غدرت بك، ولم تكمل حلمك الجميل، أيها الطائر نحو المستقبل بروح حية........ عيناك لم تغيبا واسمكَ يتوهج في كل حين، كالنار التي كنا نشعلها في الليالي المظلمة، فتضيء العالم من حولنا) ص174. اذهب ايها المحبوب حرستك ملائكة السماء.

بعض حكايات الحب:

- حكاية حب حسنة وجواد:

هذا الحب يحمل صفة النقاوة والبساطة والشفافية العاشق الذي يتمسك بالوفاء، مهما كانت الضغوط الهائلة في كسر شوكة الوفاء. هذا الحب انتهى بالزواج المبكر والرحيل المبكر بعدما انجب طفلين، فقد قتل الزوج (جواد) في نزاع عشائري لا طرفاً ولا شريكاً فيه، وترك زوجته (حسنة) في ريعان الصبى والشباب، وعاشت مع أمها وطفليها تئن بجروحها واحزانها (تجتر أحزانها أذا جاء الليل، وقد دفنت نفسها في الملابس السوداء، كشأن الجنوبيات الفاقدات، ولا يخلو لياليها إلا اذا سكبت الدمع مدراراً متذكرة الايام الخوالي، وهي مقعدة في الفراش لا تكاد تخرج من البيت) ص87، تقدم إليها الكثير لطلب الزواج، ولكنها كانت ترفض بذريعة تربية الاطفال حتى تبقى وفية لحبها لزوجها المقتول، وفي اثناء الانتفاضة عام 1991، ضاعت اخبارها، ولكن بعد سقوط النظام وجدوا هويتها ضمن جثث المقابر الجماعية.

- حكاية حب بدرية:

المرأة الريفية تنتمي الى عائلة فقيرة، بعد وفاة والدها في الحرب، أخذت مسؤولية توفير العيش في العمل في السوق في بيع السمك لتوفير الخبز لعائلتها واخوتها الثلاثة، وساعدهم في تدبير أمور المعيشة في تقديم المساعدة من العم (أبا عمران) الكبير بالسن، وبعدها تزوجت، ولكن يلتف القدر لتجد (ابا عمران) ينهشه المرض في حالة يرثى لها أمامها، طريح الفراش بدون عون وسند، فكان واجبها ان ترد المعروف بتقديم المساعدة وتوفير العناية، وإبعاد وحشة الحياة والموت عنه، ولكن زوجها وقف حائلاً في تقديم المساعدة والعون، وهددها بالعواقب الوخيمة إن واصلت زيارته، فضطرت مجبرة على قطع الصلة في مواصلة زيارة العم (ابو عمران) وتمادى الزوج أكثر في تهديد (ابا عمران)، غاضباً ومزمجراً، لم يعجب هذا السلوك الخشن من زوجها، رغم أنها صارحته بما كان يقدم مساعدة لعائلتها، فخرجت من البيت وضاعت أخبارها في انتفاضة عام 1991، وبعد سقوط النظام وجدوا هويتها من بين جثث المقابر الجماعية.

***

جمعة عبدالله

في المثقف اليوم