قراءات نقدية

الآسرة وخاصرة التفاح رواية محمود جاسم عثمان.. دراسة نقدية تحليلية

hamid alhurayziبدلة زفاف (الهناء العراقي) لازالت تحت السرير

العنوان ودلالاته: الأسر هو اخذ او حجز او ارتهان الإنسان دون إرادته، الإنسان قد يقع في الأسر نتيجة حرب او صراع عنفي بين طرفين متحاربين او متصارعين، وهنا يكون الأسير مسلوب الإرادة، خاضعا لإرادة ومشيئة من انتصر عليه وأسره، لا فكاك له من أسره الا بأمر من المنتصر، هو حر ان يستعبده، يسجنه، يقتله، او يطلق سراحه، او يبادله مقابل تعويض عيني او مادي ...

وأحيانا يكون الأسر اختيارا دون عنف او استخدام سلاح، حينما يفقد الإنسان إرادته وينجذب صوب ظاهرة او ممارسة او إنسان أخر او عادة لا يستطيع الفكاك منه او منها بسهولة، فعادة التدخين تأسر المدخن، والمعشوقة والحبيبة تأسر قلب حبيبها فلا يستطيع ان يستبدلها او يفارقها او يبتعد عنها حتى وان حالت بينها وبينه الأهوال، فأما الظفر بالحبيب او الموت، وقد شهدنا ولا زلنا نشهد العديد من قصص الحب العارم وقد حدثنا التاريخ العربي والعالمي عن مثل هذا العشق الكثير، كحب عنترة وعبلة، ومجنون ليلى ...الخ

في رواية محمود جاسم عثمان تظهر لنا (هناء) بدور اعلن انسجامه بدور الأسير او المأسور حبا ... شابة وشاب يعشق احدهما الأخر منذ النظرة الأولى، تعبيرا عن انسجام وتواؤم المهارة والهناء، واتحادهما ينتج حياة حرة سعيدة ....

تبع هذا طموح فئة أو طبقة اجتماعية ناهضة من اجل بناء مجتمع متطور متحضر، ووطن مستقل وشعب منسجم سعيد، إنها طموحات الطبقة الوسطى العراقية الناشئة التي تحلم باللحاق بالعالم الأول من حيث الحضارة والتقدم، ولكنها تقمع وتخنق وتصادر من قبل قوى الإقطاع والبرجوازية الطفيلية التابعة وثقافتها المشبعة بروح التخلف وحب السيطرة وتكميم الأفواه وحجب نور العلم والعمل والاختيار الحر ليبقى المجتمع متخلفا ومستعبدا، بدافع الأنانية وحب السيطرة والاستئثار بالمال والجاه والسلطة،ولكن الآسرة أصبحت ماسورة أيضا، وقد خذلت بسبب هشاشة تفاحتها، التي طعنت في الخاصرة بخنجر العنجهية والحقد وحب التسلط الأبوي الأعمى غير الواعي .

الكاتب اختار عنوانا آسراً بحق لروايته يتطلب من القارئ تقصي متن الرواية ليقبض على دلالاته وبذلك يمسك بمفتاح (الماستر كي) للرواية ليتمكن من فتح أبواب فصولها والولوج إلى غرفها التي أصبحت مضاءة بنور مصابيح العنوان

 صراع الوجود بين وليد خديج يريد أن يعيش، وهرم لا يريد أن يموت:-

تدور إحداث الرواية بين عدد من العائلات العراقية، تسكن في مدن مختلفة من حيث طبيعة الحياة والثقافة السائدة أو المهيمنة، مدينة النجف المحافظة والمتميزة بالطابع الخدمي الاستهلاكي غير المنتج حيث تعيش عائلة السيد عبد الله تاجر الأقمشة وأولاده وبناته (ماهر وحسن ومهند ومديحه، وماجدة بالإضافة إلى زوجته الحاجة مكية)، وعائلة الأستاذ عبد الواحد صديق سيد عبد الله وزوجته تماضر وشقيقها رافع وابنتاه هناء وسماح، وولداه شامل وفراس بالإضافة إلى زوج سماح الدكتور عرفان وولده سيف وابنتيه حنان ودلال، وعائلة فاضل شقيق سيد عبد الله وابنته سميرة، هذه العائلات تسكن بغداد، قلب العراق النابض دوما بالتجارة والحضارة والعمل، وما تتميز به من خليط سكاني من حيث الأديان كالمسيح واليهود والصابئة والايزيدين والمسلمين من مختلف الطوائف، بالإضافة إلى قوميات مختلفة ...

كما تضاف إليها مدينة البصرة ثغر العراق وبوابته على العالم حيث العلم والعمل بمختلف مستوياته باعتباره ميناء العراق وإطلالته الوحيدة على البحر، وكونها مدينة بترولية، مما اكسبها مميزات خاصة من أهمها الانفتاح الديني والقومي وتسامح وتعايش الثقافات، وهيمنة الفكر والسلوك المنتج على الفكر والسلوك التقليدي المستهلك .

 نريد أن نقول من خلال ما سبق، أن السلوك هو نتاج البيئة، والثقافة المتوارثة، وطبيعة العمل، والعلم الذي يكتسبه الفرد بشكل كبير.

في العراق عموما لم تتوفر الظروف الذاتية والموضوعية لكي تكون البرجوازية المنتجة قوية ومؤثرة في المجتمع العراقي، بسبب توارث عادات وسلوكيات الطبيعية الخراجية للإمبراطورية الإسلامية لعدة قرون، ومن ثم هيمنة الاستعمار التركي والبريطاني الذي مارس نفوذا قهريا ضد البرجوازية العراقية لتكون ضعيفة وتابعة ومتخلفة، بالإضافة إلى ما بعد الاستقلال حيث اعتمدت الحكومات ما بعد الاستقلال النسبي على الريع البترولي وليس على العمل الوطني المنتج في إدارة شؤونها والأنفاق على مؤسساتها المختلفة .

كون الطبقة البرجوازية ضعيفة وتابعة أدى إلى وهن وضعف هيمنتها على السلطة العليا، ونظرا لكونها هي حاملة لواء الحضارة والتطور والممسكة بطريق العلم والعمل وتطوير الثقافة ونبذ التقليدي والمستهلك والمتخلف، مما انعكس على طبيعة الثقافة العراقية وركودها وبقاء القديم إما مهيمنا أو متمسكا بالحياة بقوة وطاردا لكل ما هو جديد ومتطور .

وقد تبع هذا الضعف ضعف الطبقة المنتجة النقيض الطبقة العاملة وكذلك الطبقة المتوسطة التابعة بالضرورة والمتوسطة لكلا الطبقتين الرئيسيتين .

فسيد عبد الله ابن النجف التاجر المستهلك التابع المتقوقع في قوقعته الإقطاعية العشائرية المغلفة بغلاف ديني متزمت هو ممثل الطبقة الرثة من الإقطاع والبرجوازية الطفيلية، العاشقة للسلطة والوجاهة والهيمنة فلا غرابة أن يكون متسلطا كمتشدد، منفردا في قراراته وخياراته قامعا للعلم والمعرفة والثقافة والأدب، فارضا على ولده خيار الانتماء إلى كلية الشرطة ليكون ضابطا تلمع النجوم على كتفيه يباهي ويستقوي به على الآخرين، وبذلك فهو قاتلا للمهارة والحرية عدوة التقليد والسكون والقوقعة ... كما انه مانعا قامعا أن تقترن هذه الفئة من الشباب من الطبقة المتوسطة أن تقترن بالهناء رمز التحرر والرحم الأقدر والأكفأ لولادة مجتمع متحرر متنور منتج وقد كان له كفرد ولها كطبقة تحقيق أهدافها ولكن لحين التاريخ لم يزل فستان عرس هناء وماهر تحت السرير إن لم يدفن تحت التراب أو تتناهشه القوارض منهيا كل أمل للشعب العراقي ليلحق بشعوب العالم المتقدم.

تكمل سيد عبد الله الوالد المستبد زوجته (الحاجة مكيه) هذه المرأة حال اغلب النساء أو الزوجات في المجتمع الإقطاعي العشائري المحافظ عبارة عن وسيلة للمتعة والتفريخ، وأداة للتنظيف والطبخ، ليس لها حق سوى الإجابة نعم صار يا تاج راسي ...

يسلط الكاتب الضوء على إرهاصات الطبقة المتوسطة من اجل حياة أفضل، شخصية الشاب ألنجفي (ماجد) المثقف المتنور والمتحرر والمتجاوز لقيم التقليد، والسلطة الأبوية القامعة، يكون صديقاً مقرباً من ماهر الذي ينوء تحت وطأة وقسوة سلطة الأب ورقابته الصارمة، يصطحبه لحضور بعض المنتديات الثقافية النجفية، يدور به في مقاهي النجف ليجعله قريبا من بيئة المدينة بمختلف شرائحها وفئاتها الاجتماعية، يزداد تعلقا بالثقافة والأدب من خلال قراءاته للكتب وان كان بعيدا عن عيني والده، فكان حلمه أن يكمل دراسته في كلية الآداب لولا أن تفرض عليه كلية الشرطة .

يعيش قصة حب عنيفة مع هنائه آسرته، فيغرق في أحلامه في بناء عش العشق والسعادة بالاشتراك مع هناء، التي تبادله نفس المشاعر والأحاسيس منذ أن التقت الأعين في دار بيت الدكتور عرفان، وبعد أن استذكرا لعبة العريس والعروس في دار أبي ماهر في وقت الطفولة، قررا أن يحولا إرادة اللعب إلى إرادة حياة مشتركة والعيش تحت سقف الحب والهناء، لولا أن تبقى أنانية وضيق أفق قوى التخلف والقهر الممثلة بالأب وابنته المختلة نفسيا والمسكونة بالحقد والكراهية، فيتفقا على حياكة مؤامرة قذرة لقتل حب العاشقين وهو في أوج فورانه، وكأنها تعكس لا أخلاقية وخواء وأنانية الطبقة الحاكمة العراقية وهي تعيش أزمة هيمنتها الطبقية فيحوك بعضها على البعض المؤامرات ويدس الدسائس للإيقاع بكل من يطمح بالبناء الحر المستقل للوطن والعيش الرغيد الكريم للشعب، فاستعرض لنا الكاتب مسلسل الانقلابات الذي تقوده إخراجا وتنفيذا هذه الطبقة للسيطرة على الثروة والجاه والسلطة، هكذا استبعدت هناء لتحل محلها سميرة دون أية اعتبارات لمشاعر الأخر حتى وان كان من اقرب المقربين، فيقتل الأخ أخاه ويخون الصديق صديقه ويفتك الرفيق برفيقه ليعتلي كرسي الحكم.

يجبر المثقف على ترك طريق الحب والثقافة والسلام، وسلوك طريق الخشونة والفضاضة، يجبر على إلقاء القلم ليحمل البندقية ويصنع الحاكم عقله كما يشاء حينما اجبر على دخول كلية الشرطة رغم انه يطمح بدخول كلية الآداب:(إدارة الكلية التي تقوم بتوزيع عقول علينا تصنعها هي لكي تستخدمها بدلا من عقولنا تلك، لكي نفكر بحسب ما تريد وتشتهي) ص123، يطعن من الخلف وتسرق أو تقتل أحلامه في عالم الحرية والإبداع والسلام، وكأنه يصور سرقة أحلام المثقف والثائر العراقي في بناء عالم جديد حينما انتفض في ثورة الرابع عشر من تموز على السلطة الأبوية التابعة والمتخلفة، ولكنه ابعد عن كرسي الحكم ليعتلي عليه العسكر، أو ليعتلي عليه من أتت به الصدفة إليه، هكذا استحوذ العسكر على السلطة، وكذا استحوذ (حميد) على هناء بعد أن اعتقدت أن حبيبها قد هجرها، مستصحبا عروسه ابنة عمه فاضل (سميرة) كما اخبرها بذلك السيد عبد الله وابنته الماكرة (ماجدة).

1197 hamid

المثقف ما بين العلم والحلم وبين حراب البنادق:

فيصاب عرفان الضوء على واقع حال ومحنة المثقف في ظل أنظمة الحكم العسكرية، مابين سطوة الفكر والقلم، وانفجارات القنابل ولعلعة الرصاص، يستعرضه من خلال شخصية الدكتور (عرفان) وهو اسم على مسمى فهو موسوعة للعلوم الطبية والإنسانية عموما، هذا العرفان الذي هيمن بعلمه وأدبه وتبحره وبساطته على عقل (ماهر) الذي كان يفترض أن يكون عديله وزوج شقيقة زوجته (سماح) نموذج المحبة والسماحة من بنات الدكتور عبد الواحد، ينخدع أيضا بأدعياء القومية والوحدة من العساكر كعبد السلام عارف ورمزهم الأعلى جمال عبد الناصر، تجهض أحلامه بالوحدة العربية، يتعرض للسجن في عهد البعث حليف الأمس، ثم ينتقل للعيش في مصر في حالة نفي يعاني خلالها الكثير من الألم والإحباط، فالجزم العسكرية العربية داست كل عرفان ... فيصاب عرفان بالشلل بعد وفاة عبد الناصر... بعد هزيمته وهزيمة جميع الأنظمة العربية في حربهم مع إسرائيل في الخامس من حزيران 1967 .

، وهنا تبرز لدينا آفة عبادة الزعيم وقدسيته وتأليهه حتى من قبل المثقف الثوري رغم فشله وإخفاقه في قيادة الشعب نحو شاطئ الحرية والرفاه والأمان، وفشله في حربه مع العدو الإسرائيلي الصهيوني، فيبرر هذا المثقف للحاكم اخطاءه وفشله في حياته في حين، يصاب بالشلل بعد غياب القائد الرمز، فينهار أمامه كل شيء بعد انهيار القائد الضرورة واختفائه من على منصة الخطابة، هذا هو حال البرجوازية الصغيرة العربية خصوصا، وهذا هو حال طبقتنا الوسطى، رومانسية، عاطفية، مهزوزة، مخدوعة، تصاب بالشلل والانهيار والضياع إمام الصعوبات أو الانتكاسات أو خيانة الزعامات، هكذا كان حال (عرفان) وحال (ماهر) الذي أدمن الخمر والتدخين ونخره اليأس والألم ...

(الهناء) يهتف أن علينا أن ندرس ونُدَرِس التاريخ ونستقي الحكم، ولكن الصوت تذروه الرياح، وتطيح به المؤامرات، يعيش مع من لا يحب وينجب ما لا يريد فيضطر على التأقلم مع ورم طارئ مؤلم وان كان (حميد).

مسلسل الانقلابات الدموية والطبقة السياسية المأزومة:

بسبب هشاشة الواقع الطبقي الاجتماعي العراقي وميوعة الطبقات الاجتماعية وتداخل بعضها البعض، افقدها قوة الوجود ووضوح الحدود، فلم تتمكن أي من هذه الطبقات أن تكون هي المهيمنة على سدة الحكم، فكانت خليطا هجينا من الإقطاع والبرجوازية التجارية الطفيلية، يمكننا أن نطلق عليها (الاقطاوازية) في العهد الملكي نصبها الانكليز لحكم العراق وقد كانت هناك شبه ارجحية قهرية للإقطاع والعشائرية في هرم السلطة التابعة، ولكنها قلقة وغير مستقرة تستمد قوتها من تحالفاتها مع القوى العظمى الخاضعة لنفوذها وخصوصا بريطانيا، فأطاحت بها ثورة الرابع عشر من تموز 1958 واعتلى السلطة العسكر مدعوما من الجماهير الرثة في المدينة والريف بتحريض من قوى جبهة الاتحاد الوطني المؤلفة من الأحزاب الرئيسية آنذاك، ولكن سرعان ما دب الخلاف بين صفوف (الثوار) وانقسموا على أنفسهم بين شيوعيين وبعثيين وقوميين ووحدويين، وكان عبد الكريم قاسم على رأس السلطة، الذي حاول الإمساك بالعصى من الوسط والتوفيق بين أطراف الطبقة السياسية المختلفة دون جدوى فالأزمة بنيوية والصراع لا يمكن أن يحسم إلا بهيمنة طبقة على السلطة وفرض سلطتها على الآخرين، وهو في حكم المستحيل في واقع اجتماعي مثل الواقع القائم آنذاك، عاش العراق سلسلة من الانقلابات قبل وبعد ثورة تموز، وشهد مجازر مفزعة، حيث تمت عسكرة الشارع، واحتضنت الساحات أعواد المشانق، ولعلع صوت الرصاص في ساحات الإعدام .

كل هذا يؤشره الكاتب في روايته ويظهر انعكاسات ذلك على المجتمع العراقي وطبقته الوسطى بالخصوص ...

الكاتب يبدو في حيرة من أمره حيث لا يستطيع أن يجد التفسير الحقيقي وراء ما يحدث، هل هو ناتج عن خلل جيني في الشخصية العراقية، أو هو بسبب الواقع الاجتماعي المتردي ومسبباته، فيتدخل يشكل مباشر ليعلن انه هو من يمسك خيوط اللعبة وهو من يحرك شخوصها ويرتب أحداثها، يعزي الكثير من الأحداث إلى الصدفة دون إدراك العامل الموضوعي الذي يتحكم بالصدفة والضرورة حتى وان تبادلا الأدوار .

وبعد أن يصيبه الإعياء وتبلغ به الحيرة أعلى مستوي بسبب ما يجري، ويعجز عن تحمل المصائر المأسوية والمؤلمة للإنسان العراقي، يعلن للقارئ أن خيوط اللعبة قد أفلتت من يديه وأخذت الشخصيات تتصرف على هواها ولا يمكنه الإمساك بها، لذلك فهو غير مسؤول عما حدث ويحدث لها . فهو لا يريد لها هذه النهاية المحزنة ولكن الواقع يفرض إرادته على الجميع .

هذا الحال يؤشر عجز الطبقة الوسطى العراقية وحتى العربية بنسب متفاوتة، وهي الطبقة المنتجة للثقافة والأدب عاجزة أن تكون فاعلة ومؤثرة بحكم بنيتها الهشة وذاتها غير المستقلة التابعة للطبقة الحاكمة والمصنعة من قبلها ومنفذة لإرادتها،وبذلك تعلن عن جزعها وبراءتها مما تفعله الطبقة الحاكمة، لأنها لا تريد أن تستمع لصوت العقل والحكمة ...

هذا الوصف ينطبق على اغلب النتاج الأدبي والروائي في البلدان العربية عموما وفي العراق بوجه الخصوص لأنه منتج طبقة تابعة ضعيفة مغلوبة على أمرها، مما يجعله لا يرتقي إلى العالمية من حيث البنية الإبداعية وثيماتها السردية والمواضيع التي يتناولها .

كما إن إشهار الكاتب لحالة الفعل والعجز تعبيرا عن واقع الأحداث في العراق كونها تجري وفق أمزجة وإرادات عناصر وقوى خارجية تفرض إرادتها على مجريات الأحداث وتسيرها حسب ما تريد سواء بقوة السلاح أو بطرق التآمر المستتر، كما حصل في تغيير مصير ماهر وهناء وقتل آمالهما وطموحاتهما في حياة الحب والهناء، وتغيير مسار الحكم في العراق عبر الانقلابات ما قبل وبعد تموز، فلم تجر تلك الأحداث عبر التطور الطبيعي للحراك الاجتماعي وإفرازاته وتحولاته بل عبر العنف والانقلابات الدموية والمؤامرات السرية والعلنية ولحين تاريخنا هذا .

تقلب الشخصية العراقية بمختلف انتمائها بين اليعيش واليسقط والانتقال من شعار إلى أخر نقيضه من قبل نفس الفرد، تغيرات تبدو غير مفهومة وعصية على التفسير للشعارات والأسماء والمظاهر والعناوين وحتى الملابس، وبالخصوص التبدلات للمثقف العراقي وفق هوى الأنظمة القائمة وتلونها، تبعا لتلون وتبدل الطبقة الوسطى، التي يرتبط حبلها السري برحم الطبقة السياسية الحاكمة فهي مولدتها وهي ولية نعمتها إليها تنتمي ومعها تعيش . وهذا انعكاس لواقع الشرذمة الطبقية والبنية الاقتصادية الاجتماعية القائمة والموروث الثقافي طوال عشرات لا بل مئات من السنين، فلا غرابة أن تتبدل الأسماء من نوري إلى قاسم إلى عارف إلى صدام إلى مؤمل، وما يتبع ذلك من تغيير وتبدل في الأزياء والعناوين والألوان من الأحمر إلى الأخضر والأصفر والأسود والأبيض .

إننا إذ نسهب في إيضاح هذه الوقائع نخرج أحيانا من رواية (الأسرة ... وخاصرة التفاح) ولكننا نبقى نشم ونتذوق طعم ورائحة التفاح وحسب درجة نضجه في عموم المنتج الروائي والثقافي والفكري العربي، والعراقي على وجه الخصوص، حيث تصدر الرواية بكم كبير نوعيا وارتفع عدد الرواة والكتاب بشكل ملحوظ وخصوصا بعد انهيار الديكتاتورية في 2003في العراق، و(الربيع العربي) في العديد من البلدان العربية، ورفع سيف الرقابة عن الطباعة والنشر وحرية الفكر بشكل غير مسبوق . مما يستدعي التوقف عند ايجابيات وسلبيات هذه الظاهرة وإفراز ما هو إبداع حقيقي عن سواه، والبحث وراء كل من الحالتين من حيث القدرة والعجز، سواء قدرة أو عجز الذات أو نضج أو تردي الموضوع في ذلك .

فالنبتة التي تزرع في ارض قليلة الخصوبة، والمحاطة بالأعشاب الضارة، والتي لا تحصل على الماء والسماد الكافي، ولا يتم حمايتها من خطر الحشرات الضارة، لا يمكن أن تنتج ثمرة ناضجة شهية تسر الناضرين وتمتع ذائقة المتناولين لا من حيث الكم ولا النوع .

وإذا سلمنا بان طبقاتنا الاجتماعية ومنها الطبقة الوسطى بمثل هذه الهشاشة والضعف، فكيف لنا أن نتوقع أن يكون منتجها الثقافي والإبداعي كامل النضج وبمستوى الأدب العالمي . وان حصل هنا وهناك منتج إبداعي متميز يضاهي أو يقترب من المنتج العالمي فيبدو حالة متفردة شبه شاذة، وكأنها من خضراء الدمن، لذلك لم يحصل الأدباء العرب على جائزة نوبل إلا واحدة كانت من نصيب نجيب محفوظ، مهدت لها ظروف سياسية ومزاج دولي خاص، بالإضافة إلى درجة نضوج الطبقة الوسطى المصرية في مجتمع منتج لا يعتمد الريع النفطي .

فليس غريبا أن يكون المنتج الروائي بهذا الوصف الإبداعي المتواضع مقارنة مع أدب العالم الأول، والرواية متفق على أنها ملحمة البرجوازية ومنتجها الأدبي المميز في حال نهوضها ...

رغم كل ما سبق نجح عدد من مبدعينا، بتخطي الواقع الموضوعي المتردي، وإعطائنا منتجا روائيا يترفع على واقعه ويتعداه ويحاول أن يؤشر عجزه وقصوره والارتقاء به نحو الأفضل، بسبب قوة الذات وعمق ثقافة وسعة اطلاع وطموح الأديب العراقي .

حبكة السرد الروائي لـ (الآسرة ... وخاصرة التفاح):

استطاع الكاتب، وبحكم تجربته الروائية السابقة حيث صدرت له روايتان (حي السعد و ما انكشف عن حجر الصوان)، ومؤلفات تهتم بالفن الروائي والقصصي ألنجفي خصوصا، تمكن أن يمسك بخيوط السرد والتماسك الجميل بين أحداث الرواية من حيث حركة شخصياتها وأماكن تواجدها وزمن الفعل وموضوعيته .

كشف الكاتب عن مدى وحشية النظام الفاشي، عبر ممارساته القمعية الظاهرة والمستترة، كجرائم ناظم كزار وزمرته، وإعدام من اسماهم بالجواسيس في ساحة التحرير عبر محكمة مهزلة، والإحداث المروعة لما سمي ب(ابي طبر) آنذاك وهو من تدبير مخابرات السلطة وأزلامها، بعد أن فشلت بهلوانياته عبر مسرحية عدنان القيسي لغرض الهاء الجماهير في أمور جانبية للتغافل عن مطالبهم في الحرية والكرامة، وتناسي جرائمه الماضية عبر ترويعهم بالجرائم الحاضرة، حتى سار بهم نحو محارقه الكبرى في (القادسية) وأم (المعارك) الأولى والثانية، مما أدى إلى حرق الأخضر واليابس ونهب الثروات واستباحة البلاد من قبل الأمريكان وحلفائهم من قوى الرأسمال العالمي، الذين وضعوا البلاد في فم قوى الإرهاب العالمي المصنع من قبلهم، فكان قدر هذا الشعب الموت والخراب والتشرد والحرمان، وهو الآن بين آفة الإرهاب والعنف والتطرف وآفة الفساد واللصوص والجهلة الذين نصبهم على سدة الحكم تحت ستار الديمقراطية الزائفة .

كما انه استطاع أن يطوف بنا في مدن عراقية مختلفة من الوسط والجنوب والشمال واصفا ما تتميز به هذه المدن وأهلها عبر متابعة حركة شخصياته ومتابعة الأحداث السياسية والظواهر الاجتماعية وتحولات الشخصية العراقية ومعاناتها وإرهاصاتها من اجل إمساك خيوط شمس الحرية والرفاه والسلام دون جدوى رغم ضخامة التضحيات والثروات المبذولة على هذا الطريق .

سلط الكاتب الضوء ووثق للعديد من الأماكن العامة والخاصة في مدينة النجف وفي بغداد والبصرة والموصل.

تمكن من تأثيث شخصيات الرواية بطريقة وشكل تمكن القارئ أن يرسم صورة واضحة المعالم للشخصية في الرواية ومتابعتها ضمن تحولاتها من التألق والزهو إلى الانكماش والانكسار والحزن وبالعكس، وبالأخص شخصية ماهر، وهناء، وعرفان والشخصيات الثانوية الأخرى،كما أن امتلاك الكاتب مخزونا لغويا جيدا في إتقان السرد والتوصيف،مما جعل الكلمات والعبارات راضية بوضعها وموضعها ..

وجه الكاتب سهام نقده البناء إلى الأساليب التقليدية في تربية الأبناء وفرض سطوة الآباء عليهم دون فهم توجهاتهم ونفسياتهم وميولهم حسب متطلبات زمنهم، وقد بدا هذا واضحا من خلال عرضه لسلوك السيد عبد الله مع أبنائه وخصوصا ماهر، مقارنا هذا التصرف الخاطئ والمضر مع السلوك المتحضر والبناء للأستاذ عبد الواحد والدكتور عرفان في تربيتهم لأبنائهم وبناتهم، وكأنه يقارن سلوك الإقطاع والعشائرية المتخلفة، مع سلوكيات المثقف المتنور من الطبقة الوسطى الناشئة .

كما انه وضح مدى تواصل الطبقة المثقفة العراقية مع تطورات الثقافة والأدب والفن في العالم من خلال الحوارات التي كانت تجري في دار الدكتور عرفان وأشقاء زوجته شامل وفراس في بغداد، أو من خلال شخصية (ماجد) والرابطة الأدبية في النجف ... الخ .

قادنا بيسر ورشاقة إلى سماع محاضرة موسعة حول أهداف وطبيعة أفكار الإخوان المسلمين كنموذج للفكر الاسلاموي المتطرف في العالم العربي والإسلامي، عبر حوارية بين رجل مثقف مصري متنور واحد دعاة الإخوان في احد مقاهي القاهرة، ليرسل للقارئ العديد من الحجج والبراهين التي تدحض الإرهاب ودعاته وخصوصا الإخوان المسلمين الذين خرجت اغلب المنظمات الإرهابية من تحت عباءتهم القذرة . وبذلك أراد الكاتب أن تكون نظرته شاملة لما يجري في الوطن العربي عموما والعراق خصوصا، بعد أن جمعت ماهر دورة أمنية في مصر مع العديد من ضباط الأمن في الدول العربية من الكويت والمغرب العربي، واطلاعه على بعض من التراث الشعبي لهذه الشعوب عبر أكلاتهم المميزة والشائعة في بلد كل واحد منهم، بالإضافة إلى تعلم وفهم لهجاتهم المختلفة .

رغم ذلك فإننا وكما اشرنا أنفا لفت انتباهنا إصرار الكاتب على ظهور المؤلف باعتباره صانع ومخرج وموجه الحدث في الرواية بين الحين والأخر، وكأنه يسحب القارئ من عالم الواقع المعاش روائيا وأشعاره بان ما يطالعه إنما هو من فعل المؤلف وليس واقعا معاشا، ولا أظن أن القارئ بحاجة إلى هذه الإعلان المنبه لإطفاء جذوة متعته مع السرد خصوصا وان الرواية تصنف ضمن الواقعية الاجتماعية .

كما إننا لا نرى موضوعية إصرار الكاتب على كون اغلب الإحداث، واللقاءات بين الشخصيات مبنية على الصدفة، فلا داعي للتدخل في فرض مسار أو تفسير على القارئ وواجب احترام خصوصيته وفطنته في التفسير والتأويل والتحليل والاستنتاج، فهذا هو دور القارئ الواعي والناقد لا داعي أن يهرع المؤلف لمساعدتهما في فهم النص وإيجاد الأجوبة لأسئلتهم .

ختاما نقول أن رواية (الآسرة ... وخاصرة التفاح) أمتعتنا في جمال السرد وحلاوة المفردة والعودة إلى مناطق وتقاليد أثيرت لدى القارئ ألنجفي والعراقي، وربما ستسرق دمعة من عين القارئ تعاطفا مع أبطالها ونهايتهم المحزنة التي لم تعد غريبة في عراق اليوم كما الأمس، ولكن (الآسرة) لم تأسرنا ولكنها أذاقتنا طعم التفاح.

ولا يسعنا إلا أن نسجل إعجابنا بالرواية ضمن دراستنا المتواضعة هذه، حيث تضاف هذه الرواية الجميلة إلى أخواتها من روايات كتاب الرواية النجفيين ، وكذلك إلى إبداع كتاب السرد القصصي المتميز، مما يعطي الأهمية ويرفع من شأن السرد في النجف ليصطف كتاب النجف إلى جانب زملائهم من المبدعين الروائيين والقصصيين في محافظات العراق الأخرى، بالرغم من كون النجف توصف بمدينة الشعر والشعراء، فهي الآن مدينة السرد أيضا .

 

بقلم: حميد الحريزي

 

في المثقف اليوم