قراءات نقدية

عبيد لبروزيين: على هامش المجموعة القصصية "عازار" للحبيب اعزيزي

استراتيجية التفكيك، ليست منهجا نقديا كما يصرح بذلك جاك دريدا بنفسه، بل هي استراتيجية لتعقب المعنى الخفيّ والمضمر والهامشيّ في ثنايا النصوص الأدبية، هذا المعنى الذي يصبح ركاما بمجرد تجليه ووضوحه، لتبدأ العملية من جديد، هدم وبناء يعقبهما هدم وبناء آخر، الأمر الذي يقودنا إلى عالم غير متناه من الدلالات التي تتناسل باستمرار. وفي هذا السياق النقدي الذي يطغى عليه الغموض، اخترنا المجموعة القصصية "عازار" للكاتب الحبيب اعزيزي الصادرة سنة 2023، وتكفلت دار بصمة بالتصفيف والتصميم، بينما طبعت في ورّاقة بلال ش.م.م. هي محاولة لفهم عوالم الجنون العجائبي القصصي بالجنون النقدي، عسى أن تتاح لنا إمكانية تأويل منطقية، تراعي خصائص النص القصصي من جهة، وتجربة الكاتب الإبداعية التي تمتد إلى أكثر من عشرين عاما من جهة ثانية.

استهل الكاتب مجموعته القصصية بقصة "الرجل الذي يحمل زوجته في القفص الأحمر"، حيث الزوجة/الأنثى تقبع في القفص، القفص بحمولته المقززة، والسالب للحرية، وفي هذا الملحق supplément بلغة دريدا، تتشكل عوالم النص القصصي الموازي/الهامشي، الذي يرفض التمركز الدلالي حول الخطاب المحوري، غير أن هذه العتبة (العنوان)، تعكس مفارقات وثنائيات ضدية تحتاج إلى الحفر بلغة مشيل فوكو، فالسجان هو الرجل/الزوج، إن الأمر أشبه بعالم أبيسي تئن فيه الأنثى من وطء الرجل/الذكر.

"زوجتي ماتت على الساعة الخامسة تماما" ص: 3، بهذه العبارة الصادمة تبدأ القصة، لتجعل القارئ يعيش في عالمين مختلفين، عالم الغياب/الموت، وعالم الحضور/الذكرى، ثنائية تتواسج في ثنايا القصة لتشكل ملامح قصة تفند تأويل العنوان، فالرجل بهذا المعنى أسير زوجته في قفصه الأحمر، الأنثى/الزوجة التي غيبها الموت، الرجل سجين ذكرياته، لكن ما يحدث للسارد في علاقته بالأنثى لا يمكن تأويله بهذه السذاجة عندما نسترسل في فعل القراءة، لا سيما عندما نعرف أنه كان يتأمل نسوة في ملصق إشهاري على عمارة أفيسين قبل أن تظهر له إحداهن ليحاورها كما يحاور الناس،  يقول السارد: "وظهرت فتاة الإشهار، قلت في نفسي، اللعنة. ما هذا الذي يحدث في هذا الشارع؟ كانت تضع المنديل الأحمر والصابو الطبي الأبيض. تحمل جهاز الكشف في يدها... مالت فتاة الإشهار نحو طاولتي بالذات ثم جلست أمامي. كانت تحمل نفس البسمة الجميلة التي في الصورة" ص 5-6

بين أنثى الغياب/الزوجة، والحضور/الملصق الإشهاري، هي أنثى واحدة، تعيش في القفص الأحمر، حيث الأسر والعذاب ورائحة القذارة، وكل الدلالات الراسخة في الذاكرة الجمعية للقارئ عن القفص، إنها أنثى المجتمع الرأسمالي، حيث أصبحت شيئا يعرض في واجهات المحلات التجارية، سلعة كغيرها من السلع المعروضة للبيع والشراء، هو رفض مطلق للمدنية القاتلة للإنسان، يقول السارد: "لم نكن سعداء أنا وزوجتي رانيا في هذا البيت الواسع، المكون من ثلاث غرف ومطبخ صغير وصالون كبير وبهو مفتوح على الشارع، حيث تنبت المقاهي مثل الجرب" ص 3.

لقد أصبحنا نعيش عصر ما بعد الإنسان، فليس للمبدع إلا أن يرفض كل أسباب استهلاكه، وما يؤيد هذا الطرح في التأويل، تجربة الكاتب اليسارية، حيث قضى زمنا غير يسير في النضال من أجل كرامة الإنسان وحريته، كما أن الأنثى هنا قد تكون الكاتب نفسه، الذي تكبله أغلال الواقع الأحمر المضرج بالانتكاسات... وهكذا تتيح استراتيجية التفكيك إمكانات هائلة للتأويل، وهو الأمر نفسه الذي جعل جاك دريدا ينبه قراءه من تحويلها إلى منهج نقدي.

تكاد تتساوق قصة "الرجل الذي يحمل زوجته في القفص الأحمر" مع قصة "سوزي.. أنثى المانيكان"، حيث تتحول أنثى المانيكان إلى إنسان يجالس ويختلط ويسكر، يقول السارد: "لم يصدق الثلاثة هذا الحادث الغريب: فتيات المانيكان الموضوعة في باب دكان الملابس في الحي... ثلاث فتيات من البلاستيك يجلسن على الكنبات.. حول الطاولة.. هنا أمام الأعين.. يتحركن..يبتسمن. وينظرن عينا في عين. مدت سوزي أصابعها، قبضت بخفة على أذن عاشور:

- حبيبي لا تخف، قل مرحبا للضيفات

همس بارتياب شديد

- مرحبا يا فتيات

مرت دقائق عصيبة من الشك والرعب، ثم تغير جو الحفلة" ص: 39

إنه التعبير القصصي المجازي لرصد الواقع في عصر ما بعد الإنسان، حيث يتحول إلى سلعة في سوق النخاسة، بينما تتحول الأنثى إلى مانكان، كل ما عليها فعله أن تعرض في واجهة المحلات التجارية، وتلبي رغبات الزبائن، وتحرص على سعادة الآخرين.

هما قصتان ذَوَي طابع عجائبي مغاير، في قالب سردي فريد، لكن برسالة واضحة ترفض أن تجعل من الأنثى سلعة في المجتمعات البرجوازية. وإذا كانت النزعة الإيديولجية هي المحرك الأساس لقصص الحبيب اعزيزي، فلا يجب إغفال الجانب الفني، لا سيما اختيار الشخصيات بدقة تناسب أدوارها في بناء الحدث، أو اختياره للسرد المتداخل الذي يتناسب مع الزمن الهلامي المنفلت أحيانا من منطق التتابع، وهذا راجع إلى العجائبية الطاغية الحضور في بناء العوالم السردية.

الأنثى أولا وأخيرا، الأنثى/الإنسان، الأنثى/الكاتب، مهما كانت تأويلات الأنثى، فهي نفسها الأنثى المضطهدة في قصة "أرسموك..شبح تالمست"، غير أنه اضطهاد الأنثى للأنثى هذه المرة، في مجتمع بدوي بعيد عن عالم الرأسمالية المقيت، الهامش المضمر، الشابة الساذجة سريعة النسيان التي تنتظر عودة حبيبها الميت منذ خمس سنوات، يقول السارد: "مرت خمس سنوات على باهيا وهي تكسر جماجم الجوز. تستخرج الأمخاخ الجافة. ترمي بها بلطف واضح في الصحن الأبيض. وحين يمتلِئ الأخير، تخطفه إحدى النساء بخفة البرق، فتفرغه في الكيس الذي يفتح فمه بين أقدام النساء" ص: 13

استغلال المجتمع البدوي والنسوة لباهيا، تكشف عن بطلة قصة تمثل آلاف النساء في البوادي وضواحي المدن، في قالب عجائبي يصبح فيه السارد ميتا، لكنه يحكي قصة وفاته بدقة متناهية، وأحداثا رافقت تلك الليلة التي غيّب فيها عن هذه الحياة، يقول السارد/الميت: "وجلست على عتبة الدار. أتفرج على مأتمي الذي انقلب بسرعة إلى حفلة تنكرية. مرت لحظات، ثم اشتعل الصياح من كل زاوية.

- باهيا. باهيا.باهيا

- ما بها

- لقد رمت بنفسها من سطح الدار" ص: 15

حول السارد قصة باهيا إلى تراجيديا الحياة في قالب عجائبي يعود فيه الغائب/الميت أرسموك، ويختفي الحضور/باهيا، لكشف حجم المأساة، كل ذلك في ثنائية ضدية تؤلف دلالات متناقضة في علاقة حب موؤود بين الحي والميت، الخير والشر، إنها مفارقات الواقع اليومي، وهنا تظهر الإيديولوجيا مرة أخرى، حيث الأنثى/الإنسان هي الأنثى، سواء في المجتمع البرجوازي أو المجتمع البدوي. إنه موقف ثابت بين ثنايا القصص، لا يتغير بتغير الظروف والسياقات، وهو الأمر الذي جعلني في حيرة، حيرة المابين إيديولوجي والفني-جمالي.

وإذا كانت استراتيجية التفكيك تبحث عن المهمل والمهمش في ثنايا النص الأدبي، فإن شخصية أرسموك، باعتبارها ثانوية مقارنة بباهيا، تستحق اهتمام القارئ أيضا، حيث الغياب/الموت الذي جعله يكتفي بالمراقبة والسرد، حد حريته وقدرته على إسعاد باهيا، أليس بؤسا مضاعفا أقل من معاناة باهيا؟

ويمكن لمتتبع هذه المجموعة القصصية أن يرصد خطين متوازيين ينتظمان في جل قصص "عازار"، خط اليأس وخط الأمل، وإذا كانت القصص السابقة تندرج ضمن الخط الأول، فإن قصة "الهارمونيكا" تندرج ضمن الخط الثاني، حيث يظهر الإقبال على الحياة والاستمتاع بالموسيقى والنجاح، النجاح الذي رافق قصة المعلم سيفاو وكفاحه من أجل تلاميذه المصابين بمتلازمة داون، يقول السارد: "بعدها شعر كما لو أن تيارا كهربائيا يسري في هذه الآلة الصغيرة، لكنه لم يهتم، بل ابتسم وبدأ في النفخ، فكر أنه لم يسبق أن وضع هارمونيكا في فمه طوال حياته. لكن الغريب هو هذا اللحن السحري المنسجم، والذي يكاد يرفع القسم كاملا إلى عالم خيالي" ص: 29

لا شك أن التأرجح بين قصص خط اليأس وخط الأمل، يرجع إلى الحالات النفسية للمبدع، وتأثره بواقعه الذي يحول أحداثه، بمهارته الإبداعية في خلق عوالم القصة، إلى عالم من الخلق العجائبي المتدفق كشلال هادر، تجعل القارئ ينسل من بيئته ليعيش في عوالم الجنون هذه.

وإذا كان الملمح الأساس لهذه القصة هو الأمل، فإن اليأس حاضر أيضا، فالمعلم سيفاو تعرض للمضايقات من طرف المدير والمفتش بسبب نتائج التلاميذ الضعيفة، يأس استبد به لإقامته في قرية تعيش ظروفا صعبة، لكنه استطاع بجده أن يجعل من التلاميذ المرضى بمتلازمة داون أن يجعل منهم متفوقين دراسيا.

إنها ثنائيات ضدية تؤثث مجمل نصوص المجموعة القصصية، وهي نفسها التي تجعلها عصية على قراءة عميقة تنفذ إلى الأماكن الأكثر عتمة، عتمات نجدها في قصة "عازار العائد لانتزاع ظلال الأحياء"، حيث المنطقة الوسطى بين الحياة والموت، و"ليلة القبض على حمار الليل" و"الأموات لا يتبولون في هذه الحانة" و"الأشباح لا تعود إلى باماكو"  و"كماريا"...  هي قصص تتأرجح بين اليأس والأمل، وثنائيات ضدية أخرى تخلق عالما مغرقا في العجائبية، هذه السمة المميزة للكاتب الحبيب اعزيزي.

الحبيب اعزيزي ليس كاتبا عاديا إطلاقا، ولربما ظلمه الهامش الذي ينتمي إليه، الهامش الذي ظل يدافع عنه، إبداعا ونضالا ميدانيا، لكن يجب علينا، نحن، عشاق الأدب ونقاده، أن ننتصر لأنفسنا بقراءة هذه الروائع، والتي تضاهي، في اعتقادي، كبار كتاب القصة في العالم، أمثال خورخي بورخيس وباولو كويلو...

***

عبيد لبروزيين

في المثقف اليوم