قراءات نقدية

بديعة النعيمي: تجذير الهوية من خلال استعادة الماضي في رواية الكرملي

تاريخ فلسطين عريق عراقة شعبه،غير أن الشتات هزّ وغيّر الكثير من شخصية هذا الشعب. لذا فإنه لا بد من العودة إلى الماضي لاستخراج مشكاة الواقع وطرحها أمام المناهج التاريخية على أمل إنعاش الذاكرة الجماعية بهدف استعادة الهوية الفلسطينية بعد صياغة الشخصية واستعادتها من جديد.

لجأ سميح مسعود مؤلف رواية الكرملي الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون/2021،  إلى الاستفادة من التاريخ الشفوي حيث يخبرنا بذلك منذ عتبة الإهداء التي جاء فيها" إلى جدتي عائشة أبو عودة سيف التي أوحت لي حكاياها أن أكتب هذه الرواية" فطالما شكل الأجداد ذاكرة خصبة تكتنز تاريخ الأرض وأحداثها. فكيف إن كانت الأرض فلسطين بكل قداستها وعراقتها. فلسطين التي تتشبث بها ذاكرة متوقدة بكل ما أوتيت من قوة ،تفرغ حمولتها في ذاكرة أكثر شبابا حتى لا تنطفئ ،في سلسلة متصلة ومتواصلة تكتمل دائرتها يوم العودة.

وقد قدم الكاتب عالما تخييليا حاكى التاريخ ونجح في إعادة بناء الأمكنة والأزمنة وأثثها بأبطال خدموا رؤيته ومنظوره لما حدث في فلسطين بشكل عام وحيفا بشكل خاص منذ بداية القرن أي مع نهايات الحكم العثماني العشرين وحتى النكبة وما بينهما من مخاضات للخلاص من العثمانيين ومن ثم الانتداب البريطاني الذي مكن الحركة الصهيونية من فلسطين إلى الخروج نحو المنافي والشتات.

 وها هو سميح مسعود يستعيد الأماكن ،يصفها بدقة بتاريخها المتجذر العميق ويثبت الهوية. ثم من خلال أبطاله يبني روايته. وبعض هؤلاء الأبطال أسماء لشخصيات واقعية مثل نجيب نصار مؤسس جريدة الكرمل وفيصل الذي فقد عرشه في سورية، وبعضهم أسماء لشخصيات متخيلة مثل رشيد الكرملي بطل الرواية الذي يمنحه مسعود جزءا من مفاتيح الأماكن وسرها في حيفا إلى جانب العم توفيق الذي نجده ص١٧٥ يقول"إني أعرف تاريخ حيفا كما أعرف خطوط كفي".

لقد استعاد سميح مسعود نسغ الحياة في حيفا من خلال الذاكرة فنجده يستهل روايته بالمكان الذي ارتبطت به دراسة بطله رشيد الكرملي وهو "الكتّاب" ففي ص٩ على لسان السارد "ويتميز هذا الكتاب بأنه قريب من كل الأحياء ،يقع على طرف زقاق ضيق في حي وادي الصليب أحد أهم أحياء حيفا التحتا" والمتأمل لهذا المقتطف يدرك دقة الوصف التي تعمدها الكاتب بهدف استعادة الأسماء الحقيقية للمكان وبالتالي استعادة هويتها وخصوصا بعد تغييرها من طرف دولة الاحتلال وإعطائها أسماء عبرية.

كما نجد أن الكاتب ركز في تعابيره وموضوعاته على المكانة الدينية والتاريخية والقومية وتجلياتها الرئيسية التي تمثل في مجملها ومفصلها الهوية العربية للشعب الفلسطيني. ولا بد للمتلقي لرواية الكرمل أن يلتقط التجليات الدينية التي برزت منذ الصفحات الأولى ففي ص٩ على لسان السارد يصف الكتّاب" إنها عبارة عن ساحة بيت كبير يتعلم فيها الصبيان القراءة والكتابة والجمع وحفظ القرآن"

وفي موقع آخر نجد الكاتب يصف رأي رشيد الكرملي بالتصوف حين زاره أحد الأعياد أصدقاء له من عكا لهم علاقة بالطريقة الشاذلية اليشرطية ص٢٢"وسأله أحدهم عن رأيه بالتصوف".

والمتتبع لرواية الكرملي سيجد العديد من التجليات الدينية، والحديث عن المضامين الدينية يمثل ركنا أساسيا في تشكيل الهوية وتعزيز الوجود الفلسطيني أمام المحتل.

ويركز سميح مسعود على مكون أساسي من مكونات الهوية وهو الأرض،هذه الأيقونة التي تكررت طيلة صفحات العمل فأضحت الدماء التي تغذي جسده. فعن علاقة رشيد بمدينته ص٣٣" لا شيء يقف حائلا بينه وبين حيفا،إنه على علاقة حميمة مع كل ذرة تراب من ترابها". وفي ص٥٤-٥٥ يتحدث السارد عن تخوفات نجيب نصار أثناء ندوة أقيمت في بيروت عن مجموعة من إقطاعيي لبنان وسوريا اشتروا مئات الآلاف من الدونمات في فلسطين وأحكموا سيطرتهم عليها. فعن نجيب على لسان السارد" رد عليها بمدلولات بائنة حول تخوفه من أن ينعطف أصحاب الأراضي الجدد انعطافا يحقق للصهاينة وجودهم في فلسطين ،وينشرون في قراها غصّة الفجيعة".

ومعظم تلك الأراضي كانت مرج ابن عامر ويعد المرج من أخصب الأراضي الفلسطينية التي اشترتها الحركة الصهيونية وشردت فلاحيها. وخسارة الأرض تعني خسارة الهوية لذلك نجد الثورات تتفجر من أجل التشبث بالأرض والحفاظ عليها من أجل الحفاظ على الهوية.

ومن التجليات التي تمثل الهوية الفلسطينية التجلي الفكري وقد مثلته جريدة الكرمل التي كان لها الحصة الكبرى في رواية الكرملي. وجريدة الكرمل أسسها الصحفي اللبناني نجيب نصار في حيفا عام ١٩٠٨ لتكون القنديل الذي تمتد أضواءه عبر سماء حيفا وفلسطين لتعبر الحدود إلى شرقي الأردن والقاهرة والعراق وغيرها. وقد استكتب نجيب نصار أسماء لامعة مثل عزت دروزة وأكرم زعيتر وغيرهم.

ومن الدوافع التي أدت إلى بزوغ جريدة الكرمل الحكم العثماني الذي كان يجبي الضرائب ويلحق الظلم بالعرب ومن ثم الاستعمار البريطاني وما أفرزه من استيطان صهيوني.

وقد عكست كما أوضح سميح مسعود من خلال الكرملي الأحداث الاجتماعية والاقتصادية والتصورات السياسية مستمدة ذلك من الواقع. وقامت بنشر الوعي الوطني ووضعت الشعب الفلسطيني أمام الصورة الحقيقية كما ذكرنا سابقا للحكم العثماني والاستعمار البريطاني والخطر الصهيوني. ومما جاء عن ذلك ص٧٣ على لسان العم توفيق بعدما حدثه رشيد الكرملي عن ندوة بيروت وكلمة نجيب التي قدمها" دور الصحافة أن تكشف الحقيقة للناس ،كتابها وحدهم من يستطيع وضع أجنحة لها تحملها الرياح إلى كل مكان".

ويظهر التجلي الثوري التنويري المقاوم في دور جريدة الكرمل من تنوير للشعب الفلسطيني والأمة العربية بما يحاك ضدها عندما نشرت مقال عن اتفاقية سايكس بيكو وحذرت من خلال توقعاتها مما سيحصل. ومما جاء في هذا الشأن ص١٤٤ عندما زار بوريس باخونين مكتب الجريدة وأخرج اتفاقية سايكس بيكو ووضعها أمام نجيب وقال" طلبت مني حكومة بلادي البلشفية الجديدة تسليمها لجريدة عربية واسعة الانتشار لنشرها وتعريف العرب على ما فيها" وبالفعل تمت كتابة المقالات عن الاتفاقية ونشرها والتحذير منها.

كما حذرت الجريدة من وعد بلفور والخطر الصهيوني ونوايا دولة الانتداب كما وجهت انتقادات إلى أعضاء اللجنة العربية العليا وحذرتهم من الخلافات والسعي خلف المناصب وتصديق نوايا البريطان.فاستنهضت الهمم من خلال هذا التنوير من أجل تدعيم أصول الهوية فارتفع الحس الثوري من أجل حماية الحق الفلسطيني بأرضه والمحافظة على هويته.

وعندما تفجرت ثورة ١٩٣٦ كان للجريدة الدور الفعال في التعبير عن أهداف الثورة والتعريف بالكفاح المسلح. ويتضح ذلك ص٢٠٨ على لسان السارد " واصل كتاب جريدة الكرمل تغطية كل مستجدات الثورة". كما عرج سميح مسعود على ما تعرضت له الجريدة من عراقيل من الأتراك بداية ثم من بريطانيا في محاولات لإغلاقها وإبعادها عن واجبها في أداء رسالتها التوعوية والنضالية ،لكنها استمرت رغم تلك العراقيل في محاولة منها للحفاظ على الهوية العربية لكنها أغلقت أبوابها في العام ١٩٤٢. ففي ص٢٢٥ ما جاء على لسان نجيب" والآن يؤسفني أن أخبركم أنني قررت أن أغلق الجريدة لأنني عاجز عن تغطية نفقاتها المالية".

كما تحدث الكاتب عن قضايا تاريخية وقومية تهم الأمة العربية والشعب الفلسطيني وهذه القضايا تمثل الارتباطات والحوادث والوقائع التي وقعت على ثرى فلسطين عبر الزمن. ومثال ذلك غزو نابليون لمدينة عكا وانهزامه أمام أسوارها. فعلى لسان الشيخ مناور ص٢٠٠" هذا هو السور المنيع الذي بصق أبطاله في وجه نابليون ومنعوه دخول عكا".

وقصة الظاهر العمر الزيداني التي جاءت في أكثر من موقع في الرواية نذكر منها ما جاء على لسان أم رشيد ص١١ في خضم حديثها عن تلك الشخصية التاريخية المهمة "الذي حول حيفا إلى قرية للصيادين في موقع تل السمك إلى مدينة يتمطى حولها سور عال لحمايتها".

كما اهتم الكاتب بالحديث عن المكانة المرموقة للأمة العربية التي تنتمي لها الهوية الفلسطينية وأن هذه الهوية تتشكل بارتباطها بالأمة العربية ويتجلى هذا عبر الحديث الذي دار على مائدة الطعام التي قدمت لفيصل حين استقبلته حيفا بعد فقدانه لعرشه في سوريا.ففي ص١٧٠ على لسان فيصل" إنه أكل دمشق نفسه. أجابه العم توفيق : طبعا لأننا من سوريا الجنوبية ،أكلنا هو أكل إخواننا الذين يقطنون جهاتها جميعا"

بقي أن نقول بأن سميح مسعود شاعر وكاتب ولد في حيفا عام ١٩٣٨ وهجر مع عائلته إلى برقة التي تنحدر منها عائلته.

عمل مستشارا اقتصاديا في ثلاث مؤسسات إقليمية عربية. انتخب عام ١٩٩٠ رئيسا للاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين فرع الكويت.عضو رابطة الكتاب الأردنيين والاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب. صدر له اثنان وأربعون كتابا منها اثنان وعشرون في مجال الشعر والأدب.

***

قراءة: بديعة النعيمي

في المثقف اليوم