قراءات نقدية

الحداثة في أعمال كليزار أنور

saleh alrazuk2منذ فاتحة أعمالها، وهي رواية (عجلة النار)*، تحاول كليزار أنور أن تحتفظ بشيء من التوازن مع شرطين أساسيين في الخيال الأدبي، وهما الحداثة والمحاكاة. وقد تابعت على نفس المنوال في روايتها الثانية (الصندوق الأسود)**، ووزعت اهتماماتها بين الذات المنكوبة والمريضة وبين الواقع الشاحب والآيل للسقوط. بمعنى أنها استعملت الذات كمرآة عاكسة لصور الواقع. وهكذا حققت شيئا من الهدنة بين شرط الحداثة وأدوات الفن الواقعي. ولذلك تكلمت الروايتان عن هموم إقليمية، وهي بالتحديد حرب الخليج الأولى وسقوط النظام في بغداد، وبأدوات استعارتها من شكل السيرة الذاتية.

ولكن باعتبار أنها تكره الحروب، وتدين الحل العسكري لفض النزاعات، كانت تنظر لكل شيء بنظارة سوداء. فهي جاهزة من أول دقيقة لانتقاد الحالة العامة. ويمكن القول إنها تؤمن بفلسفة الممانعة. وهي لم توفر أحدا من سهام النقد والهجاء الذي تحول إلى مرثية لعالم نسوي، يحتل البيت جزءا بسيطا منه. فقد تطور عالمها، في الروايتين، في أروقة المستشفيات والعيادات، وبين الأطباء وأصحاب المعاطف البيض، إن صحت العبارة. وربما استعملت هذه الكناية لتدل على حالة غير طبيعية.

وأستطيع التأكيد إن حاسة الكاتبة للروائح النفاذة جيدة. بل هي ممتازة. ومع عبير التراب، بعد المطر، كانت تتسلل روائح الأدوية والمعقمات. فبطل (عجلة النار) ضابط يرقد في المستشفى لعلاج ذاكرته المفقودة، بينما بطلة (الصندوق الأسود) تنتظر في عيادات الإنجاب الصناعي.  ويمكن أن نقرأ في الحالتين جهدا دؤوبا لاستعادة شيء ضائع أو مفقود. الذاكرة في أول حالة، والخصوبة في ثاني حالة. بمعنى أن كليزار أنور تجسد بشكل ملموس صيغة معدلة من علاقة الإنسان بذاته. وتتجلى الظاهرة، على نحو أساسي، في (الصندوق الأسود) حيث بطلة الرواية تستمر بتحدي المعوقات. ويفاقم من المشكلة أن أعراض الخلاف في البنية والتكوين وليس في الظروف. أي في ذات الإنتاج وليس في المكان الحاضن. ولذلك كانت حياتها حربا متواصلة، وتنطوي على ثلاث رسائل.

الأولى ذاتية: وتتلخص بفشل الحمل الصناعي.

والثانية موضوعية: وتوجز ببالغ الأسى والألم  مأساة السقوط.

أما الرسالة الأخيرة فهي استراتيجية، وتعبر عن عكس الأطروحة. فنساء (الصندوق الأسود) دائما خارج المكان. وبلغة أوضح إما في دمشق (للعلاج) أو في دبي (للعمل). وخلال هذا الشتات يكسب محور العمل ويخسر محور العلاج. ولدينا أكثر من إشارة تدل ضمنا على يأس الشخصيات من الحل الاستراتيجي والاستسلام للحل الذاتي. فالكاتبة تعتقد أنه لو لا صدّام وطموحاته لكانت العراق تعوم بالرفاهية مثل دبي. وعن ذلك تقول: لو لم يلهنا صدام بمسلسلات حروبه العبثية لكان العراق مثل أية إمارة خليجية.

لكنها تساوي بين سوريا والعراق بمستوى الفساد. وتتكلم عن الروتين والبيروقراطية وتفشي المحسوبيات والرشاوي. وبهذا السياق تقول: لم يختموا جوازاتنا إلا بعد وضع عشرة آلاف دينار عراقي في كل جواز. وفي الحدود السورية الفساد الإداري نفسه. فقد وضعنا مائة ليرة سورية داخل كل جواز.

وكانت تبدو المشاهد السياحية، في كل من دمشق وحلب، وكأنها منفصلة أو أنها صدى لخبرات الماضي. فالشخصيات لا تتعايش مع ما ترى، وتمر بالمناظر مرور الكرام، مثل أية مشاهدة من خلف الجدار العازل الذي تكلم عنه سارتر. بعكس حالها في دبي، فقد وجدت في البيئة الحاضنة جوابا ناجعا لمشكلة المكان البديل.

ويكفي أنه تحتل المستشفيات وأسرّة المرضى حصة سوريا. بينما يحتل المساحة، في حصة دبي، البيت وأماكن الاستجمام. والفرق واسع بين أن تأوي إلى بيتك أو أن تلجأ لمصحة. وحتى لا نضع على لسان الكاتبة كلاما لا تريد أن تقوله، يمكن أن نؤكد إن وعيها الباطن كان محتارا من الناحية الاستراتيجية. فطوال الوقت هي رهينة الانتظار الممل والوعود غير الموثوقة كما تقول بالحرف الواحد في مستهل العمل. ناهيك أنها  تحت مظلة من الصراع النفسي لدرجة ملحمية.

وتبدو عاطفتها وأفكارها مشتتة نحو الاحتلال أيضا، أو ما أحب أن أسميه السقوط. فهي لا تعرف ماذا تقول عنه؟. ولا كيف تتعامل معه؟. ولكنها تتناوله بفصل خاص وهو (المفكرة). وفيه تضمنه يومياتها، وهذا أيضا يستوجب وقفة تحليلية.

فيوميات الاحتلال تتراكم ولا تتطور، وترسم صورة محزنة بأسلوب تعبيري سريع هو التلخيص. بمعنى أن فترة طويلة من الأحداث الجسيمة تختصرها بعدة سطور. مثلا حرب الخمسين يوما في الموصل ترويها لنا في ثلاثة سطور، وتخيم عليها الرتابة والتكرار.

بينما الوضع الصحي يعكس الآية. فمعاناة المريضة في العيادة لبضع ساعات توليه كل عنايتها، وتفرد له صفحات طويلة، وكل لحظة انتظار في العيادة تغطيها من كافة الجوانب.. بالمشاهدة (ما تراه العين) وبالإصغاء (ما تسمعه الأذن) وبالإحساس (ما يشعر به القلب وما يأتي على الذهن من خواطر). وهذا لا يبدو عادلا من وجهة نظر موضوعية، غير أن له ما يبرره وجدانيا.

فالرواية، مع أنها اختارت توقيت الغزو بالضبط،  كانت مهمومة بضعف المرأة العاقر، وبانكشافها على مأساتها الشخصية.  وهنا أيضا تخدمنا المقارنة. فأدب الحداثة العائد للمرأة، وفي الذهن غادة السمان ونوال سعداوي وليلى بعلبكي، يبادر الواقع بالهجوم. بتعبير آخر إنه يقلب داخل الشخصية ليصبح خارجها (كما يقول سكوت ماينار في قصيدته: أوهام حقيقية). وبلغة أوضح. إنه يسقط هموم ومعاناة الأفراد على الأشياء غير العاقلة. وفي قصص غادة السمان مونولوجات مطولة تتشارك فيها مع الأبنية والشوارع والأنهار والحيوانات المستأنسة كالعصفور والهرة..

لكن الحداثة التي تتبناها كليزار أنور تضغط الخارج في الداخل، وتتحول الذات إلى جو تفريغ. إن عاطفتها ووعيها الباطن يتحولان لعصّارة أفكار ومشاهد. كل شيء عليه أن يمر بالبوتقة الذاتية وأن ينصبغ بلونها، لا أن يصبغ العاطفة بلونه. وهذا يضع كتاباتها على حدود مغامرة الحداثة. وأزعم أنها تتخلى عن الأطروحة المركزية لعالم ذات مجروحة تعاني من الواقع، وتدخل في واقع تجزيئي، ينكشف لنا بالتقسيط، ويتقدم إلينا عشوائيا بشكل لوحات مبعثرة، وعلينا تقع مهمة تركيبه. فالمعنى لا تقدمه الكاتبة جاهزا، وتترك فراغات كثيرة بين شجرة الأساليب المتفرعة، وعلينا عبء إعادة الترتيب والتفسير.

ما هو المعنى الغائب؟.

وما هي الصور المحتملة؟.

لكن ما يجب أن نتأكد منه: أن الغزو استكمل انتشاره، وأن الحمل لم يتحقق، وأن الحل الأمريكي مثل الحل السوري، كلاهما مكتوب عليه الفشل، والعلاج موجود في زمن آخر.

هل تلمح الرواية إلى الدكتاتورية العسكرية التي لم تعدل إلا في توزيع الظلم، أو ما نسميه مبدأ الدكتاتور العادل؟؟!!. أم أنها تلمح إلى المدينة الفاضلة (وربما دبي صورة منها)؟.

يصعب أن تحدد. لأن التردد كان أهم سمة من سمات هذه الرواية. على الضد من موقف الضابط في عملها السابق (عجلة النار). فقد كان جازما في تحديد علاقة الذاكرة بالتاريخ، مثل شكل الرواية الذي قلص مساحة التجريب ووسع مجال المحاكاة، وجعل من الضابط ومن ذاكرته المفقودة مرآة لمخاض أول حرب عصفت بالمنطقة.

وعليه لا يمكن اعتبار (الصندوق الأسود) ولا (دولاب النار) من الرموز الفرويدية، التي تدل على الكمون أو الطاقة الحبيسة والمقيدة، وإنما هي رموز اجتماعية تدل على الاحتراق أو السقوط في ظرف طوارئ تفرضه المأساة.

عموما، ليس في الروايتين مشاهد جنسية، وحتى أن الأسرّة تقتصر على غرف العلاج في المستشفيات، ولا يرد ذكر فعلي لأي سرير في المخدع أو غرف النوم.

والشيء بالشيء يذكر. إن أيام شهر العسل في دبي، لم تقدم صورة واحدة عارية، واقتصدت بمفردات الحب ونجوى الغرام، إن لم نقل إنها فرضت عليها التقنين. مقابل الإسهاب في طريقة استلقاء المريضة على سرير التلقيح الصناعي في القبو، ورفع ساقيها. وكانت كليزار أنور مباشرة في التهجم على استعمال لغة مكشوفة، ونوهت ، في الخاتمة، برواية علوية صبيح (اسمه الغرام)، وبالأخص كرمها في تعرية النساء، بطلات الرواية.

 

د. صالح الرزوق

..................

*منشورات دائرة الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2003.

**منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2010.

 

في المثقف اليوم