قراءات نقدية

الرمز الخاص والتشكل الدلالي في أشجار خريف موحش للشاعر د. سعد ياسين يوسف

1218 saadالعنوان: في البدء لابد من تأكيد ما اتفقت عليه مع من ذهب إلى تسمية الشاعر (د. سعد ياسين يوسف) بـ (شاعر الأشجار) وهذا ما ذكرتهُ في دراستي النقدية عن مجموعته (الأشجار لا تغادر أعشاشها) في نظرة إحصائية وجدتُ فيها أن لفظ الأشجار قد شكل أغلب عنوانات مجموعته الشعرية ونصوصها، وهنا أقول وأنا أقرأ نقدياً هذه المجموعة (أشجار خريف موحش) أن الشاعر استطاع أن ينقل الأشجار من فضائها العام المألوف ويُحيلها رمزاً خاصاً يحمله الدلالات التي أراد.

أما عنوان هذه المجموعة (أشجار خريف موحش) فأرى أن أقول أن الشاعر ذهب فيه إلى توظيف العنصر النباتي من الطبيعة ممثلا بالأشجار فقرنهُ بالمستوى الزماني ممثلا بفصل الخريف، ليتسنى له إيراد اللفظ الثالث المكون للعنوان (موحش) لتحقق الدلالة الرمزية التي أرادها الشاعر في هذا العنوان، ولكي تتضح دلالة هذا التشكيل الرمزي نرى أن نضع مقابلاً لهذا العنوان العنوان الأتي (أشجار ربيع مؤنس) وبهذا نُشير إلى أشجار الربيع العربي المزعوم الذي لم ير فيه الشاعر إلا خريفاً موحشاً بالظلمة والدماء والموت فاستحالت تلك الأشجار بربيعها المزعوم (أشجار خريف موحش)

النص

يبتدئ الشاعر نصه بقوله:

عندَ ضياءٍ

يُوصفُ فجرا

وصلنا كتفَ كتابِ البحر

في هذا الابتداء يعتمد الشاعر المستوى الزمني أساساً ليتواءم مع التغيرات والاستحالات الجديدة المرتقبة في زمن جديد يحمل فجراً جديدا، إنها رحلة تمثل مرحلة انتقال وارتحال إلى حال جديد آخر، وهو تشكيل استعاري منح فيه الشاعر الكتاب كتفا بعد أن قرنهُ بالبحر إضافياً، وكتف الكتاب تشكيل رمزي يشير إلى تمامه واكتماله، وحين قرن الشاعر الكتاب بالبحر بقوله  (كتاب البحر) فانه ضمَّنَ هذا التشكيل دلالة رامزة أيضا تشي بانتهاء الرحلة وبداية الوصول، لكنها الرحلة القاتلة والوصول المميت، وهذا ما يصفه الشاعر بقوله:

نثارُ زوارقنا يطفو خشباً أدماهُ الموج

رؤوس الأطفال المذبوحين

بنهم نبي كاذب

عيوناً ترنو... أبعدَ من مملكة الضوء

لقد استحال الضياء المزعوم ظلاماً دامساً والصفاء المُنتظر عاصفةً هوجاء لتمعن في تحطيم تلك الزوارق وتجعلها كما يقول تطفو خشباً أدماهُ الموج .

والشاعر بهذا التشكيل الاستعاري، خلع بعضاً مما عند الإنسان ممثلاً بالدم على الزوارق ممثلةً بالخشب، لكي يستطيع أن يُحمِّلَ تشكيله الشعري دلالة رامزة تشي بخيبة تلك الرحلة وخسارتها الفادحة، وهاهم الأطفال يحلون في مقدمة تلك الخسارات، فهم قد ذُبحوا كما يقول: بنهم نبي كاذب وهو تشكيل رامز أشار فيه الشاعر إلى من تجلبب بجلباب الدين وهو يحمل السكين، لكن عيون الأطفال المذبوحين كانت مازالت تنظر بعيون الأمل إلى ماهو أبعد من مملكة الضوء المزعومة على الرغم من أن أقلامهم الجميلة الملونة بالأمل واستشراف المستقبل البهي قد أثكلتها سكينُ ذلك النبي الكاذب فشحبت ألوانها.

ثم يذهب الشاعر صوب الطبيعة ليوظفها في تشكيلاته الشعرية فيقول: اتصالاً بما سبق:

صوراً للنخلِ الواقفِ

ثملاً فوقَ الجرفِ

يلوحُ لضفافٍ أخرى

فراشات فقدت ضوءَ اللونِ

كتفُ الشاطئ يبكي

أعشاشَ نوارسهِ

هنا يوظف الشاعر العنصر النباتي من الطبيعة مُمَثلاً بالنخل العراقي بدلالته الرامزة التي قصدها حين رسم له صورة حسية بصرية متحركة إذ جعله يترنح فوق شواطئ الأنهار بعد أن أنسنهُ ليجعله أيضاً كما يقول: يلوحُ لضفاف أخرى.

لقد أحال الشاعر النخل إنساناً بأيدٍ ملوحةٍ لضفاف أخرى غير هذي الضفاف التي حدثت فوق رمالها تلك الخسارات الفادحة.

ثم يذهب إلى العنصر الحيواني في الطبيعة ممثلاً بالفراشات الجميلة التي شملتها تلك الخسارات ففقدت بريقها وألوانها الزاهية، ويذهب ليسجل خسارة أخرى هي خسارة الشواطئ لنوارسها، فهو قد أنسن الشاطئ إذ جعلهُ يبكي أعشاشَ نوارسهِ التي فقدها، وهو بعد أن خلع عليه فعل البكاء ذهب ليخلع عليه فعلاً إنسانياً آخر حين جعله يتكلم ليعلن احتجاجه ورفضه لما آلت إليه الأحوال إذ يقول:

ويتمتمُ

ربيعٌ بخسٌ هذا

من دفعت

يماماتُ المعجزةِ

حناجرَها ثمناً لغنائهِ

هذه هي صورة الربيع التي رسمتها ريشة الشاطئ المفجوع بنوارسهِ.

إنهُ ربيع بلا زقزقة العصافير ومن دون تغريد البلابل لقد طالت يدُ تلك الخسارات هذه الطيور الجميلة فسلب هذه الربيع المزعوم حناجرها ليصادر صوتها أملاً في الغناء بحناجرها، وهو لا يعلم بأنه إنما استحال بذلك خريفاً موحشاً بلا غناء، لذا يرتفع صوت الشاعر فيقول:

سعاةُ بريدِ الموت

مازالوا

بمعاطفَ غيمٍ أسود

رفعوا ساريةٍ

أدماها الطينُ الممزوجُ

بزيتِ الرغبات

هكذا يرسم الشاعر صورة ثمار هذا الربيع المزعوم والموهوم الذي أتى بسعاة بريد الموت الذين كما يقول: تجلببوا بمعاطف غيم أسود، وهو تشكيل رمزي أحال فيه الشاعر جلابيب سعادة الموت (غيماً أسودَ) لتتوافق الدلالة الرمزية مع هذا التشكيل، ذلك أن الغيم الأسود إنما هو محمل بمطر السوء الذي جاء به سعاة الموت وهم يرفعون سارية الربيع المزعوم الذي ذهب إلى وصفه بالربيع المختنق بدم الزهر لذا يُحيلهُ الشاعر خريفاً ليس كأي خريف إنما هو خريفٌ موسومٌ بكفوف دماء، أما أشجاره فقد فقدت ماءها فاستحالت أغصانها أغصاناً موحشةً.

لقد استطاع الشاعر أن ينقل لفظ الأشجار بمفهومه المألوف إلى فضائه الشعري الخاص فيحيله رمزاً خاصاً يؤسسُ في فضائه الجديد تشكيلاته الشعرية على وفق تصوره الجمالي ورؤيته الشعرية.

وهكذا رسم لنا صورة الربيع العربي المزعوم على وفق رؤيته الشعرية التي أحالتهُ خريفاً مُوحشاً فقدَ أشجاره وأطياره، واستحالت صباحاتُهُ المؤنقةُ ظلاماً دامساً، تلفُّ بعباءته ذئابُ الليل المسعورةُ أجسادَها، طمعاً بالمزيد من الدماء والفناء.

 

أ. د. خضير درويش

 

 

في المثقف اليوم