قراءات نقدية

الجسد والإختلاف الثقافي

محمد كريم الساعديإنَّ الجسد في المسرح من العناصر المهمة في التشكيل المسرحي، بل هو العنصر الحي المتحرك في المسرح الذي يسهم في إنتاج دلالات ثقافية مختلفة ومتنوعة تساعد في تقديم الصورة المسرحية من خلال لغة بصرية حركية تدخل في تدعيم الخطاب المسرحي بحسب الفكرة والحوار والشخصية وعناصر النص الأخرى التي تجسد على خشبة المسرح للوصول الى تكوين الحضور الفني والثقافي، الذي يعمل على تقديمه الى المتفرجين في فضاءات من التلاقح الثقافي الداعم لماهية التلقي عند المتفرج من خلال ما يقدمه الجسد من إنطباعات فنية وثقافية مختلفة تأخذ في نظر الإعتبار بيئة العرض المسرحي وكيفية تقديمها وتجسيدها من خلال منظومة المسرحية، التي يكون فيه الاداء الجسدي المحور والمرتكز لتمظهر الأحداث والموضوعات المسرحية، لذلك فان الهدف الأول من الأداء الجسدي في العرض المسرحي هو تشكيل وعي أدائي يسهم في تكوين خطاب العرض وملئ فراغاته من خلال الأداء الجسدي والحركة المستمرة القابلة الى التواصل مع بنيات تشكيل العرض المسرحي، للوصول الى بث دلالات تحمل في طياتها تشكيل الصورة المسرحية في فضاء العرض وفضاء التلقي المسرحي، والإجابة على التساؤلات التي يطرحها المتلقي لإستنطاق ما يدور في تمظهرات العرض، أو حتى في فجواته التي يمكن ان تردم من خلال التعاقب في الاحداث لإكمال الرواية المقدمة في اطارها الفني داخل العرض وخطابه . ومن هنا فأن الوعي الأدائي كما يستنتج من نظرية الخطاب عند (فوكو) هو الوسيط الذي يقع بين النص والمتلقي، فهو الذي يترجم النص ورؤاه الفكرية والدرامية ويحولها الى منظومة خطابية (بصرية حركية) تعتمل على تشكيل لغة العرض لتلقيه حسياً ومن ثم عقلياً وحسب نوع وطريقة الأدراك عند المتلقي، لذلك فان الوعي الأدائي للجسد في المسرح ينطلق من كونه وعي حاد وشديد الأختلاف والتناقض ويتميز بأنه الوعي الذي لا تتوجه رغباته نحو الحضور أو الأصول، ولكونه مواكباً في طبيعته فإنه يرفض أن يكون مقيداً داخل نسق ثابت من الإشارات، فالذات الادائية توجد في حالة كلية غامضة تحول نفسها وتنشرها داخل إنحراف مراوغ للذات وقد أصبح نشاط تفكيك الهوية في مختلف النصوص السيادية في الثقافة من أجل بثها إستجابة مؤكدة لحقيقة ولغة محددة بواسطة الهوات والفراغات والفجوات والغموض الذي تسهم في استثارة وستناهض وعي المتلقي الذي يقابل الوعي الأدائي لدى الممثل وجسده حتى يساير هذه التشكلات الجسدية وما تقدمه من تمحورات حول الكيفية التي تشكل فيها أنساقاً جديدة مغايرة للطبيعة المعتادة في العروض التقليدية، ومن هنا تنطلق آليات تشكيل الأداء الجسدي في العروض المغايرة في المسرح ما بعد الحداثة وما يقدمه من رؤى جديدة في تقديم الجسد ثقافياً وفنياً مغايراً في ضوء الخطاب الجديد المبني على ما تحمله هذه الأجساد المؤدية للحركة من صور ذات طابع ثقافي يتمظهر فيه الصراع من خلال تحشيد " علامات تسلم في رسم وتكوين ملامح الصراع بين ما قيد به من ملامح ثقافية وأسلوب الرفض لها، وذلك من أجل أن يساهم هذا الصراع في تفعيل الصورة الذهنية عند المتفرج لكون الردود الذي يلعبه الممثل في هكذا نوع من العروض على أثارة المتفرج وتفجير الحقائق الكامنة فيه وفي واقعه وإشراكه في التجربة الفنية من أجل تحقيق يقظة روحية ونفسية، أو يقظة أجتماعية سياسية " يعمل من خلالها وعي المتفرج على تبني ما يطرح على الخشبة في الخطاب المسرحي بشكل يساعد على تفعيل وإيقاظ ما هو مغيب، لذا فأن الجسد في العرض المسرحي يحمل في أدائه الفني الصراع الثقافي لما يريد أن يقدم في العرض من صراع بين الحضور والغياب، بين السلطة التي تطبع على الأجساد مقرراتها وأنظمتها وقوانينها، وبين الرغبة للخروج من سلطة السلطة وخطابها وتفكيكها والبحث في ما هو مغاير لها لذا فأن الجسد ما بعد الحداثي من خلال العرض المسرحي هو من يقوم بتفكيك السلطة التأليفية وإيهام حضورها ويشتت طاقتها الكمية ويوزعها بين المؤدين والمتلقين باعتبارها المصدر الكامن للسلطة المرجئة والأفتراضية والجوهرية ولذلك هو تنحية للحضور أو السلطة وتأكيد للغياب والعجز ورغم ذلك فانه يظل في بعض الأمثلة، تفكيكاً للأنساق المنتظمة (مثل النص) من خلال تدخل الأضطراب، أو الفوضى التي يمكن أن تبدأ تطورها في تجاه نظام تركيب أعلى قادر على إنتاج آفاق جديدة في فضاءات العرض والتلقي وإنتاج مستويات أخرى في وعي المتفرج المتواصل مع الخطاب في العرض المسرحي من خلال الأجساد المتحركة والباثه في إطار الإظهار لما هو مغاير ومغيب عن الظهور في خطاب السلطة المراد تفكيك أنساقها في لغة العرض المسرحي .إن ما يقوم به الجسد المؤدي الذي يشتغل على وفق الوعي الأدائي في العرض المسرحي هو يقدم اختباراً لصورة الصراع الثقافي للسلطة المتمثلة في خطاباتها المراد نقدها ونقضها وتفكيك دلالاتها، فالأختبار الذي يقدم في ذات الوقت عبر الجسد، أي عبر الحد الفاصل بين الذات المتمثلة بتمظهرات السلطة على الجسد، بمعنى بين الداخلي المغيب والخارجي الحاضر، ومثال ذلك لو أخذنا ثنائية الصراع بين المغيب الداخلي والحاضر الخارجي عبر الجسد في مفهوم العرق على وفق ما يريده (فوكو) في نظرية الخطاب فأن العرق يطرح في هذه الصورة باعتباره النقيض أشكالاً محددة وتفاعلية من (العنصرية) وهو أحد الأمثلة الأكثر أقناعاً في الخطاب الفوكوي (Faucauldain) الفاعلة (...) ويشير (فوكو) الى أن أنظمة الحقيقة تنبع من مؤشرات السلطة / المعرفة والى أن أشكال الخطاب تتحدث عن قاعدة، وأن المدونة التي تصوغها ليست مدونة قانونية بل مدونة تطبيع وسياق الخطاب التطبيعي حول الأختلافات المعرقة، هو محصلة أنظمة تجاوب ظرفية لحقيقة العرق. ولو أخذنا هذا المثال ومارسنا تطبيقه على عرض مسرحية (عطيل) لشكسبير كما أخرجها المخرج النمساوي (هانز جراتسر) الذي يقدم هذه الشخصية في صورة عصرية مرتبطة بمفهوم التطبيع على وفق الأشكال المحددة والتفاعلية من العنصرية، نجد أن جسد (عطيل) قد قدم كعرق مغاير ومخالف لما حوله من أجساد أخرى، جسد يتحول فيه الصراع بين الأعراق في ضوء الأنساق الثقافية المختلفة، بين الشمال والجنوب، أو بين الحضارات (الشرقية والغربية)، وهنا لا تعرض عطيل تراجيديا الغيرة أنما تعرض طبيعة محددة لغيرة رجل أسود في علاقته مع زوجته البيضاء، من جانب آخر يقودنا هذا الموضوع الى أمكانية أو عدم أمكانية الإتصال والتفاهم بين الحضارات، ونظرياً تعطينا (عطيل) عدم إمكانية هذا الإتصال بين الحضارات وفي الوقت الذي يقدم لنا فيه طبيعة محددة لغيرة رجل أسود ويرفض أن يقدم لنا الغيرة بوجه عام نجده يصل الى نتيجة عامة في أن الاتصال الحضاري بين الجنــس الأبيض والجنــس الأسود مستحيل، وهذه الأستحالة لم تأتِ من فراغ أو قانون يصاغ في مدونة معينة تناقش قضايا الأجناس والأعراق، بل هو سياق لخطاب ساد منذ عهود قديمة تناولت موضوعة عدم التوافق الحضاري بين الألوان، والأديان، والحضارات شكّل الجسد جزءاً مهم في الصراع الثقافي فيها، بل وقع على خارطة الأجساد العديد من الصراعات في هذا الإطار، لذلك فان المخرج النمساوي الذي يقدم (عطيل) في العصر الحديث هو لم يخرج من الصورة النمطية المعدة سلفاً عن شكل الصراع الثقافي والحضاري بين (عطيل وياغو) بين (الأبيض الأوربي) صاحب القيم والحضارة والمركز الذي يرجع اليه كل شيء وبين (الأسود الأفريقي)، أو (الشمال أفريقي) الذي يظهره لنا المخرج في أطار الصراع بين الحضارات بصورة نمطية أعتاد المتفرج الاوربي أن يرى هذه الصورة وخصوصاً في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لكن آثارها مازالت تمارس الى الآن في المسرح الأوربي الحديث .

ومن الحالات الأخرى الذي ينقلها لنا كتاب (المسرح الطليعي) عن مسرحية (الستائر) التي أخرجها المخرج الغربي المعروف (بيتر بروك)، إذ يظهر الجسد الشرقي (العربي) بملامح ارتبطت به في الذهنية الغربية والى الآن، ما زلنا نشهد هذه الاوصاف للأجساد العربية والتي يقدمها على أنها (أرهابية) من خلال وصف أحد النقاد لهذه المسرحية وهو ما يشير اليها (بروك) بأفعال جسدية دالة عن هذه الأفعال، وعن ذلك يقول احد النقاد ؛ يظهر الارهابيون العرب ويرسمون بخفة ما ارتكبوه من جرائم قتل واغتصاب، كما يرسمون مخاوفهم، وذلك حتى تغطي الستائر بصورة غير واضحة للشر نتيجة ذلك مؤثرة ومثيرة للغاية، هي مؤثر ومثيرة للذهنية الجماهيرية الغربية التي جاءت لمشاهدة مثل هكذا أعمال لتسهم في تثبيت الصفات للأجساد العربية، كما ساعدت مسرحية (عطيل) في السابق في تثبيت بعض الصفات السلبية مع أصحاب العقلية البيضاء، كذلك ساعد المخرج الاميركي (ششنر) ذلك في وصف الأماكن التي قدم منها منفذين أحداث الحادي عشر من سبتمبر بأنها (أماكن رعب) فهل هذه الأمكان وبالتحديد (الشرق الاوسط) هو مكان لإنتاج الرعب بالنسبة للأمريكيين خاصة والعالم الغربي عامة، علماً أن من ساهموا في هذه الأحداث لا يمثلون أبناء الشرق الأوسط على اعتبار ان هؤلاء لا يشكلون سوى فئة قليلة دمرت بسبب أفعالهم بلدان كثيرة في الشرق الأوسط وقتل على أثر الحروب التي شنتها أمريكا العديد من الأبرياء .

إنَّ الرد بالجسد على ما يقدمه المسرح الغربي من روايات رسمية ذات أبعاد فكرية متوغلة بالفكر الكولونيالي حول أوصاف ونعوت الأجساد المغايرة لهذا الفكر يتطلب تقديم المتناقض لتلك الروايات وإظهار بطلان ما ترمي اليه من أفكار تقدم الأجساد الهامشية على أنها أجساد من عالم أخر هامشي لا يستطيع أن يساير التطور والثقافة في المركز العالمي / الثقافة الغربية ذات المواصفات الخاصة، لذلك يأتي خطاب الجسد في المسرح المغاير على إظهار التناقضات والثنائيات الواجب كشفها، وهنا لا أتكلم عن استخدام الجسد في التمثيل بصورة مغايرة لمفاهيم فن الأداء، لأن الأداء أو استخدام الجسد في المسرح هي واحدة، أي أن الممثل في الغرب والشرق يستخدم جسده في تقديم الفكرة والحوار والشخصية ... الخ لكن الأسلوب في تقديم الأجساد يتغير نسبة الى آليات كشف الخطاب الذي صدرته السلطة الكولونيالية على مستوى عقود طويلة للذهنية الشرقية، والتي جعلت من هذا الخطاب هو المعتمد عند اغلب من أعتنقوا الثقافة الغربية، التي دائماً يصفون الشرقي والعربي خصوصاً بالأوصاف المعروفة ذات الدلالات الفكرية الأنتقاصية من ثقافته وطريقة حياته، لذلك فإن البحث في عملية الأستجواب تتمركز في عملها على الأختلاف بين الدال والمدلول، أي التركيز على الخلاف بين الدال والمدلول كون هذا الدال يخفي عدد من المعاني التي تتناقض فيما بينها لو قرأت على وفق موضوعات متعددة ومتناقضة في الوقت نفسه، أي أن مسألة أثارة الأختلاف بين الدال والمدلول سوف يقوض المعنى الأحادي الذي يريد الخطاب الثقافي الكولونيالي توظيفه في الثقافات الاخرى. إن الأستجواب سيظهر للمتلقي الذي يلتقي الخطاب المسرحي المبثوث من العرض المسرحي لتشكيل الصفات الأصلانية المغيبة التي تحملها الأجساد المؤدية للعرض على خشبة المسرح .

إنَّ الهوية الثقافية التي يعمل الجسد على المسرح أظهارها تعتمد على آليات تجسيد ما يراد أظهاره من ملامح مغيبة تتصارع مع الحضور المفروض على الظاهر من الجسد، وهنا تكون عملية التظهير الذي يسعى إليها الممثل من خلال عملية التجسيد لتلك الملامح تساعد في تثبيت الهوية المراد تقديمها عن طريقة الجسد في الخطاب المسرحي، وبالتالي فإن هذه العملية تكون نشطة من تجسيد امكانيات تاريخية وثقافية بعينها، حيث يؤكد (باتلر) على بنية الاداء التي تنشئ الهوية باعتبارها عملية من التجسيد (Embodiment) واعتبار الهوية طريقة للقيام باستنساخ موقف أو حالة تاريخية، فمن خلال تكرار أفعال الأداء تتجسد مجموعة من الإمكانيات التاريخية والثقافية وبنفس المنطق يوصف الجسد بأنه تاريخي ثقافي وكذلك وقبل كل شيء تنبثق الهوية المراد أظهارها من خلال الفعل الدرامي المغاير .

إنَّ الأداء المجسد للملامح التي تشير الى تقديم الهوية ذات الأبعاد التاريخية الثقافية التي ترجع بأصولها الى الجذور الخاصة بالثقافة المحلية، هو أداء قائم لإيجاد علامات قادرة على تظهير هذه الملامح ؛إذ يقع على عاتق الممثل من خلال جسده خلق وأستنبات هذه العلامات التي تشير الى الشخصنة، والتي تتصل بإكتمال بناء العمل الفني، ومما لا شك فيه ثانية أن هذه العلامات (في نفس الطريق) تضعها تُحملّها فوق جسده كما الخطوط والألوان عند فنان التصوير الزيتي والرسام فوق القماش، وهذه العملية تتطلب المعرفة الكافية والوافية بالأبعاد الثقافية والأدائية التي تميز الجسد الذي يحمل هذه العلامات ذات الأبعاد الثقافية الأصلانية وليست مقلدة بطريقة بعيدة عن البيئة التي تشتغل بها هذه العلامات، حتى تكون الإشارة الى الهويات الثقافية وتجسيدها في بعدها التاريخي واضحة في مجال الإظهار الثقافي الداعم لهذه الهوية الثقافية .

إنَّ الجسد في ضوء التشكيل المسرحي والإختلاف على وفق الآليات الآتية :

• إن الجسدَ في ضوء الرد الثقافي في إطار المسرح يشتغل على الوعي الأدائي في إنتاج مفاهيم ثقافية تستند على البعد الثقافي الأصلاني وتسهم في ذلك الفراغات التي يوجدها الأداء الجسدي في العرض المسرحي وملأها من خلال الأداء البصري والحركي المجسد للبعد الثقافي المراد تظهيره في الخطاب المسرحي المرسل الى المتلقي .

• يكون الجسد كوسيط ثقافي رابط بين علامات ثقافية أصلانية مقدمة في النص المسرحي الى المتلقي لأن الوسيط الثقافي يكون حاملاً للدلالات ذات الأبعاد الثقافية والفنية للثقافة الأصلانية .

• يعمل هذا الجسد في ضوء الوسيط الثقافي على تحشيد العلامات المساهمة في دعم الصراع بين الحضور / السلطة، وبين المغيب / الهامش، وهذه العلامات تبرز أهم التناقضات في إطار الثنائيات المتقابلة بين الهويات المتصارعة .

• يعمل الجسد على تفكيك السلطة التأليفية للهوية المسيطرة في الخطاب الثقافي وتنحية حضورها من خلال عملية أستجواب تتمركز في البحث في الأختلاف بين الدال والمدلول للخطاب السلطوي للوصول الى معان متعددة ومتناقضة تسهم في تفكيك سياقاتها الثقافية.

• يعمل الجسد في ضوء الرد الثقافي على تظهير الهوية الثقافية في بعدها الأصلاني المغيب وذلك في موازاة عملية التفكيك للخطاب السلطوي، وهذا التظهير الثقافي يتم من خلال عملية تجسيد للأبعاد الثقافية والتاريخية ذات الدلالات الخاصة بالهوية المحلية، وهنا يتم التجسيد من خلال تنشيط هذه العلامات على الجسد كنوع من أنواع الرد الثقافي المقابل لخطاب السلطة المسيطرة .

 

الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

 

في المثقف اليوم