قراءات نقدية

نقد السلطة البيروقراطية، قراءة في القضية لـ (كافكا)

الكاتب من مكونات المجتمع الإنساني، وقد يختلف الدور الذي يلعبه، فنجد من وقف مع الفئة الحاكمة، ومنهم من وقف مع الفئة المحكومة، وقد يبني الكاتب هويته عن طريق التاريخ، فنجد نتاجه يوازي التاريخ و يؤسس هويته، فيما هو يقاوم السلطة، ويرسم صراعه معها، أو يسايرها وينخرط تحت جناحها .

وفي ظل الأنظمة الدكتاتورية الضاغطة، لابد له أنَّ يوظف نتاجه لنقدها وابراز عيوبها .

والسلطات الضاغطة ليست سياسية فقط، انما هناك سلطات حزبية ودينية وسلطات دينية سياسية وهي اخطرها؛ لأنها وظفت سلطتين في واحد، وتأتي السلطة الأجتماعية أخطر أنواعها لأنها تنزع من الإنسان كيانه ووجوده، لتسيطر المصالح الشخصية اولاً، ثم يأتي من هم ادنى درجة في التحكم بمصائر الناس وتحديد أو بناء نمط حياتهم تحت ارادتها هي .

من جديد يحتل الإنسان والواقع والحدث الأساس الأول عند (كافكا)، ويسعى الى مناقشة قضية اين الإنسان؟ ونجده دائماً يفضل الأبتعاد عن الزمان والمكان ؛ لأن القضية عنده ترتبط ضمن نطاق الإنسان فقط، فالقضية عنده عامة بالإنسان، وليست خاصة به فقط، لتنحصر كتاباته ضمن خصوصية الإنسان فقط، وهي اشكالية معاشة .

وتعد البيروقراطية: من المصطلحات التي تنتمي الى علم الأجتماع والعلوم السياسية، استمده (كافكا)،لينثر مفهومهه ضمن نطاق روايته، بغية شرحه وتطبيقه للناس، وهي مفهوم يعني تطبيق القانون بالقوة.

وعمدت هذه السياسة الضاغطة الى جعل الإنسان المحور الأساس فيها، ذلك لأن الإنسان هو الهدف الأول والغاية الأساس الممارسة ضده السلوكيات الضاغطة جميعها؛ وهو مرض يصيب من يمتلك سلطة او مرتبة اعلى من غيره، فغريزة الإنسان السيطرة على الغير.

من غلاف الرواية نستمد غاية الروائي فيها اذ حدده بشخصية الإنسان فقط، واعتمد الى رسمه بهيكلية متعبة مثقلة بالهموم والأوجاع، ولم يكتف بهذا فقط بل عمد وبفعل قصدي الى تجريده من ملابسه، ليمثل هذا التجريد من اقسى وابشع التصويرات.

تصنف الرواية ضمن نظام روايات الحلم، الخيال، وتنتمي الى رواية اللاواقع .

تبدأ بسرد حياة (يوزف ك) الذي يعيش في (بنسيون) ويعمل وكيلاً في بنك، وعلى الرغم من منصبه العملي إلا أنه كان يعيش في غرفة داخل (البنسيون)؛ لأنه امتنع الرشوة والمخادعة واخذ مال الغيّر، وهي فكرة عمد (كافكا)الى الأشارة اليها منذ البداية بغية شد ذهن القارىء الى مغزى فكرة مفهومة، لكنها تحتاج الى اكمال القراءة الى النهاية لمعرفة القضية بأكملها، وهذا الأسلوب في الكتابة امتياز يحسب لـ (كافكا) ؛ لأنه ابدع في توظيف هذه الطريقة من الكتابة وجذب القارىء الى نهاية الكتابة ( من ألالف الى الياء ).

(القضية ) لانعرف هدفها؛ لأنها حكاية ملفقة ضد (ك)- يعمد الروائي الى توظيف المختصر من اسم يوزف بـ (ك) فقط-، على الرغم من التفصيل في الأحداث إلا أنها تبقى في قيد التعقيد والغموض؛ لأنها قائمة على تهمة باطلة فكيف للإنسان أن يتهم من لاشيء؟

قسمت الرواية الى (9محاور)، في كل محور نكتشف تفصيل جديد لقضية(ك)، فالمحور الأول: خصص بعنونة(اعتقال) وهي بداية السلم المظلم الذي يقتاد اليه(ك)ليبدأ مصيره المجهول، فكيف لإنسان يمارس عمله اليومي ويتهم في الوقت ذاته ويرغم على الأستمرار بعمله، لكنه في المقابل مطالب بمحاكمة قضية لاذنب له فيها، بل أنه يجهل سبب اعتقاله ومحاكمته فهو(الإنسان المتهم من دون ذنب)، وهي صورة لواقع معاش بحذافيره في المجتمعات المعاشية أنياً، فكم من بريء يعيش حياته سجين تهمة لاذنب له فيها، ليقع أسير تهمة باطلة تعتم عليه مسار حياته.

ثم يبدأ المحور الثاني: بمهمة التحقيق في القضية التي لاوجود لها من الأساس، ولنتعرف على النقد المعلن لممارسات السياسية الضاغطة، وكيف استثمر مفهومها في السيطرة على الذات الإنسانية واستغلالها –الذات-،   وفضح بؤرة الاستبداد الذي يكشف ذاته بذاته عن طريق سجل الممنوعات، فإنَّ فساد أية سياسة يبدأ بفساد الضمائر أولاً ( الأفضل أن تعطينا نحن الأمتعة، وألا تحفظها في الأمانات ؛ لأن الأختلاسات كثيرة في قسم الأمانات ؛ ولأن قسم الأمانات يبيع المودعات بعد وقت معين بغض النظر عن القضية هل أنتهت او لم تنته ...)، في هذا النص السردي نرصد النقد المعلن للضمائر المباعة، إذ إن حامي الأمانة بائع للضمير، ولنرصد ماهو أخطر في القول: ( في نهاية الأمر تحصل من قسم الأمانات على ثمن مودعاتك، وهو ثمن قليل في حد ذاته لأن الفيصل عند البيع ليس قيمة العرض ولكنه قيمة الرشوة؟ هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فقد دلت الخبرة على أن مثل هذا المبلغ يقل بإنتقاله من يد الى يد وبترحيله من عام الى عام) .

وقد وظف المحور الثالث: سرديته لنقل صورة وهيكلية المحكمة المزيفة، لنكتشف سلسلة طويلة من هذه المحاكم، فالمحكمة الواحدة تمتلك محاكم عدّة، اما قاعة الأجتماعات فأنها قاعة فارغة لايوجد فيها سوى(ك) والرجلين اللذين اخذاه الى هذا المكان المجهول، وليجد أن المحكمة مكانها في (السطح) لتشرف على المدينة بأكملها، وليبدأ (ك) بالقول في داخل ذاته:( ليس من شك، في أن وراء تصرفات هذه المحكمة في موضوعي أعني وراء أعتقالي وراء التحقيق الذي يجري معي اليوم، منظمة كبيرة . منظمة لاتشغل الحرس المرتشين والمفتشين والقضاة التافهين الذين قد يتصفون في أحسن الظروف بالتواضع ...هدف هذه المنظمة ياحضرات السادة؟ هدفها يتلخص في أعتقال الأبرياء واجراء تحقيق معهم لامعنى له وغالباً ما يكون هذا التحقيق، كما في حالتي بلا نتيجة...)، من ثم يبدأ في داخل ذاته المضطهدة بإكتشاف من أسس هذه المحاكم العشوائية، ليجد أنها محاكم مرتبطة بالبيروقراطية، بل وأخطر من هذا فإنها أستمدت مفهوم الدين ووظفته غاية وكاريزما أسست وجودها المزيف الذي يمتلك طابع التخويف بحجة غطائه المستمد لمصالحهم الشخصية، يقول(ك):(لحى جامدة هزيلة لو مد الإنسان اصابعه فيها، لكان كمن يصنع المخالب، لاكمن يدس اصابعه في لحى)، وأكتشف (ك) تحت اللحى( شارات تلمع فوق ياقات الثياب، شارات مختلفة الألوان والأحجام .كانوا جميعاً، على قدر ما كان الناظر يرى، يحملون هذه الشارات .كانوا جميعاً جماعة واحدة، بالحزبين الظاهريين يمناً ويساراً. وعندما التفتت ك الى الخلف فجأة رأى نفس الشارات على ياقة قاضي التحقيق الذي جلس واضعاً يديه في حجره وينظر الى أسفل بهدوء . وصاح ك: هكذا!!...).

ودار المحور الرابع: فيها حول الأنسة(بورستنر)، وهي التي نتعرف عليها منذ المحور الأول والتي سعى(ك) الى الأعتذار منها ؛ لأن( الحارسان اقتداه الى الحجرة الجانبية الخالية التي كانت مؤجرة منذ وقت قليل سكناً للأنسة (بورستنر)، الكاتبة على الآلة الكاتبة)، بعد أن تبعثرت غرفتها بسبب من اعتقل(ك)، ولنجده فيما بعد يمتلك الرغبة في الميول اليها وهو المغرم بـ( الزه) الفتاة التي تعمل(جرسونة )في خمارة، ليجد الأمتناع فيما بعد من الأنسة (بورستنر).

من ثم نكتشف اشخاص جدد هم(رابنشتاييز ذي الجذع المتصلب واليدين المتذبذبتين، كان بليد يوظف اهتمامه لـ (الأناقة وحسن المظهر)، اما(كوليش) فقد امتاز بالشعر الأشقر والعينين الفائرتين،و(كاميز) ذي( الأبتسامة المتسلطة على وجهه، المرتسمة عليه نتيجة تقلص مزمن في العضلات )، هولاء كانوا مغيبين بالنسبة الى (ك)، شخصياً لايمتلك معرفة بهم، لنكتشف فيما بعد انهم من الحراس الموظفين لمراقبته، ويقعون تحت قيادة النائب العام(هاستر).

المحور الخامس: اتخذ عنوان الجلاد، نعثر هنا على جملة حقائق موثقة بالدلائل، ويشير الى الفساد الأداري، والرشوة واهميتها في مثل قضية (ك) المتهم من دون قضية، وينتقد نظام المحكمة التي تحولت الى الرشوة والفساد بدلاً من العدل، ( انكم أنتم العصابة الفاسدة التي كنت دائماً أهاجمها! لقد تزاحمتم هنا في هيئة المستمعين ...، وكونتم أحزاباً ظاهرية، وصفق حزب منكم ليمتحنني، لقد أردتم أن تتعلموا كيف يكون المكر بالأبرياء! ولم يكن وجودكم هنا، على آمل، بغير فائدة)، ثم لنفهم غاية (كافكا) في جُل هذه المحاور المقدمة قبل هذا المحور والذي اعتمد في سردها على التفصيلات الدقيقة، ونسج الكثير من الشخصيات في داخلها، لنجد ذاتنا في دوامة من الشخصيات والتفصيلات المكثفة التي قد تقودنا الى شيء من الملل، ليسحبنا هذا الملل الى رغبة مؤكدة في اكمال القراءة عندما نفهم المغزى الذي يشير الى فكرة ارتضاء الإنسان بالظلم ليضمن لذاته استنشاق اوكسجين الحياة والأبتعاد قدر الأمكان عن غازه.

وقد نال (خادم المحكمة) درجة من الأهمية لأرتباطه بالقاضي، ثم لتأتي المحاور فيما بعد وتعلن نقدها المعلن بازاء المحكمة والقضاء الفاسد، واشارت الى علاقات بعض المحامين بالقضاء المزيف الذي ينتصر للظالم ويظلم الفقير، نفهم هذا من علاقة عم(ك) بالمحامي المسن(هولد) الذي يرتبط عمله بمثل هذه المحاكم، وكان قد اصر عم(ك) الى أن يتولى هو مهمة الدفاع عن(ك)، لكن(لينى) ممرضة هذا المحامي والتي تعلم بجل اسرار هذه المحكمات والقضاء الفاسد كانت السبب في أن يرفض المحامي استلام ملفه الشخصي؛ لأنها عمدت الى جذب(ك) لها وبدلاً من أن يسعى الى تخليص ذاته من القضية الملفقة بإزاءه ذهب الى الأستمتاع والمقابلات السرية بينه وبينها، مما ادى بالمحامي الى رفض القضية لأستهانه(ك) به وانشغاله بملاذته.

ثم نجد في المحاور المتبقية مقاربة قضية رجل الصناعة من قضية(ك)، ثم ننتقل الى محور الكنيسة لنفهم تورط رجال الدين والكنيسة بالقضاء الفاسد، ثم لينل (ك)مصيره بالقتل على يد اثنين تولوا مناوبة الملاعبة معه على السكينة ليقتل ذاته بذاته، وبهذا يتهم بقتل ذاته بقضية مزيفة منذ البداية(سكين جزار طويلة رفيعة ومسنونة،...رفعها الى اعلى في الضوء للتأكد من حدتها)

وركزت الرواية على رسالة عدم الخضوع للقوي، والتركز على رسالة الأصلاح فأساس الأصلاح لابد أن ينبع من القضاء، الذي بفساده يفسد الحكم، واهم نقطة اشارت اليها السردية نقد السلطة الأجتماعية، على الرغم من غاية هذه الأنظمة الضاغطة في السيطرة على الفقير اولاً واستغلاله، واشارت الى ان العلاقات مثلت الكاريزما الأساس المحيطة بالحياة المعاشة ضمن سلسلة سلطة بيروقراطية.

وإِنَّ وضع الدين في إطار الحكم يفضي إِلى استحضار التاريخ وما يمثله مَنْ إشكاليات، بحيث تنمو على خلافات مستمرة بين المكونات مما يعطي الاستبداد سلطة مركزي   وثمة حالة من التوازن بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، إذ تقوم السلطة الدينية بتدعيم عمل السلطة السياسية، ومن جهة ثانية، فإِنَّ السلطة السياسية تقوم بإحتضان المؤسسة الدينية وتدعم فعلها مهما كان شكله بما ينسجم مع الطروحات الدينية .

فالسلطة الدينية تعتمد في الأحيان اغلبها على الإفتاء، وعليه فمن الطبيعي أنَّ يكون لرجال الدين مكانة ومرتبة عالية ؛ لأنهم قادرين على فرض سيطرتهم على الشعب، وتوظيف طاعة الناس لصالحهم بوصفهم

ممثلين لسلطة الخالق، وهذا الدور نجده في المجتمعات التي تستحضر التاريخ، إذ نجد سلطة رجل الدين تفوق سلطة السياسي

والسلطة الدينية هي اخطر و أقوى السلطات في وقتنا الراهن ؛ كونها القاعدة المركزية لأصدار الأوامر

لم تتمظهر السلطة الدينية في شعر عدنان الصائغ عند حدود سلبية تلك السلطة بإطارها العام، بل وجدنا أَنَّ هنالك كثيراً مَنْ المحاولات التي سعى إليها الشاعر مَنْ أجل نقد ظاهرة السلطة الدينية (السياسية)، وهذه الحدود نتعرف عليها حينما يتحول الدين إِلى أداة لوسيلة سياسية، وهو بذلك يتجاوز الأفكار الدينية العامة التي يتفق عليها المسلمون، ليذهب إِلى المناطق الإشكالية في التأريخ الديني للمسلمين

 

بقلم: وسن مرشد

 

في المثقف اليوم