قراءات نقدية

سايكولوجية الشعر واغتراب الذات، قراءة في أشعار لمى حميد

رحيم الغرباوييبدو أنَّ النفس الإنسانية في حقيقتها عالم مأهول بآثار جمَّة من الأحداث، نتاجها هو ماتفرزه ماكنة الشعور فتترجمه إلى مفردات لدى الشاعر، لكنها مفردات من نظام خاص تحدده قدرات صاحبها على وفق عاطفته ومخيلته وقدرته الإبداعية في رسم ملامح الشعور لديه تجاه مؤثرات، مما ينتج ردود فعل إيجابية أو سلبية، وما الشاعر إلا ابن عصره وزمانه وهو الصوت الدفاق لما يعتمله تجاه الواقع، مما جعل مؤرخي الأدب ونقدته يطالعون العصور من خلال أشعار الشعراء فيتلمسون حقائق الحياة في تلك العصور، لذا نجد لكل شاعر وظرفه تجاه ذاته ومحيطه تجربته التي عبَّر عنها، مما جعل في ذلك تعدد التجارب من شاعر لآخر، تقول سيمون دي بوفار المفكرة والأديبة الوجودية: " إنَّ لكلِّ تجربة إنسانية بعداً سايكولوجياً خالصاً " (1)، لهذا السبب نجد تعدد قراءة التجربة الشعرية لدى الشعراء، إذ أنَّ لكلِّ تجربة أبعادها الإنسانية الخاصة بها " ولعل التجربة النفسية للشاعر تمتزج إلى حد كبير بالتجربة الميتافيزيقية فيصبح همه وألمه النفسي ليس تعبيرا عن حاجات آنية تريدها هذه النفس إنما تمتد حاجاته من الذات إلى الآخر ومن الجزئي إلى الوجودي والكوني والإنساني " (2)، مما منح النصوص الشعرية جواز سفر تعبر بها محيطات الأزمان وتتوقف عندها محطات الأجيال .

والشاعر في تأملاته الوجودية يشعر بفراغ مفزع، إذ يتعمق لديه الإحساس بالغربة سواء أكانت غربة نفسية أم مكانية، فكلاهما يولدان فيه نزعة تتلبس حيرته ولربما تقضُّ مضاجعه، وهذا الإحساس الوجودي يحيله إلى عبث الوجود الذي ضربَ على وترها الفكر الوجودي، ولعل الفوضى والاضطراب والعبث وخشية الزمن والشعور بالموت جميعها تجعل من الإنسان يعيش محنة الوجود (3).

والشاعرة لمى حميد واحدة من الشاعرات اللاتي كتبن عن آلام وطن، وحزن فراق، مما نجدها تعيش هواجس اغتراب نفسي أوقد فيها حزناً مؤرقا، نجد ذلك في نثريتها التي تقول فيها:

هذا الليل ..

وهو يرتدي

عباءته السوداء

كأنه يقودني

إلى نهايتي ..

دمعتي العنيدة

تسكن المآقي ..

والروح تجاهد

من أجل أن تعلن

تحررها من سوط

هذا الحزن

ويبدو الليل في القصيدة ليس الزمن إنما استعارته للهموم التي نزلت عالمها وجعلته كائناً مهولاً وهو يضرب بعباءته السوداء، وكأنها تصور الموت في تلك الهيئة وهو يقودها إلى نهايتها، بينما دمعتها العنيدة وهي تسكن المآقي لا من خوف أو من رهبة، إنما من رفض للواقع البائس الذي يعيشه أبناء شعبها بوصف الشاعر هو من يحمل معاناة شعبه ويدافع عن قضاياهم الكبرى، ثم تصف الروح التي تجاهد في سبيل تحررها من الحزن، والحزن مجاز مرسل علاقته المسببية والمجاز كما هو معروف أسلوب يستعمله الأديب في ألفاظ قليلة لمعان كثيرة، كي يقترح المتلقي تلك المعاني حسب وعيه، وإن حام حول دلالة النص المركزية وهو تقنية من تقنيات الأدب لاسيما الشعر، ثم تقول:

لا يسعها حتى البحر ..

والقلب مازال

يتمسك بخيط الصبر ..

فكيف لمجزرة

هذا المساء

أنْ تنتهي ؟!!

إذ نجدها تتحدث عن نفسها بضمير الغائب، فالروح المجاهدة في التصدي تتسم بسعة الإرادة، فهي أوسع لديها حتى من مساحة البحر، بينما القلب بعنفوانه مازال يتمسك بخيط الصبر، ويبدو أنَّ الخيط في النص يدل على الصبر من إنّه أوشك على النفاد، فتتساءل عن مجزرة هذا المساء المظلم كيف يمكنها أن تنقشع ؟!.

ولعل الشعر ماهو إلا وثيقة وشاهد على المحن التي تعصف بالبرايا، وكثيرا ما نجد الشاعر يبحث عن طوق النجاة حين يأبى الاستسلام متسلحاً بالأمل أو الحلم، كي يعبر به إلى ضفة الأمان، هو وأبناء شعبه الذي تمثلهم كلمته بوصفها ترجمة لما يصبون إليه .

وفي ومضةٍ شعرية لها، نجد أن الحزن قد أطبق جناحيه عليها، فصار رفيقها الألم، وكأنها ترسم صورة لطريق الخلاص لكن، من دون جدوى للخلاص،، فنراها تقول:

وقد صار

رفيقي الألم ..

مادام للحزن

وشم ..

فكيف لصليل الحروف

أن يختبيء ..

ودمع القهر

نهر، لاينضب !!

فلمواجعها من غربتها المكانية والنفسية جعلت لديها الأمل مفقوداً طالما دمع القهر عندها نهر لايقف جريانه .

ولعل النفس الانسانية تتمايل على وفق الظروف بين أملٍ ويأس، فرح وحزن، فيترجمه الشاعر حسب مشاعره وأحاسيسه تجاه قضية شغلت فكره وأنهكت قواه ولاسيما حين تكون قضية مصيرية اسمها الوطن، وفي أحيان نجد الحيرة والقلق كليهما يفوِّتان على الشاعر فرصة الاستقرار داخل النفس، لكن كثيرا ما تكون رؤيته الشعرية قادرة على أن تعكس ذلك وبجدارة بأنْ تزدلف لروح الفن، لتقدِّم لنا الجمال بأكمل وجه من وجوهه ويمكننا أن ندرك " قبل كل شيء، إنَّ رؤيا الفنان سبقت الرؤيا النفسية عند علماء النفس ومدرسة اللاوعي (فرويد، أدلر، يونغ) في الكشف عن الكثير من أسرار النفس الإنسانية وأعماقها اللاواعية " (4)، فشاعرتنا على الرغم من الحزن الذي يكتنفها، نراها تقدم ذلك بصورة فنية يتعاطف معها المتلقي، ويجعل من موضوع قصيدتها متنفساً له أيضاً، حينما يعتمله نفس الشعور مما يجعله يتنسم موضوع القصيدة برضى عميق،

والشاعرة تسترسل بقولها:

تُرى، كيف لهذا الليل

أنْ ينجلي ..

وكيف لي، أنْ أتمسك

بخيط الأمل ..

مالي أضعت الطريق ..

لا الغرب، يستهويني

ولا الشرق !!

فهي الحائرة بين عالمين هو عالم الشرق الذي فقد المبادى والأعراف التي اتخذها الآباء رمزاً لمبادئهم السامية وديدناً لقضاياهم المصيرية الكبرى، والغرب الذي فقد إنسانيته بعدما فغرَ فاه، نتيجة أطماعه الشيطانية المقيتة، وقد أضاعت شاعرتنا الطريق بين فضاعة الأدائين، وما شبابنا الذين هاجروا ماهم إلا فكر حائر لايدري ماذا يصنع على وجه هذه الأرض، لذا ربطت لنا شاعرتنا مضمون نصها بألفاظ ذات رموز مهيمنة على النص، هي: (الليل، خيط الأمل، أضعت) .

ولعل دائرة الحزن هي الطاغية على أشعار شاعرتنا لمى حميد، فهي تعيش في ظل الأرق من الضياع النفسي الذي يشكو من اختناقات حبائلة الكثير من الشرقيين في ظل الظروف الساخنة التي تجتاح المنطقة، فنراها تقول:

كلما وقفت

على باب الأمنيات

استجدي لحظة صدق ..

فلا أجد إلا السراب ..

وكلما أمسكت بخيط

الفجر الكاذب

نحو لحظة أمل

تعود عتمة ذلك المساء

تؤرقني ..

من أنا؟

كأني لا أشبه احد،

وكأني أتيت في زمن

ليس زمني ..

لم أعد اتقن

لغة الآخر !

نعم إنها بروحها التي تعودت عليها لايمكنها أن تفهم الآخر أو تتلون بما أتت به الأفكار الخارجية المصحوبة بالحروب والمحن، إنه العالم الغريب بثقافاته وطبائعه وأقانيمه، فألألفاظ والجمل: (السراب، الكاذب، عتمة، تؤرقني، ليس زمني، لم أعد أتقن) جميعها تشير إلى حالة اليأس والاستلاب من قبل الآخر الجاني، فلا حياة في نفق مظلم ولا جمال تظهره قبائح معتمة .

نتمنى لشاعرتنا لمى أحمد التوفيق في مسيرتها الأدبية وإلى مزيد من التقدم .

 

د. رحيم عبد علي الغرباوي

........................

المراجع:

(1) وجود النص – نص الوجود، مصطفى الكيلاني: 74

(2) دراسات في الشعر والفلسفة، د. سلام الأوسي: 55

(3) ينظر: الرؤيا والتشكيل في الشعر المعاصر، د. سلام الأوسي: 164

(4) دراسات في الشعر والفلسفة: 50

 

في المثقف اليوم