قراءات نقدية

حول تجربة تهادن إيقاعات الذات والعالم

احمد الشيخاوييحاول الشاعر المغربي عبد العزيز كرومي، عبر قصائد ترفل بلبوسها العروضي، والمزمع ضمها قريبا في مجموعة باكورة، تصدر عن مندوبية الثقافة بمدينة الرشيدية، تقديم رؤية جديدة ومغايرة لعالم باتت تحكمه الفوضى والاضطراب.

عالم مضغوط تنعكس أوبئته على الكائن، ما يضطرّ الذات المبدعة، معه، لمضاعفة الاجتهاد في ترجمة معاني مستحدثة وعذراء وغير مسبوقة، تجسّد رهانا حقيقا وغير مراوغ ولا خادع، يسعف في مشاكسة منظومة ما راح عالمنا الموبوء، يتجاوزنا به، وفق ما سطّرته أنانيات وجبروت الإيديولوجية الطامسة لملمح النبل ومشاتل النورانية في النوع البشري إجمالا.

ولكن ... كيف يتأتى مثل ذلك، لصوت واعد، يأبى إلاّ أن يخوض غمار تجريبية يسربلها قشيب الشكل الشعري، بحيث سرعان ما يهتدي المتلقي، في حدود تأويل هذه المغامرة، إلى تبيّن أرق الأمانة، أمانة صيانة روح الخليلية في القول الشعري، وتوليد معاني مغايرة، ودوال نابضة ببتالتها وبكارتها مثلما أسلفت، تجدي، وأقلّه تشفي الغليل، في مجابهة التجاوزات المذكورة.

يجدّف شاعرنا، في أفق هذا الاضطراب والعبثية، بأيقونة تفعيلية تنحاز للنبرة الهادئة العاقلة والمتّزنة وغير المتسرّعة، في مقاربة الراهن ومعالجة جرحه النازف، وإن تك التجربة ترصد مشهدا ذروة في الارتباك واللاستقرار، آيل صوب ما يشبه الانقراض الأخير.

نقتبس له، من المنجز، قيد الطبع، الومضات التالية :

[ إذا اشتكت الروح أثقالها

       وزلزلت النفس زلـــــــــــزالها

وأخطأت الخطوات الطريق

        وغلّقت الذات أقفالـــــــــها](1).

..................

[ لو نلتقي لجعلت صدرك قبلتي

        وفديته من لوثة الفسّاق

أرعاها بالحب الغزير أدسّه

       لحنا شجي النبض في أحداقي](2).

...................

[ على شفا جرف هار أمدّ يدا

        إليك،  قد جئت أسعى أبتغي المددا](3).

...................

[والحقّ أخرس والمعروف يُنكر

          ذبحته عنوة في الأشهر الحرم

دمشق ضاعت وها صنعاء في شغل

          وذي طرابلس طوفان من الحمم](4).

..........................

[يصفو بك الشعر فالأنغام ساقية

           منها إليها بها فيها عطاياك

أنت الوفا أنت أنت الجود أكمله

          يا بلسم الروح رفقا كيف أنساك؟

فمذ رشقت خيوط النور في غسقي

           أفطرتني عنوة من بعد إمساكي](5).

وإذن... الملاحظ، من هذه القصائد القصيرة، والمزدان بإيقاعات النرجسي والخفيض، تفيد مراما يتوسل جوانب النبل والجمال والجذر الإنساني، في كينونة تتقاذفه شتى هذه الهواجس المصادرة برؤى رمادية تهدد هوية ووجودية الكائن، وفي ذات الآن تحمّسه وتحرّضه على إتيان فراديس الحنيفية دامغة بإملاءات الوسطية والاعتدال والاتصاف بروح متوازنة، لتمتين وتغذية، بل وأنسنة الصلة بالمكون الطبيعي وغيره من العناصر المسخرة للعنصر البشري، وهو مطالب بعدم الإسراف في استثمارها، على نحو ضامن لتحديات الإعمار وتفادي الدمار والهدم بمختلف تمظهراته ومجمل صوره.

إيقاعات، تتوجه بها الذات الشاعرة إلى عالمية اضطرب نبضها، فإذا القصيدة أكثر من مجرد نظم، تهيمن على مناحيه الصنعة والكلفة، لتزج بالذائقة والإدراك، على حد سواء، في بحبوحة من المعنى المنوّم للبربرية والبهيمية والأنانيات المريضة والجشع، في أدغال النفس البشرية، بالتزامن مع إذكاء منطق العقل والوظائف البديهية للقلب، هذه المضغة التي عبر تنشيطها، ليس تزرع مدّ الأرض، وتضادا مع كل الأعراف البالية والفوارق اللونية أو العرقية أو العقدية أو اللغوية، وتترعرع سوى مشاعر المحبة والسلام والأمن والاستقرار.

هكذا، نجد نصوص عبد العزيز كرومي، تنطلق من مرجعية يُشبعها العقدي، في دورة حلزونية، من مركزية ذات تنشد توازنها وخلاصها، وإلى أشهى ما تجود سردية التقفية المنذورة للحس الإنساني، وأنسنة سائر ما يمتد من مركزية الكائد ويكمّل نقائصها.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

......................

هامش:

(1) مقتطف من قصيدة إيقاعات الزلزلة.

(2) من نص إيقاعات الشوق.

(3) عن قصيدة إيقاعات الهاوية.

(4) مقتطف من نص إيقاعات التيه.

(5) مقتطف من قصيدة إيقاعات البلسم.

 

 

في المثقف اليوم