قراءات نقدية

الرمز والأسطورة.. السياب أنموذجاً

أنتظمت الكثير من النتاجات الأبداعية على استقطاب الرمزوالأسطورة وغيرهما من التناصات النقدية، بغية بناء نتاجات ابداعية جديد.

ولعل أول الأشياء التي تتبادر إِلى الذهن من قراءة أشعار السياب، القدرة على استثمار(توظيف) الرمز والاسطورة، وهذهِ القدرة هي محاولة تأتي للتأكيد على قدرته (ذائقته الشعرية) في تجسيد الحضور المتجدد للتشكيل الشعري.

وسعى السياب الى توظيف الرمز اللغوي-عن طريق استنطاق الرمز والاسطورة البابلية بلغة شعرية متقنة- وبين الصورة التي تشير اليها الأسطورة، ونضجت هذه الموهبة الفذة لديه، وانتجت جملة من النتاجات الشعرية الرابطة بين (الرمز والأسطورة).

يقول:

عشتار على ساق الشجرة

صلبوا دقوا مسماراً

عشتار بحفصة مستترة

تدعى لتسويق الأمطار

تموز تجسد مسماراً

من حفصة يخرج والشجرة

يتعرض الشاعر في نصه هذا لرمزية /أسطورة (عشتار)، ويتخذها وسيلة وأداة ليسرد لنا نصه عن طريق هذهِ الرمزية، وبهذا يعود مَنْ جديد ليطرق باب التأريخ بالمعنى المفهوم، لكن عند التمعن في قصائد السياب،  نجده يذهب ليصور لنا التأريخ بأنَّه باب مفتوح يبعث بالتاريخ/تراثه الحضاري ورموزه المضيئة التي تمنح افكاراً لذائقته الشعرية من دون مقابل.

فالسياب يستغرق في نصه هذا بالذكريات، وهذهِ الذكريات ارتسمت بريشة الحزن لأضمحلال التراث الحضاري للبلاد، ويعلل نفسه بحوادث ماضيه، ليستدعي رمزية (عشتار)، وبتوظيفه هذا يتناص تناصاً مباشراً مع رمزية/ أسطورة (عشتار) فكما هي إلهة الجنس والحب والجمال والتضحية في الحرب عند البابليين، فكذلك (عشتار) لديه رمزاً معلناً لـ (حفصة) التي عد صلبها فداء وتضحية يستلزم أقامة طقوس المطر، وهي صورة موازية للطقوس البابلية التي تستعد لرمزية نزول المطر، إلا أننا نلتمس أن المفارقة هنا جاءت بصورة قسرية ؛ لأنه صور المسمار وطريقة تجسده كـ (تموز) مسماراً يخرج من حفصة والشجرة-وتموز الأسطورة جعل منها صورة موازية للمثل الشعبي المعروف عن شدة حر وارهاق شهر تموز القمري لدى العراقيين أغلبهم-.

إِنَّ القراءة الدقيقة والفاحصة للنص، نخرج منها إِلى مفهوم خاص لا يتوقف عند معاناة الشاعر لذاته فقط، بل تذهب معاناته لتحاكي المجتمع ككل، إذ يصور النص معاناة الشاعر بصورة جديدة تنفتح على دلالة حضارية لترصد لنا علاقة الماضي بالحاضر .

لتبدأ لغة النص هنا ككفتيّ ميزان تتسرب داخل النص بحذر، بغية عدم ارتفاع إحدى الكفتين لتهبط الكفة الثانية، إذ يجعل من (على ساق الشجرة) دلالة للموازنة بين معنى قديم (عشتار)، ومعنى حديث-للشاعر- (حفصة)، وكليهما دلالة على الرمزية المعلنة/ المكشوفة، وأَنَّ أَختلفت المسميات وتطورت بتطور العصر، فـ عشتار = حفصة، وهي صورة ماضي وحاضر ومستقبل.

(صلبوا دقوا مسماراً) هنا لغة مطاردة محملة بشحنة من الشجن ؛لأنه أكد الكلام بصيغة الجمع (صلبوا دقوا) والضمير الغائب المعلن (هم)، لكنه يستقر عند رمزية (المسمار)، ليبحث عن (تموز) وهو رمز الأسطورة البابلية، ويجعل من سلسلة هذهِ الأحداث السريعة سرداً لذاته، ثم وظف الأستمرارية في التأكيد (تسويق) .

وتأتي معادلة رياضية سريعة موظفة داخل طاقة الحزن هذهِ وهي، على النحو الآتي :

عشتار = حفصة = تموز

ولا يكتفي بهذا التوظيف، بل يذهب ليوظف لنا مقارنة داخل نصه الشعري هذا، بتقدمه سؤالاً (عشتار بحفصة مستترة) هذا السؤال لم يرتم خلف علامة الاستفهام والتعجب، بل وظف الجواب بطريقة المقارنة الشعرية المسبقة للسؤال :

في بيت الميلاد ـــــــ الرحم .

تعادلها/ تموز تجسد ـــــــــ مسماراً .

تموز تجسد مسماراً ـــــــــ  دلالة تشبه الدلالة الأولى بالمعنى (بيت الميلاد)، وتعادلها من حفصة يخرج والشجرة  هذهِ ايضاً دلالة تشبه الدلالة السابقة (بيت الميلاد) .

في بيت الميلاد .. الرحم = تموز تجسد .. مسماراً .

أخيراً، ماصدر من نتاجات أبداعية للسياب وغيره من الشعراء، يتشابه في فكرة استثمار الرمزأو الأسطورة، لكن المحكم الوحيد لها يبقى في معيار السلامة واصالة وتقانة الأبداع في التوظيف، والتي أن حق لي الجزم يتزعمها (السياب)؛ لأنه أصدق الكلام عندما ابدع اتقان وسلاسة استيراد الرمز والأسطورة في بناء نسيج شعره.

 

بقلم: د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم