قراءات نقدية

ماجد الحسن الوعي المُضمر في الشعر الحاضر في النقد

607 ماجد الحسنقراءة في مجموعته الشعرية: أول الفجيعة الرأس

يُعد ماجد الحسن من الشعراء العراقيين القلائل الذين تمكنوا من استيعاب الرؤى الفلسفية والشغف بها وطرحها بصور شعرية، وما يشفع له أنه دارس للفلسفة وقارئ لها.

ماجد الحسن عضو اتحاد الأدباء العراقيين. درس الفلسفة وحصل على البكالوريوس فيها.

من مجاميعه الشعرية:

ـ أول الفجيعة الرأس وـ خيول مُشاكسة...ـ لا مأوى أيتها الغيمة...ـ ولا أُريده صعوداً...ـ أين سيهبط بنا الدُخان.

ومن دراساته النقدية:

ـ البنية المكانية، قراءة في شعر عيسى حسن الياسري...ـ تجليات النص، مسارات في تأملية في سؤال الذات...ـ حياة العلامة، محاولة لادراك الأنساق الثقافية الشعبية.

كونه دارس للفلسفة نجد نصه الشعري مُكتنز المعنى، ففي مجموعته الشعرية الأولى "أول الفجيعة الرأس" نجد دلالة المعنى تغلب على صياغته للصورة الشعرية إن لم نقل أنها تُجهز عليها، فالرأس حامل الوعي والفكر هو مكمن التفكر وهو مناط الحزن الحامل للعاقل دوي الفجيعة.

ماجد الحسن يكتُبُ نصوصاً غير مُعلنة، كما يُصَرح هو، أي أن معانيها مُضمرة، لا يفك مغاليق القول فيها سوى دارس للفلسفة. في إنبهاره بمعطى الشعر تكوثر للمعنى وتطوبع للفظ اليوناني بمقابله العربي.

في نصوص الحسن توظيف لرؤى الفلاسة الطبيعيين وكل تاريخ الفلسفة اليونانية تحولات الفهم لها في الفلسفة العربية.

فمن لم تكن له دراية وخبرة بمفاهيم الفلسفة وقراءة لتاريخها لا قُدرة له لمعرفة مرامي (الحسن) في إحالاته الشعرية.

شهقة العصافير...

نجمة تنام بين الغصون

وعاشق يحفر أصابعه في الجذور البعيدة

وفي نص آخر يقول:

أحياناً...

ننبسط جداً

فنستنشق نحول الأرض

متى تتعافى أيام الخريف

...

النهر يُقطع أوصاله

علَه يلَم شتات الحقول

...

نرتدي أجسادنا على عجلٍ

ونحُث الزمان...

لموت بطيء

تقطيع النهر لأوصاله واستنشاق نحول الأرض وانتظار تعافي الخريف وسعينا لارتداء أجسادنا على عجل بصورة شعرية بهية فيها كل الألم تُحاكي الزمن لا لعتاب للشاعر معه لأنه ملَ العتاب، بل هو في حالة من اليأس يحث الزمان فيها "لموت بطيء"!.

ماجد الحسن يكتب تاريخ الحزن بلغة فلسفية فيها بعض من التعالي عن وعي العامة، ولكنها لغُة مُكتنزة المعنى يستجير بها بالصمت بديلاً عن اللغة:

أيها الصمت،

إليك أستجير...

وبك أُعلق بهائي

الصمت عند (الحسن) لغة الذات حينما يعجز عن الكلام:

عند النوم أتأبط رأسي وأُدثره

لئلا يسرقه الحلمُ

أو يُصاب بقشعريرة

الملوك

وإن لم يكن في سجل تاريخنا من يُخبرنا أن للملوك قشعريرة، لكن الحسن ـ كما أظن ـ يُوردها على سبيل التهكم لا الاستحسان.

فكل ما ذكرته سجلات التاريخ أن الملوك لا تينشغلون سوى بسرقة أحلام الجماهير = (العصافير) التي تهتف يوماً بيعيش الملك وتارة أخرى تهتف بيسقط الملك، زكل شعاراتها بحسب مُتغيرات الحال والأحوال، ولكنها طيبة لها براعة التمثل لهذه المُتغيرات:

تلك هي براعة العصافير

لا تكف من تأبط الأشجار

وحين تطوح بها الرياح..

تندس غير آبهة بارتعاش الغصون

براعة العصافير هي براعة لجماهير، وكما العصافير لا تكف عن تأبط الأشجار نجد الجماهير لا تكف من احتمائها بالأوطان، ولربما يظن القارئ أن الأوطان تأوينا بمعنى "تتأبطنا" أقل له إننا نحن من يتأبط الأوطان ونأويها لا تأوينا، فهذا العراق كم آويناه ولم يأوينا!.

الأوطان ليست أمكنة نسكنها، إنما هي مُخيلة مُستمدة من ذاكرة تسكننا تندس فينا بارتعاش، ولا نندس فيها!!:

أتأبط مصيري...

وأنا في الطريق،

إلى وجع الأوراق

إنه وجع السنين وأوراق العمر التي تساقطت "وركة ابأثر وركة". فالخطوات "ترتجل الشهيق

...

الطريق يمشي لوحده

أتبعه...

فتتبعني عناقيد من الرؤوس

...

إن الليل مصلوبٌ وقدماه في الذاكرة"

يعود الشاعر ليجعل من الصمت لُغةً ناطقة بقوله:

سأقفل باب الكلام...

هكذا أُعلمكِ،

كيف تبوحين بقتلي

الحسن يستحسن الصمت ويجعل من لغته البهية بصور مُفارقة لمألوف القول الشعري لفرط هيمنة الوعي الفلسفي الظاهر في بينيات ومُضمرات قوله الشعري ليجعل من ألفاظ مثل:

الصمت، والهدوء، والنُعاس، ووجع الأوراق، والإصغاء، كُلها ألفاظ دالة على قيمة المعنى الراكس خلف اللفظ، وبنُطقه يستفز المُتلقي للبحث عن معانٍ أُخرى:

من يقول للنهار...

أنت لا تُحسن الاصغاء للشمس؟

في قصيدته (هومش لنصوص مُعلنة) يقول الحسن:

كُلما يستيقظ الليل...

أتذكر الرماد الذي يرفس في أحشاء البيت

...

الشمسُ تُمزق قميص الليل

الليل هو الهدوء، ولكن صخب الحياة والرغبة في العيش خارج السكون وضد كل ألفاظ الصمت بكل ما فيها من قيمة أخلاقية مُعبرة إلَا أن الكلام رؤية وفكرة وتصريح وتعبير عن قبول ورفض، ولا يصح السكوت أو الصمت في زمن:

كُل يوم...

الشمسُ تُمزق قميص الليل

والليل...

بهجوعه يستجير بالنجوم

فبعد كل ليل ينبلج الصبح، وكل ليل لا معنى له من دون أن تستفزه النجوم في أوانه، وكل ليل يتغنى بحياة أخرى في انبلاج النهار واشراقة الشمس بزهو يوم جديد.

ماجد الحسن يصنع عوالماً في الشعر يقترب بها من مرامي الفالسفة في سعيه للكشف عن حقائق كامنة في القول الشعري يستجليها الفيلسوف برؤاه البرهانية، وعلى ما بين الشعر والفلسفة من تباين ملحوظ من جهة تبني الشاعر لرؤاه الذاتية بعيداً عن الدفاع عنها وفق المنطق البرهاني الذي يختلف فيه الفيلسوف عن الشاعر.

ولكن كلا القولين الشعري والفلسفي يشتركان في همَ واحد انشغل به ماجد الحسن في كتاباته الشعرية والنقدية ألا وهو الإنسان الذي انشغلت به الفلسفة ببعدها العقلاني (التقني) أو ببعدها الجمالي المخيالي المُتداخل مع القول الشعري ببعده الفني (الجمالي).

ما يُميز ماجد الحسن أنه قدم من الفلسفة إلى الشعر، وكل أقوايل الفلسفة من قبل كانت أسطورية كُتبت بلغة شعرية لا يُمكن لنا أن ننفي عنها سمة الوعي العقلاني المُضمكر في النص الجمالي الشعري أو الأسطوري.

 

ا. د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم