قراءات نقدية

"حين تجدب المواسم" أو حين تصير القصيدة قُربانا لإنسانيتنا

احمد الشيخاويداخل كواليس هذه المسودة، يبدو الشاعر المصري عصام سامي ناجي، ملتزما بالطقس الغنائي، الواخز بخريفية الذات وجحيميتها، كأنما يحاول إيجاد معنى ليأسنا العربي، تحت نير ما يهزّ أوطاننا من زلازل سياسية، من الطبيعي أن يكون وقعها، وقياسها في سلمّ ريختر، أصعق وأقوى، بالنسبة لقلب الأمة النابضة، أرض الكنانة مصر، أبني زعمي هذا على أسّ تاريخي، يفتي بدور مصر في رفع راهن الذل والهوان، عن بقية بقاع العروبة، من الهامش إلى المركز، ومن المحيط إلى الخليج.

يأس طال، وبديهي ألاّ يناطح بسوى الهروب الضمني، إذ يضمنه تعاطي الإبداع إجمالا، بغية التقعيد لثقافة نضالية توبّخ عالم السلبية والنقصان، وتتّهم الزعامة المؤلّهة .

كتابة تستثمر في شتى دوال الثوري، المانح انطباعات مراوغة، تفيد ظاهريا نبرة الانهزامية والاستسلام، بيد أنها في العمق، تناور بذات واعية ومتصالحة، تمرّر الرؤى على نحو مموه، يلبس مختلف الأقنعة، كي يحافظ على مسافة كافية ما بين واقع هذه الهزّة الوجودية وصفحات اللغة المبطّنة بفلسفة الحلم.

 يقول في موضع ما، من سردية تعلن تهادي الذات، وتقاذف أضرب المعاناة لها، ثقافية وأيديولوجية ومجتمعية، مثالب تثري ريش طائر الشؤم والفتن، المتربّص بسماء عروبتنا:

[هل يأتي يومٌ ونُكسّرُ

 تلك الأغلالَ الوهميّةْ

ونعودُ لذاكرةِ الدنيا

نحملُ عنوانــًا وهويّةْ

نرفعُ راياتٍ قد سقطَت..

نزرعُ أشجارَ الحريّـة.

ونزيلُ ستائرَ أعمتنا

في زمنِ الفِـتَـن العربيةْ ](1).

من خلفية اليأس المفرط، مذيلا بإرخاء فصول النزوع صوب ما هو إنساني، راشقا بالحلمية، فوق منصّة لا تعترف بغير منطق إحراق الشعر واستنفاذه، ليكون في مستوى هذا التجاوز، وعلى درجة هذه الموسوعة من اغتيال مواطن الجمال والنبل والهشاشة فينا.

تتفتّق الأسئلة، قلقا وتشكيكا، بحبر الكوميديا السوداء، العاكسة لانكتاب هوياتي، عند أقصى حدود الأزمة، في تغلّفها، بمعجم عمى الألوان.

يردف شاعرنا، في مناسبة أخرى، لسرد وجع ذات تلتحم بأسباب محاباة الجذر، وتسارع الانشغالات النرجسية باتجاه تصاعدي، تحاول من خلاله تلقّف انتساب عروبي بلبوس إنساني انتهاء، يقول:

[عبثا تحاولُ أن تقدّمَ أجْوِبهْ

والكاذبُ الدجالُ

قد وهبَ القيودَ لمن يشاءْ

هل تجرؤ الآنَ علي رفض الهبهْ

قامرت بالحُلمِ المزخرفِ بالدِّما

من أجلِ بعضِ الأتربهْ.

والآن يرتعُ في دِمانا

الهمُّ

والأشباحُ

والجُرْذَانُ

والفتاوى المُرعبهْ

يأيها الوطنُ المُسجّى من عقودٍ

عُد لنا

أو كُن هنا

فالفارسُ العربيُّ باع حصانهُ ] (2).

ويقول ذودا عن أحقية الكائن المضطهد، في التشبث بثقافة الحلم، ونسج الملمح الوجودي، بألوانه الزاهية وإن تك بإسفاف ومبالغة في منافقة الذات المجلودة، واختراع سلال التحايل على أوراق الآني الدامي:

[رغم البنادقِ والمشانقِ

واختلاسِ الحُلم يا وطني الحزين

ستظل مرفوع الجبينْ

سيظل وجهُك قبلةً للعاشقين

سيظل اسمك في الورى

سلوى الحيارى المتعبينْ ] (3).

دوما، ضمن شخصية عصام سامي ناجي، الإبداعية، ترمي بثقلها فكرة الهدم الباني، بحيث لا تتحقق قفلة القصة لديه، قصة اغتصاب الهوية، بما ينقد دورنا الفرجوي الذي نجابهه بها، وتكتمل خيوطها، إلاّ داخل خطاب ما بعدية حرق القصائد، وتأمّل رماد الشعر:

[بدون وجودك

سيدتي

سأظل أعاني

أتمزق .......

يحترقُ فوادي / وجداني

فتعالي كي نكمل قصتنا

نعشق بتفاني

من أجلكِ أتنفس عشقا

وتسير دمائي بشرياني

وجهٌ يترعرعُ في ذاتي

يجتاحُ كياني

قد أيأس من كل الدنيا

لكني لن أسأم منكِ

فملاذي أنتِ وعنواني ] (4).

ذات مكبّلة بإلزامية الحلمية، المقترحة لنوبات انفلات وتملّص من إسمنتية الواقع، وعزفه على أوتار مآسينا.

تنذر للنار تشظّيات ذات الذات، وفق أسلوب مركّب يضاعف العزلة والأزمة والمعاناة.

المهمّ أن تكسب الذات الشاعرة، من هذا القربان، قسطا يدفع فهم الشعر على أنه ترف وافتقار إلى حرارة وصدق التجربة.

هذا الفهم المغلوط الذي يخوّل للحلم، صولة واهمة، غالبا ما تهبّ وتلفح بحسيسها الحارق، وتشرب جوهر وجودنا العربي المتسربل بنبض إنساني صرف.

كتابة وإن توعّكت بكمّ من الثغرات، كالزوائد اللغوية، وشحّ التصوير، وهيمنة الجرد اليباس والجاف لأحداث مصادرة الفكر وضياع العمر العربيين، بيد أنها استطاعت نوعا ما، تصحيح مثل هذه المغالطات، ومكّنت لتمريرات تعبيرية ترصد الشرخ، وتتصادى مع قضايا العروبة في هويتها الإنسانية، وموسوعية رؤاها المباغتة.

[ويعود التاريخُ بروما

وبنيرون لكي يحرقها

وبهولاكو في بغدادْ

الليلُ أراهُ

على أوراقي

أمس جدودي

وعيون الأحفادْ

هل حُسنُ النيـّةِ يا وطني؟

لن تجدي حسن نواياكْ

ودماؤك يرتعُ فيها الليل الأفاك ](5).

تفسد واو العطف صفحات الشعر، ويبقى استخدامها ههنا، ضرورة قصوى، كون هذه اللمسة إنّما عمّقت من دلالة الخيط الناظم ما بين عتبة المجموعة، وسائر ما يتفرّع عنها من أفكار مؤثثة لبؤر هذه المعالجة المقصودة والممعنة في الجرح العربي وقد نتن قيحه حدّا، يفجّر أبشع صور الابتزاز، تماهيا مع ثالوث هوياتي تاريخي ذاكراتي.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

..................

هامش:

(1) من نص الصبح الأرمد.

(2) من نص عبثا نحاول.

(3) من نص اختلاس الحلم.

(4) من نص تعالي نكمل قصّتنا.

(5) من نص وطن وتاريخ وليل.

 

في المثقف اليوم