قراءات نقدية

التداخل النصي في قصائد عبد الكريم الطبال

أولى الشعراء والشاعريين مسألة التداخل النصي عناية كبيرة طوال تاريخ النقد العربي، حيث عرفوا الظاهرة مبكرا، وخاضوا فها دراسة وتحليلا، وإن كان بوضوح أقل، وتحت تسميات عدة ، مثل السرقات الشعرية ،الموازنات ، التضمين... ومنذ الجاهلية ، أحس الشعراء بسلطة النصوص الأخرى على النص الشخصي، نفهم ذلك مما قاله عنترة في معلقته:

هل غادر الشعراء من متردم **** أم هل عرفت الدار بعد توهم

هو سؤال استنكاري حول أن الشعراء لم يتركوا شيئا يصاغ فيه الشعر، إلا وصاغوه، أي أن السلف لم يترك للخلف شيئا.

ويشير حازم القرطاجني في مصنفه، "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"، إلى نوع من تعامل الكاتب مع النصوص السابقة، إذ يدخلها في نصوصه بنوع من التصرف، أو يورد  معناه في عبارة أخرى على جهة قلب أو نقل(86)[1]).

شيء عادي أن يستفيد اللاحق من السابق،حيث لا يمكن أن يستغني الأخير عن الاستعارة من الأول، فقد كان العرب ينصحون المبتدئ من الشعراء بقراءة آلاف الأبيات وحفظها والتمعن فيها حتى تعلق بفهمه ، بعد ذلك عليه أن ينساها.

إذن ، تنبه النقاد العرب القدماء إلى ظاهرة التداخلات بين النصوص، وبخاصة في الخطاب الشعري، حيث ظهرت مجموعة من المصطلحات تعالج جزئيات الظاهرة، وهو مؤشر على تعرف العرب على ظاهرة التناص، وإن لم يسموها بهذا الوصف، فقد ظهرت مصطلحات عديدة تقترب من معنى التناص مثل التضمين، وهو استعارتك لإنصاف الأبيات من غيرك. أما الاقتباس؛ فهو أخذ بيت بلفظه ومحتواه ،وهو عند البلاغيين مرتبط بالقرآن الكريم.

كان هذا في الجانب البلاغي، أما في الجانب النقدي، فقد عرف التناص تحت مسميات أخرى، كالنقائض والمعارضات،وقول الجاحظ بأن المعاني مطروحة في الطريق ، هي من الشيوع بين الناس لا يمكن نسبتها إلى أحد بعينه.

ويمكن أن ندرج في هذا الإطار قصة استئذان أبي نواس خلفا الأحمر في نظم الشعر، واشتراط هنا حفظ الشاعر آلفا من الأراجيز والقصائد ثم نسيانها.(87)[2]

تجاوزا لهذه النزعة السجالية،فإن مفهوم التناص في النقد العربي الحديث- مع الإبدالات المعرفية التي شملت تصور النص ونظريته- قد حقق قلبا في المقاربات النصية بما فجره من تساؤلات امتدت إلى هوية النص ذاته، علما أن الخطاب النقدي العربي لم يتعرف على  المفهوم إلا أواخر السبعينيات من القرن الماضي،ولعل محمد بنيس أول من اشتغل على هذا المفهوم في كتابه " ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب1979"، حيث سعى لضبط العلاقات النصية، والتقعيد لها منهجيا داخل حقل مفاهيمي، حيث استعمل المفهوم كأداة للقراءة الخارجية،وذلك باستناده إلى تود وف وكريستيفا، بعد ذلك وفي إطار مسعاه التنظيري حول تقعيد العلاقات النصية، سيهتدي بنيس إلى مفهوم النص الغائب الذي سيثريه بمفهوم هجرة النص(88)[3]).

كان هذا منطلقا أوليا لتأمل ظاهرة التداخل النصي، التي حظيت باهتمام كبير، حتى أصبحت من المفاهيم المركزية داخل الخطاب المعاصر، لتظهر بذلك دراسات كثيرة، كان أبرزها دراسات محمد مفتاح الذي أولى الموضوع اهتماما ملحوظا في جل كتبه.

إن التداخل النصي التداخل النصي خصيصة بنائية للنص ولدلا ليته، بما يتيحه من تعالق وانفتاح على نصوص قديمة أو معاصرة، تسهم في بناء الموضوع من خلال تفاعلها مع عناصر أخرى داخل النسيج النصي(9[4]).

هكذا فالنص الشعري، نسق انصهرت في بوتقته نصوص شعرية أخرى وغير شعرية لتشكل في عناصرها ذلك البناء الذي يخفي علاقات ويستدعي الخارج ليحدد مصير النصوص الغائبة(0[5]).

إن النص الشعري، أكان قديما أم حديثا، يخضع للتداخل النصي ،وهذا التوضيح النظري، يحتاج إلى حقل موسع حتى تتبين إمكاناته.

ليس هذا هو مسعانا الراهن، لكننا سوف نكتفي بنصوص محددة داخل المتن وخارجه، نحاول من خلالها لمس خصيصة التداخل النصي في شعر عبد الكريم الطبال، الذي بدوره استقى مكونات متونه اللغوية الفنية من مفهوم التداخل النصي ،حيث استفاد من خلفيات هذا المفهوم المنهجي في صياغة نصوصه الإبداعية،وتقف القصيدة الآتية شاهدا حيا وملموسا على ما يمكن أن نسميه تناصا من القرآن الكريم.

يقول عبد الكريم الطبال:

منكبة على الأصابع

المصفرة

على هزيم الحبر

وعويل الروح

ترصد ما يصعد

من ضفاف البئر

في هبوب دلو

أو جناح ماء

لاتخفى عليها نأمة

في جهة الحواس

أو في جهة الخيال

وأنا على حواف الوقت

أشهد العصا

وحاجبي المغني

يبغيان

يفتحان قلعة

الصداقة القديمة(91)[6])

القصيدة معنونة بـ " هي عصاي"، وهي مثال ينسجم مع النص القرآني الوارد في سورة "طه"، تتضمن قصة موسى عليه السلام، ومعجزة العصا، يقول الله تعالى: ((وما تلك بيمينك ياموسى ، قال هي عصاي أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مئارب أخرى ، قال ألقها يا موسى، فالقاها فإذا هي حية تسعى))(92)[7]).

لعل هذا التقاطع الجميل، كان المؤشر الحاسم على معاناة الشاعر من وضعية اجتماعية متأزمة يسودها القنوط والترقب، ويكتنفها الإحساس بالعجز، وعدم القدرة على مواجهة وتجاوز المرحلة العصيبة حيث يظل الانتظار والترقب الملاذ الأوحد، وانتظار المعجزة الإلهية القادرة على تغيير الساكن وزرع حياة جديدة.

لقد أحسن الطبال تحوير قصة موسى عليه السلام،ودمجها في بناء النص الدلالي دون عناء، مما أدى بالمتلقي إلى السفر داخل تخوم الذاكرة التراثية والاستفادة من الموروث الديني، والانغماس في ثنايا اللحظة الشعرية، وكأنها لحظة منفلتة من شقوق الماضي، منفتحة على الراهن والآتي، من أجل تأسيس زمن شعري جديد يكون القصص القرآني أحد ركائزه.

لم يكتف الطبال بالنهل من معين النص القرآني، ليمتح منه نصوصه الغائبة، بل ارتمى في أحضان شيوخ التصوف الإسلامي، أمثال ابن عربي، والنفري، وجلال الدين الرومي والبسطامي...ليستلهم منهم تجربتهم الشعرية المعقدة التي تقتضي الصبر على العذاب، لأن الكتابة فرح ومعاناة في آن واحد ، عذاب وسعادة ، لأن الخلق كما يقول ادونيس ((حدس، وهم، ورؤية))(93)[8]).

هذا الكلام يقودنا للحديث عن حضور الخطاب الصوفي في أعمال عبد الكريم الطبال، ونشير هنا إلى أن هذه التجربة لم تنتشر إلا في السبعينيات من القرن المنصرم، مع أعمال أدونيس، وعبد الوهاب البياتي، وبدر شارك  السياب...لكن هذا التأثر لم يقتصر على الشعر الجديد، بل نلمسه في بعض شعر الستينيات الذي كان بمثابة صدى لتلك التجربة، فقصيدة "الغائب"* لعبد الكريم الطبال ضمن الأشياء المنكسرة، ذات دلالة عميقة فيما يخص هذا الموضوع، لذا نقتطف منها المقطع التالي:

 

منذ زمان وأنا احضر في الفجر

افتح شوقي للأشياء

افتح أحداق القلب

من أجل أن أحضر بالفعل

لكني لا أحضر بالفعل

تتملكني الخيبة في بدء الحضرة

ويقول:

كم أخشى أن ترحل مني الشهوة للكشف

لأني أخشى أن أرحل قبل الكشف(94)[9])

قدم الشاعر لقصيدته (الشيء نفسه يقال بالنسبة لمجموعة من القصائد) بهذه القولة المشهورة لابن عربي: (كل حضور لايتعين في كل شيء لايعول عليه).

في هذه الأبيات القليلة التي اخترناها ،يتردد فعل " أحضر" ثلاث مرات،ويرد الاسم المشتق منه ( حضرة) مرة واحدة علامة للتأكيد .  فتحقيقا للحضور الذي يرغب فيه بكل قوة، يركز انتباهه على الأشياء وينفتح عليها بكل قلبه، أو يوحى له بأنه (شاهد) عليها بلغة الصوفية.

 

بلال الدواح استاذ من مدينة العرائش شمال المغرب

.....................

(86)- حازم القرطاجني، منهاج البغاء، م س ص 39.

(87)– أورده محمد بنيس في الشعر المعاصر، م س.، 2001، هامش ص 190، كما أورده عبد الفتاح كليطو في الكتابة والتناسخ،مفهوم المؤلف من الثقافة العربية، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي دار التنوير بيروت، ط1، 1985 ص 21.

(88)- محمد بنيس، الشعر العربي الحديث-الشعر المعاصر، م س،ص 180.

(89) - خالد بلقاسم ،أدونيس والخطاب الصوفي، دار توبقال للنشر، ط1 2000 ، ص: 24.

(90) - يوسف ناوري، الشعر الحديث في المغرب العربي، ج الثاني، دار توبقال، ط1، 2006 ص: 113.

(91)- عبد الكريم الطبال، الأعمال الكاملة، م س ، ص218.

(92)-القرآن الكريم، سورة طه ، الآية 16-17-18. وهناك قصيدة أخرى بعنوان : في الموقد ص 49 من الأعمال الكاملة ، جاءت مصدرة بآية قرآنية:" إني آنست نارا لعلي اتيكم منها بقبس"

(93)- أدونيس، مقدمة الشعر العربي، م س ، ص118.

*  رغم أنها غير مصنفة ضمن قصائد المتن المدروس، فهي مثالا واضحا على مدى تأثر الطبال بالنص الصوفي وخاصة نصوص ابن عربي

(94)- عبد  الكريم الطبال، الأعمال الكاملة، ج1، م.س ص 96-95.

 

 

في المثقف اليوم