قراءات نقدية

التناص المقلوب.. قراءة في رواية: متاهة قابيل لبرهان شاوي

التناص: مصطلح نقدي، يقصد به تناص نص مع نص آخر في الفكرة ذاتها،وتختلف في طريقة الكتابة؛ لأن لكل كاتب أسلوبه الخاص به.

تسترجع الرواية الحدث الماضي، عن طريق دلالاتها السيميائية (قابيل/هابيل، ادم/حواء).

وقد فسر(النص القرآني)هذه القضية بطريقة مفهومة ومبسطة؛ لأنها تسير نحو حدث واحد.

فـ (قابيل وهابيل) أبناء(آدم وحواء)،وقصتهما ذكرها (النص القرآني)بمفهوم تقديم كل واحدٍ منهما قرباناً لله.

(هابيل) كانت مهنته راعي اغنام، ذهب ليقدم افضل ما عنده وهو(الكبش العظيم)، وقيل أنه (الكبش ) الذي افتدى به (أسماعيل "عليه السلام").

و(قابيل) كانت مهنته فلاحاً، ذهب ليقدم اسوء ما عنده.

تلد (حواء) في كل مرة ولداً وبنتاً، ثم يتزوج الولد من البنت التي تولد في المرة الثانية، والاخت تتزوج من الولد الثاني، أي عملية عكسية، هابيل يتزوج اخت قابيل، وقابيل يتزوج اخت هابيل.

الأولى : اخت قابيل امتازت بجمالها، بعكس الثانية: أخت هابيل التي افتقرت للجمال، ليشب النزاع برفض قابيل زواج هابيل من اخته؛ لأن اخت هابيل التي من المفروض أن يتزوجها قابيل افتقرت للجمال، مما دفع قابيل لآتخاذ قرار أنَّ يتزوج هو أخته لجمالها، ورفض(آدم) هذا القرار، وارتفعت الغيرة بينهما، لذا طلب آدم أن يقدما قرباناً (لله)، ومن يتقبل قربانه يتزوج الجميلة اخت (قابيل)،فكان قربان(هابيل)المقبول، تولد الحسد والغيرة بينهما، ليودي بحياة (هابيل) من أخيه (قابيل).

من هذا التناص والفكرة، انطلقت رواية (متاهة قابيل) لصياغة متنها السردي عن طريق شخصيتين رئيستين في الفضاء ذاته، لتنمو الشخصيات ضمن عقدة وصراع مع الأحداث، مما ساعد الروائي على بناء هيكل روائي محدد العناصر.

والرواية عكست تناصها الديني، فدلالة (قابيل) داخل الرواية تحول من قاتل في القصة الأولى الأصلية القرآنية (القصة البشرية)،إلى مظلوم في هذه الرواية ومضطهد داخلها.

وتحول (هابيل) وهو المقتول في القصة الأولى إلى رجل عصابات وخاطف وقاتل.

فـ (هابيل، قابيل، آدم، حواء)،هذه الأسماء توحي بدلالات معينة، في أن هؤلاء الناس هم من نسل الأنبياء، وأنهم اليوم يحاسبون على انتماءات طائفية لا صلة لها بالدين.

وفي توجيه (قابيل الفهد)، سؤالاً لـ (آدم ذو النورين) عن سبب اختطافه من جماعة (الحاج هابيل) وأجابه قائلاً: ̏ لأن أبي كان قاضياً.. وهو الذي حكم على هذا المدعو الحاج هابيل بالسجن لسنوات عدّة، هو واخوه وشخص آخر ؛ لأنهم بعد ثلاثة أشهر من ذلك اغتالوا أبي، عند باب البيت صبحاً، عندما كان يهّم الذهاب الى المحكمة.. والآن اختطفوني لاستكمال انتقامهم ̋.

يسكن (آدم ذو النورين) منطقة (حي دراغ)، بينما تسكن عصابة (الحاج هابيل) منطقة (الحسينية) ومن هذا التوظيف المكاني، سردت الرواية مقصديتها في الإشارة الى الفتنة الطائفية المميتة، وسؤال الهوية القاتل.

يسأل (آدم ذو النورين) عن سبب اختطاف (قابيل الفهد)، قائلاً لـ (قابيل الفهد) - قابيل الفهد وآدم ذو النورين في الغرفة المظلمة ذاتها، تحت سطوة عصابة الحاج هابيل :

- "قابيل الفهد..

- وانت..؟ لماذا انت هنا..؟ هل أنت سني أم شيعي..؟

صمت قابيل الفهد للحظات، فهو يكره هذا السؤال الذي صار من أكثر الأسئلة التي تطرح على السنة الناس من (...)، لكنه كان مضطراً للإجابة وبصراحة، فأمام الموت لا مجال لارتداء الأقنعة، هكذا قال قابيل الفهد، لنفسه، فأجاب بصوت حزين:

- أنا عراقي.. و السبب.. لا أريد التفكير بأكثر من هذا..

واذا ما أردت أن أتجاوز هذا التصنيف، فأنا إنسان.. إنسان فقط

- هل هذا يعني أنت هنا ليس لأسباب طائفية ..؟

- نعم..

- (...)

- المذهب غطاء لتحقيق رغباتهم الدنيئة.. كل طرف يغطي جرائمه بوشاح الإيمان والانتماء للمذهب أو الطائفة، كي يحولوا صحابهم إلى قرابين مقدسة باسم الجماعة التي ينتمون إليها.. وفي النهاية ليس هناك خاسر أو قربان مجاني سوى قطيع الخرفان من الطرفين ̋.

انصب هذا النص السردي على السؤال والجواب؛ ولأن السؤال وجه لـ (قابيل الفهد)، فهو سؤال مباشر وحدي، نشأ نتيجة حوارات ذاتية مع الذات الداخلية لـ (آدم ذو النورين)، فالظروف الضاغطة هي السبب في توليد مثل هذه الأسئلة، التي بدورها ترتمي خلف علامات الاستفهام وتعجز عن وجود إجابات لها، ولعل هذا ما يفسر(صمت قابيل الفهد للحظات).

ففي هذا النسيج الحواري بين(آدم ذو النورين)و(قابيل الفهد)، نجد أن الروائي لا يمنعه شيء من مواجهة نصه، فحوارية النص وأن دلت في مستهلها على هواجس وكوابيس تراود (قابيل الفهد) في الجواب على أسئلة(آدم ذو النورين)،وهي إشارة إلى فعل السلطة التي تلاحق الناس في كل مكان، فإصبحت كظله، ولم يفت الإنسان مقولة (الحيطان تسمع) وهي إشارة إلى إشكالية الوضع السياسي الضاغط، الذي يفرض نفوذه على الهيمنة الفكرية ويثير نوعاً من الشك والاضطرابات في هاجس الإنسان، عن طريق توظيف جملة من المسببات الخارجية التي بدورها تؤثر في المسببات الداخلية للإنسان الذي(يكره هذا السؤال الذي صار من أكثر الأسئلة التي تعرض على السنة الناس ).

وأمام هذه الضغوط النفسية كلها والمسببات الأيديولوجية الضاغطة، لابد لها من الاندثار أمام رغبة (قابيل الفهد) الناطقة بالقول: ( فأمام الموت لا مجال لارتداء الأقنعة، هكذا قال قابيل الفهد، لنفسه، فأجاب بصوت حزين)، فالشجن غلف التركيب البنائي للمتن السردي ليرويه بالقول:( أنا عراقي.. و السبب.. لا أريد التفكير بأكثر من هذا.. واذا ما أردت أن أتجاوز هذا التصنيف، فأنا إنسان.. إنسان فقط)، وهي إجابة حدية تختصر بدلالتين إما (عراقي أو إنسان)، وهي بدورها إجابة معلنة تصدر من ذات واعية راشدة، رافضة لكل الضغوطات الهادفة لتوظيف هالة القداسة في تمزيق اوصال العراقي، والتي أشار اليها بالقول:(المذهب غطاء لتحقيق رغباتهم الدنيئة.. كل طرف يغطي جرائمه بوشاح الإيمان والانتماء للمذهب أو الطائفة، كي يحولوا صحابهم إلى قرابين مقدسة باسم الجماعة التي ينتمون إليها.. وفي النهاية ليس هناك خاسرأو قربان مجاني سوى قطيع الخرفان من الطرفين)، عمد الروائي بنائها على صيغة الفعل المضارع (تحقيق، يغطي، يحولوا، ينتمون) إشارة إلى استمرارية الفعل، الذي ختمه بالقول:( وفي النهاية ليس هناك خاسر أو قربان مجاني سوى قطيع الخرفان من الطرفين)، ويقصد بها المجتمع.

وقد سعت (حواء الكرخي) لتخليص (قابيل الفهد) من عصابة (الحاج هابيل) الطائفية، عن طريق الاتصال باخيها وهو إسلامي، امتلك هذا اللقب، بعد عملية الاستبدال التي يقوم بها الكثير من موظفي الدين (عديم الايمان، وظالم، وفاقد لتعاليم الدين الحنيف، وقاتل) الى (سياسي مسلم برداء القداسة)،ليتحول فيما بعد الى(مسؤول كبير)، وعرضت القضية لأخيها، قائلةً:

̏ - القضية وما فيها يا سعادة النائب.. أن جماعة ينتمون إلى إحدى التنظيمات الإسلامية قد اختطفت مدير مدرسة في شارع فلسطين صباح هذا اليوم، وهذا الشخص يهمني فهو في دائرة الاصدقاء المقربين..

- شيوعي..؟

- لا.. إنه إنسان مستقل، لكنه ليس متأسلماً في كل الأحوال..؟

- هل هو شيعي أم سني ؟

- هل أصدق ما أسمعه يا آدم..؟ يا مناضل..؟ أمن المعقول أن تسألني أنت مثل هذا السؤال..؟ هل صار اختطاف الناس يتم على أساس انتمائهم الطائفي..؟..

أرتبك الصوت الآخر للحظة، لكنه لم يتراجع عن صرامته:

-لا تفهمني بشكل خاطئ ..أنا أتحدث عن واقع الحال، وليس لأني أؤمن بذلك..̋.

في حوارية النص هذه نكاد نقف عند معادلة مقفلة لا نجد لها مفتاحاً، أو خندقاً لا نستطيع الخروج منه، وهي مشكلة قديمة حديثة يحتضنها العراق بصورة خاصة، والعالم العربي بصورة عامة، فإشكالية الفتنة الطائفية تحولت إلى شعلة أزلية لا يمكن إطفاؤها؛ لأنها كلما خمدت زودت بالممارسات والشحنات السياسية السالبة لإشعالها، لتنهض بإزاء الموجب لصالح مستعمليها، والسالب بإزاء الجزء الثاني (المجتمع).

وقد بُني المتن السردي على صيغة السؤال والجواب الصريح والمعلن، الذي يبتعد عن المخاتلة، وسعى الى تقديم صيغة سردية مفهومة من لحظة عرض (حواء)للقضية وقولها: (القضية وما فيها يا سعادة النائب.. أن جماعة ينتمون إلى إحدى التنظيمات الإسلامية قد اختطفت مدير مدرسة في شارع فلسطين صباح هذا اليوم، وهذا الشخص يهمني فهو في دائرة الاصدقاء المقربين..)، لتصطدم هذه المباشرة بالجواب: (شيوعي؟) و(هل هو شيعي أو سني؟)، وهو جواب ينقل هدف الممارسات الضاغطة بصورتها الحقيقية، لتصطدم (حواء) بهذه المباشرة وتنطق القول:( هل أصدق ما أسمعه يا آدم..؟ يا مناضل..؟ أمن المعقول أن تسألني أنت مثل هذا السؤال..؟ هل صار اختطاف الناس يتم على أساس انتمائهم الطائفي..؟..)، ليجيبها الطرف الآخر من الحوارية قائلاً: (لا تفهمني بشكل خاطئ ..أنا أتحدث عن واقع الحال، وليس لأني أؤمن بذلك..)،عن طريق هذه اللعبة المميتة التي سعت إلى تتويج الشعارات الطائفية في كل مكان، نجحت الممارسات الضاغطة بامتياز، في فرض حضورها وغيابها على الشارع العراقي.

وتحدثت رواية (متاهة قابيل) عن احتيالات واغتيالات رجال العصابات ؛ ولأن الخطر وزعزعة مركزيتهم تسبب قلقاً، لذا سعى (الحاج هابيل) إلى قراءة الفاتحة على (قابيل الفهد) بعد أن علم بتدخلات اخ (حواء الكرخي)، المنقلب إلى التوجه والحكم الإسلامي الداعم لثبوت المركزية، وهذه الظروف كلها دفعت الشيخ (هابيل) الى القول:

̏ بأن الفرصة قد جاءته للتخلص من مدير المدرسة بسهولة، وسيورط الحاج آدم الأسير بقتله، فقال له:

- هذه مهمتك الليلة يا حاج آدم.. توكل على الله و إذبح هذا الحقير الفاسق لأن وجوده سيكون خطراً عليك أنت، باعتبار أنك تعمل محاسباً في مدرسته .. وربما يكون قد عرفك.. فهل سنقوم بالمهمة.. أو نكلف شخصاً آخر..

- سأقوم بالمهمة.. وحدي.. الليلة إذهبوا أنتم.. سأقوم بالمهمة ..لكني ربما

- سأتأخر.. لأنني لا أستطيع ذبحه وإنما سأعدمه.. سأخذه إلى أعماق البستان، وهناك سأعدمه.. وسأذهب إلى منطقة الحسينية لأنام عند أحد أقربائي..".

وبين أوامر هذا وذاك ضاع الصالح بالطالح، وعمت الفوضى، وزاد القتل .

وعمد الروائي (برهان شاوي)، في روايته (متاهة قابيل) الى إجراء مقارنة بين (آدم البشر) ويقصدنا نحن، و(ابونا آدم ابو البشر)، عندما يقول:

̏ نحن نختلف عن آدم الأب.. لأن آدم انتقل من حالة البراءة التي تحدثت عنها إلى الخطيئة، لذلك ثمة سقوط رهيب لآدم ..لكننا البشر، سلالة آدم، أبناء خطيئته، فنحن ننتقل من الخطيئة التي وجدنا انفسنا فيها بالتبعية كأبناء لآدم الأول، الى حالات اخرى من الخطيئة، فنحن نقترف خطايانا هنا على الأرض وليس في الفردوس، نقترفها بوعي.. أي نحن نتاج الخطيئة ونعيش في الخطيئة، إن طبيعتنا الإنسانية تجنح للخطيئة ؛ لأنها مستقرة في أعمق أعماقنا، طبعاً هذا إذا فهمنا الخطيئة بأنها الشهوة والرغبة الجنسية بالتحديد ̋.

وفي الرواية، نرصد دلالة العنوان وشرحه المفهوم داخل المتن السردي.

وإن (هابيل أو قابيل) هو طفل نتيجة الخطيئة، امه (حواء الزاهد) كان ضميرها في تأنيبٍ دائم إتجاه (هابيل) ؛ لأنه ولد خطيئة، ̏ نظرت إلى ابنها هابيل الذي هو ثمرة خطيئتها المحرمة ؛ لكنه أيضاً ثمرة حبها وعشقها الحقيقي ورغبتها العميقة المنبوذة في المجتمع والدين..؟ ثم التفتت إلى ابنها آدم الملاك، الذي هو ثمرة خطيئتها الشرعية الحلال.. ثمرة علاقة مبنية على الحب ؛ لكنه الابن الشرعي أمام الدين والمجتمع..‼ صحيح انها لا تفرق بينما، فكلاهما نشأ في أعماق رحمها وهو قطعة من جسدها، إلا أنها ستشعر بالأسى على آبنها هابيل ̋.

فإن توظيف المقارنة هنا جاء عن طريق:

هابيل (ثمرة الخطيئة المحرمة) = ثمرة حبها وعشقها الحقيقي ورغباتها العميقة المنبوذة في المجتمع والدين.

آدم الملاك (ثمرة الخطيئة الشرعية الحلال) = ثمرة علاقة مبنية على الحب ؛ وهو الابن الشرعي أمام الدين والمجتمع.

وقد تكون هذه المقارنات إشارة توضيحية للقارئ، وتعد مؤشراً للصعوبة في البحث عن مغزى للوصول الى المحطة النهائية لهذه المقارنات، فالكلمات بسيطة ومألوفة، إذ جعلت (حواء الزاهد) من (الخطيئة) حلالاً عليها بسبب عشقها لـ (والد هابيل)، ومن (الحلال) جعلت حراماً عليها، لكرهها والد (آدم)، ومن الحلال والحرام صاغ الروائي خروجه المعلن لنقد فكرة الدين أولاً، ونقد المقدس كله ثانياً.

ونرصد في الرواية، تفكيكاً قاسياً وتشريحاً للحرب الأهلية والطائفية، وعمدت الرواية إلى تقديم الانقسامات الطائفية عن طريق مسلخ منطقة الحسينية، ومسلخ منطقة المنصور وتحديداً (حي دراغ).

أضيف، أنطلقت سردية الرواية من مادة مجانية معاشة بجذورها في محيطنا، ولاتحتاج إلى أعمال الذهن في فهمها وفك قيودها، الفهم يقتصر في كيفية التعليق النقدي على جملة الشخصيات المتداخلة لهذه الشخصيات.

 

بقلم: د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم