قراءات نقدية

الدين والأدب.. البديل المتخيل

صالح الرزوقبقلم: مارك بوسكو

ترجمة: صالح الرزوق

بدأت إعادة صياغة الحوار المتبادل بين الدين والأدب بفضل اهتمام ما بعد الحداثة، جزئيا، بكل من الدين والنقد الأدبي. ويمكن أن تجد المسار اللاهوتي في تفكير رجل الدين دافيد ترايسي، الذي حاول إحياء شبكة التراث والتأويل باقتراح "قراءة" للنصوص المصنفة ضمن الأعمال الكلاسيكية - تلك التي أسست أو شكلت ثقافة خاصة و/أو التي رفضت باستمرار فيضان ودوام المعنى. كان ترايسي قارئا شغوفا لهيرمينوطيقا هانز جورج غادامير وبول ريكور ولديه حساسية حول المعضلة المعرفية لما بعد الحداثة، وقد أكد أن الكلاسيكيات كلها، ولا سيما الدينية، تؤكد على كل من "الثبات الراديكالي الذي تحول لديمومة وعلى اللاثبات الراديكالي الذي أصبح فيضانا بالمعنى من خلال التبدل المستمر في أشكال الاستقبال". وأي كلام حول استقبال مثل هذه الأعمال يتطلب تفحص النص ليكون "الجواب" اللاهوتي للدين نقديا وقابلا للتفسير بضوء "الأسئلة" التي تفترضها الحداثة، وفي نفس الوقت تكون "الاسئلة" الثقافية التي يفترضها الأدب عرضة للافتراضات الواقعية التي تصدر عن لاهوت خاضع للنقد والتفكير. علاوة على ذلك، يزعم ترايسي أن البعد الديني للأدب، ولا سيما النصوص الأدبية، هو شيء مفروض من الخارج على النص، ولكنه يشكل الأرضية المتخيلة للنص، كأنه "أفق" نحن بنيناه أو قمنا بتفكيكه، ويحمل سمات ثقافية وضعية. إن البعد الديني لأي نص ليس شيئا غريبا عنه. وبهذه الطريقة، يوضح ترايسي رؤية تيليك tillich عن العلاقة بين السؤال الثقافي والجواب الديني ويجعل العلاقة متضامنة بين الطرفين، وفيها نسبة كبيرة من التحاور واعتماد كل طرف على الآخر.

إن اللاهوت ليس مجرد جهاز غير متبدل يمكن للفنان والأديب استعماله، ولكنه أيضا محيط متخيل يتطور باستمرار داخل بيئته الثقافية.

وقدم ترايسي ثلاثة أنماط لاهوتية بمقدورها تفسير الوضع المعاصر: نمط للتفسير التصعيدي (رؤية ميتافيزيقية تقارب الواقع الملموس ويمثله كتّاب من نوع مارسيا إلياد وكارل راينير)، ونمط يحمل افتراضات نبوئية (دعوة تبرز غرابة وآخرية العقيدة الدينية كما يمثلها كتّاب من نوع كارب بارت، وهـ. ريشارد نيبور)، ونمط للفعل/ الممارسة (وهو لاهوت سياسي وتحرري عن المقاومة والأمل). وهذه التجليات المسيحية الثلاث لها مقاربة تخيلية إما بلغة المحاكاة او الديالكتيك. ولغة المحاكاة تنظر للواقع ضمن علاقات منظمة تعبر عن التشابه بالاختلاف، وتبني على إعادة تركيب للأساسيات كما لو أنها مرجعية وبؤرية؛ ولكن اللغة الديالكتيكية تنظر للواقع كما لو أنه بحاجة ضرورية للنفي اللاهوتي الراديكالي، وهو علاج هدام ويكشف الأوهام الأساسية التي تجدها في المعرفة والواقع. ويؤكد ترايسي أن الطبيعة الإيديولوجية للانعكاس اللاهوتي تكون بأفضل حالاتها حينما تتشابك في اللغة الدينية المشابهة (الأنالوجيا) مع الديالكتيك، لانتاج تفسير بنّاء عن وضع الحياة المعاصرة.

إن فهم ترايسي لخيال المشابهة والديالكتيك مثمر جدا في دراسة الأدب واللاهوت. فهو يتابع الخيال التشبيهي باعتبار أنه ميول كاثوليكية في عقيدة المسيح والخيال الحواري باعتبار أنه الميول البروتستانتية. والطرفان مرتبطان جدليا، ومعا يقدمان رؤية أشمل لطبيعة العقيدة الدينية المعقدة وللتطبيقات التي تتطور مع الخيال الديني عند الفنان. وبالبناء على أعمال ترايسي، حاول النقاد فصل خيال المشابهة والديالكتيك في الثقافة المعاصرة.

وكمثال قام أندرو غريلي بإشهار رؤية ترايسي المكثفة واللاهوتية من خلال توفير دراسات اجتماعية كثيرة تنظر في الخيال الكاثوليكي، وهو يعمل، وذلك بواسطة مقارنة الدليل الإحصائي الخاص بالعادات السياسية والثقافية والميول الأمريكية الخاصة التي تنتشر في أرجاء الولايات المتحدة. وبلا إضفاء طابع مطلق على هذه الميول، قدم نقدا معمقا لـ "الاختلاف" الذي عبر عنه الفنانون الكاثوليكيون والذين دهبت أعمالهم في حوار مع تراث الثقافة البروتستانتية السائدة.

وقد فرضت فكرة ترايسي انتباها جديدا نحو العمل النقدي لويليام لاينش، الذي تفحص بمقالات فلسفية ولاهوتية عديدة حدود الخيال الفني من زوايا كاثوليكية مختلفة. وفي مؤلفات مثل المسيح وأبولو (1960) وصور العقيدة (1974) حاول لاينش توضيح كيف أن تقاليد اللاهوت تناولت الخيال واتجاهات تطوره. وفي نفس الوقت، انتقد البنية التخيلية في الفنون الأدبية التي ظهرت في القرن العشرين، مع الإشارة إلى المبالغات والتشوهات التي لحقت بخصائص الخيال الديني. وإن منهجية لاينش في الأطروحة الدينية والدوغمائية - وفي هذه الحالة الفهم المسيحي لظاهرة التقمص، والتثليث، والخلاص، والسقوط - قد ساعدت على تشكيل طريقة التخيل والتي من خلالها أمكننا فهم واستيعاب عمل التزييف أو التصنيع الثقافي. ومثل ترايسي، أكد لاينش أن الخيال هو فعل تأويلي لكامل الشخصية، وليس مرهونا بعمل الدلالة الثقافي المنفصل. وقد وسّع كل من لاينش وترايسي المقاربة التقليدية للتحليل اللاهوتي في الأدب بادعاء أن الأعمال الأدبية يمكن فهمها بضوء مصطلحات الخيال اللاهوتي الذي ينشط في النص. فقد سمحا للأطروحات والتطبيقات الدينية وللمسح الدرامي في السرد الديني أن تتكاتف لتكوّن رؤية إيديولوجية يعبر عنها خياليا بنصوص شعرية وأدبية ودرامية. وأكدا أن النظرة اللاهوتية ليست مجرد تطبيقات في النص ولكن هي فعليا إخبار أو إعلان عن التعبير الأدبي للنص. ولو أن اللاهوت أعاد تقدير علاقته بالأدب خلال ربع القرن الأخير، وأيضا أكد النقد الأدبي مجددا على دور الاهتمامات الدينية واللاهوتية في إنجاز النصوص الأدبية. ومما يدعو للسخرية، أن الافتراضات النقدية للاتجاه المادي، وحوارات ما بعد الحداثة، بدأت بالتحقيق بالعلاقة بين نصوص اللاهوت والأدب. وبرفض سيطرة كلام النجوى الذاتية وبالتركيز على النفس باعتبار أنها ذات للمعرفة، أكد عدد من مفكري ما بعد الحداثة أن هذه الأفكار هي بناء صناعي ولها القليل من الأساس في الواقع. أما ما بعد سرد العقل الإنكليزي والحداثي فهما مجرد ترابط عشوائي بين الكلمات في النص، وإن النفس كذات ما هي إلا موضع اجتماعي في عالم معقد ومتحول. والواقع هو شبكة علاقات سائلة ومبعثرة ومؤثرة وغامضة فقط، تدمج معا فكرة الذات مع الموضوع. وعليه هناك اهتمام ما بعد حداثي بالغموض والتأثير واللاحتمية واللاعقلانية وآخرية الآخر. ولأن اللاهوت والتطبيق الديني مهمشان من قبل ما بعد سرد إيديولوجيا التنوير، وجد بعض نقاد ما بعد الحداثة في هذا التهميش دراسة هامة لأنها تخدم الإشارة لاندفاعات متصلة يقتحم بها الآخر والغريب جسم الثقافة والمجتمع.

ويرى بول جايلز، الذي بنى تحليله لكتاب ومخرجي أفلام أمريكا الكاثوليكيين على تفسيرات ميشيل فوكو للغة باعتبار أنها خطاب سياسي، أن الدين واحد من بين عدة استراتيجيات خطابية يستعملها كتاب النص الثقافي. وقد نوه جايلز على نحو مثمر كيف أن الخيال الكاثوليكي للفنانين يقدم قراءات مختلفة للثقافة. ولأن الكاثوليكية أقلية في إنكلترا وأمريكا فقد أصبحت هما إيديولوجيا أمام البروتستانتية، ورسمت خريطة بتصورات بديلة وسرد بديل أيضا. وعلى ما يبدو، إن للدين والاستاطيقا الكاثوليكية على وجه الخصوص وتراث اللاهوت الكاثوليكي التاريخي، بنيته النصية، وموقعه كعمل فني حافل بالغبطة ومطعّم بالدوال المتموجة. وكما قال إلياس هانسون"الكاثوليكية بذاتها معضلة استطرادية.. فالكنيسة فجأة تدخل الحداثة ولكنها لا تزال قروسطية، متقشفة ومبذرة، روحانية وحسية، متنسكة وإيروتيكية، تكره المثلية الجنسية، ولكن لديها انجذاب باتجاه الجنس المشابه، تشك بالإلحاد وتشجع على تعبيره الفني". وعليه، في نهاية القرن العشرين، هناك تبادل إشكالي بين موضع الكاثوليك والبروتستانت: حيثما نشطت إديولوجيا البروتستانت بديالكتيكها التاريخي لتفكيك انحطاط ما قبل الحداثة وما قبل الإصلاح الكاثوليكي في الثقافة والمجتمع، فإن هذه الإيديولوجيا البروتستانتية قد أخذت على عاتقها نقد ما تحول إلى شكل من أشكال العلمانية الانحطاطي لتشكيل الإيديولوجيا البروتستانتية التي تسيطر على المجتمع البريطاني والأمريكي.

وضمن الدوائر المعاصرة، الشعبية والأكاديمية، هناك إحياء نقدي لخطابات التوجه الكاثوليكي- إحياء لفضائل أخلاق التومائية والأرسططالية في الفلسفة، ولجماليات لاهوتية متطورة في الدين، واستعادة للإلهيات في دراسات الطقوس، ونظرة متجددة لتقاليد الروح الكاثوليكية- وهو ما ساعد على كشف افتراضات ما بعد التنوير، وحداثة ما بعد الإصلاح وقدم للطقوس خطابا كاثوليكيا بديلا.

طبعا، تفترض معظم خيارات ما بعد الحداثة حيال لعبة الغموض واللاعقلانية والقطيعة ازدواجية التفكير التنويري، بين المثقف وأثره، أو بين الحتمية العقلانية والمشاعر الذاتية. إن الدين واللاهوت، وهما واحد من بين عدة وحدات بناء صناعية وتاريخية، ومنها مزاعم الحقيقة عن اللاهوت (تطبيقاتها وأطروحاتها) التي تقاطعها الطبيعة العدمية لمعظم أفكار ما بعد البنيوية. ومع ذلك إن هذه "اللحظة" ما بعد الحديثة تسمح بإعادة النظر في الخطاب والرمز والطقس الديني الذي يساعد على رسم نظام منطقي بطبعه، وذلك في التفكير والمعتقدات التي شاهدناها في الأعمال الأدبية. هذا الاهتمام المتجدد باللغة واللاهوت والأطروحة الدينية كما توضحها لنا مصطلحات المشكلة الدينية- وليس تناقضات عقلانية أو إيديولوجيا الكبت والكف فقط - تحرر القانون الذي يلعبه خيال المشابهة بتبني مثل هذه القناعات والأنظمة معا. وعليه، إن فكرة دافيد تزايسي عن الخيال الديالكتيكي: التشبيهي وما بعد الحديث يؤكد على دور الدين كـ"خطاب" يوسع ويحاور العلاقة بين الأدب واللاهوت، ويقترح، ويورط، وينقد التركيب الممكن الرافض لفصل الخيال الديني عن الأدب، والذي يرفض بدوره، بالتالي، أن يهمل التراث الفلسفي والجمالي للمسيحية (و بهذه الحالة المذهب الكاثوليكي) ويخرجه من خطاب الفكر الحديث.

ويفترض الحوار فكرة يكون فيها التوتر بين لغتي الخيال الديني الحوارية والتشبيهية غير فعال في نفي الآخر، وفي نفس الوقت، ينتقد أي إيديولوجيا علمانية تكون فيها الذاتانية الداخلية إما منفية في تقاليد اللاهوت أو مختزلة بشكل بنية مادية في تقاليد الأدب. بمفردات الرواية الكاثوليكية - وهذا هو تصنيف عدد من أعمال غراهام غرين- إن افتراضات الكتاب النظرية مثل ترايسي ولاينش تشجع النقاد على فهم تضاريسه التاريخية بطريقة تمتد لما وراء حدود النوع المعرف بشكل ضيق جدا. وعوضا عن النظر للرواية الكاثوليكية على أنها مجرد ظاهرة تاريخية تبقى فيها الموضوعات الكاثوليكية واقعا ثابتا وبنيويا ودينا له صفة "أرثوذوكسية" في النص، هناك اقتراح أكثر سيولة وبنهاية مفتوحة تتجاوز الارتباط بأي محتوى ديني أو حبكة "كاثوليكية" مفضوحة. هذا التحديد النفوذ للرواية الكاثوليكية بمصطلحات تشدد على الحدود التخيلية الخاصة بالكتابة يسمح بمجال نقدي لنرى به الأسلوب الذي ينقل إلى عالم النص الطقوس الدينية والأطروحات اللاهوتية. إنها تحدد موقع الأفكار الأولية في الخيال الكاثوليكي، مثل الهوس بأثر الأطروحة الخاصة بتقمص الحياة الإنسانية، والفهم الفلسفي والسكولائي للشخصية ومكانها في البيئة المحلية، والواقع المقدس الذي يشدد على سيادة الإلهيات في الواقع المادي، والانحرافات والتكبر الجنسي الذي يهدد التقاليد الكاثوليكية. ولو وضعت في جعبة واحدة هذه الاتجاهات التي تحدد طريقة لرؤية وتقدير الواقع الذي غالبا ما يهيمن على الشخصيات، والحبكة، ومادة موضوعات الكاتب، أنت تعتبر الكاثوليكية كما لو أنها تجربة في العقيدة وتقليد تاريخي أيضا. إن الاختلاف الكاثوليكي مستمر لكن بمصطلحات أقل عدائية. علاوة على ذلك، هذا التأكيد يوسع فكرة الرواية الكاثوليكية من خلال ربط تطوراتها مع التطورات التاريخية لللاهوت الكاثوليكي خلال النصف الأخير من القرن العشرين. وعندما بدأ مجلس الفاتيكان الثاني إعطاء ميزة للبارادايم الجديد بما يتعلق بفهم الكنيسة الكاثوليكية لذاتها ولعلاقتها مع العالم الحديث، واكب ذلك تبدل واضح بالخيال الديني عند الكتاب الذين اهتموا بتقاليد تلك العقيدة. وغراهام غرين مجرد كاتب استفاد من توسيع نقطة النهاية، فقد شرح لنا المشكلات والمشاغل التي شكلت كلا من الخيال والوعي الديني في القرن العشرين.

 

د. صالح الرزوق

......................

مارك بوسكو  Mark Boscoقس أمريكي جزويتي وأستاذ باللاهوت. يعمل في جامعة جورج تاون.

 

في المثقف اليوم