قراءات نقدية

جيل دولوز وفيليكس غوتاري (6): المحتم والرغبة (2)

جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق

***

لا يمكننا ملاحظة التركيب (أو التجميع) في شيفرة ساكنة ونقد للمساحة الوطنية، ولكن في فك تجميع الشيفرة، وفي إزالة المساحة، وفي التسريع الروائي لكل من فك الشفرة وإلغاء المساحة (كما كان الحال في اللغة الألمانية -  أن تذهب دائما لما هو أبعد بهذه الحركة التي تسيطر على كل الحقل الاجتماعي). وهذه الطريقة أكثر كثافة من أي نقد. كاف يكلم نفسه. هدف المرء أن يحول ما كان طريقة ('proce'de) في الحقل الاجتماعي إلى سيرورة، بشكل حركة افتراضية لامتناهية وتفرض في حدودها القصوى التركيب الآلي للمحاكمة (proce's) لتبدو أنها واقع قيد التحقق، وهو فعليا هناك (4). وكل هذه العملية تدعى سيرورة، وهي على وجه الدقة دون نهاية. وتشير مارتا روبير إلى الرابط بين المحاكمة والسيرورة، وهذا بالتأكيد ليس سيرورة (أو عملية) عقلية ولا نفسية ولا جوانية.

وعليه هنا تجد الصفات الجديدة للتركيب الآلي الروائياتي ويكون متعارضا مع الدلائل والآلات التجريدية. ولا تفرض هذه الصفات تفسيرا معينا أو تصويرا اجتماعيا لكافكا، ولكن تقدم بحثا تجريبيا بصفة اجتماع سياسية. وبما أن التركيب يعمل فعلا في الحقيقي، يصبح السؤال: كيف يعمل؟. ما هي الوظيفة التي يقوم بها؟. (لاحقا سنسأل مم يتركب، وما هي مكوناته، وارتباطاته). بناء عليه علينا اتباع حركة عدة مستويات، واضعين بعين الاعتبار اللايقين الموضوعي حول آخر فصل مفترض وحول اليقين الذي تجده في ثاني وحتى آخر فصل. تقريبا كان فصل "في الكاتدرائية" سيء الحظ ولم يضعه ماكس برود بموضعه. وحسب أول انطباع، كان كل شيء خاطئا في "المحاكمة": حتى القانون، بالمقارنة مع القانون الكانطي، يضع الكذبة في مكان قاعدة كونية. فالمحامون هم محامون مزيفون، والقضاة هم قضاة مزيفون. "محققون حمقى"،"حراس فاسدون"، أو على الأقل وضيعون ويخفون المشاكل الحقيقية و"مجريات العدالة بعيدة المنال" والتي لم تعد تسمح بتقديم نفسها. مع ذلك إن لم يكن هذا المدخل مؤكدا، فهذا فقط بسبب سلطة مزيفة، ومن السيء أن تقيس العدالة بمعايير الخطأ والصواب.

أما الانطباع الثاني فهو أكثر أهمية: حيث يعتقد المرء أن القانون موجود، هناك في الحقيقة رغبة ورغبة فقط. العدالة رغبة وليست قانونا. كل إنسان في الحقيقة هو من فعل العدالة - ليس المشاهدين فقط، ولا الكاهن والرسام، ولكن أيضا المرأة الشابة الغامضة، والبنات الصغيرات المنحلات وتأخذن مجالا واسعا في "المحاكمة". وكتاب كاف في الكاتدرائية ليس كتاب صلوات، ولكنه ألبوم للمدينة. ويتضمن كتاب القاضي الصور الفاضحة حصرا. وهكذا يدون القانون في كتاب للعراة. وهنا لا تكون المشكلة مجرد إشارة لزيف العدالة في النهاية، ولكنها إشارة إلى الرغبة: فالمدانون أساسا أكثر الشخصيات وسامة لما لهم من جمال غريب. والقضاة يتصرفون ويفكرون "مثل أطفال". وتصادف أن طرفة بسيطة يمكن أن تهزم الكبت. العدالة ليست ضرورة، بالعكس تماما، حظ. ويرسمها تيتوريلي مجازيا بشكل حظ أعمى، رغبة مجنحة. وهي ليست إرادة ثابتة، ولكن رغبة متحركة. يقول كاف: من المستغرب كيف أنه لا يجب على العدالة أن تتحرك، كي لا يميل ميزانها. ويقول الكاهن في وقت آخر: “لا تريد المحكمة منك شيئا. وهي تستقبلك حينما تأتي وتصرفك حينما تذهب". والنساء الشابات لسن غامضات، لأنهن يخفين طبيعتهن وهي من ملحقات العدالة. بالعكس تظهرن أنفسهن كأنهن ملحقات لأنهن بنفس الوقت تجلبن المتعة للقضاة والمحامين والمدانين، من رغبة وحيدة وعجيبة ومتعددة الأصوات. وكل "المحاكمة" تتسلط عليها تعددية صوت الرغبة التي تمنحها قوة إيروتيكية. والكبت لا ينتمي للعدالة ما لم يرغب بنفسه - الرغبة في الواحد الذي يتعرض للكبت أيضا مثل الواحد الذي يكبت. وسلطات العدالة هي ليست تلك التي تبحث عن اعتداء، ولكنها تلك التي "تنجذب وتندفع بالاعتداء". تتحرى في المكان، وتبحث في الأرجاء، وتنبش في كل مكان. وهي عمياء ولا تقبل أي دليل، وتضع في حسبانها أحداثا عابرة، همسات قاعة المحكمة، أسرار القاعة، الضجيج الذي يسمع وراء الأبواب، دمدمات من وراء المشهد، كل تلك الأحداث الصغيرة التي تعبر عن الرغبة وعن حظوظها العشوائية.

إن لم تسمح العدالة لنفسها بالتمثيل، فهذا لأنها رغبة. ولا يمكن للرغبة أن تظهر على المسرح حيث أحيانا تظهر مثل حزب يعارض حزبا آخر (الرغبة ضد القانون)، وأحيانا مثل حضور طرفين تحت تأثير قانون أعلى يحكم توزيعهما وتكاتفهما. فكر بالتمثيل التراجيدي كما صوره هيغل: يتقدم على المسرح أنتيغون وكريون كأنهما حزبان اثنان. وبهذه الطريقة يتابع كاف التفكير بالعدالة في أول تحقيق معه. سيكون هناك طرفان. فريقان، أحدهما مفضل أكثر قليلا  للرغبة، والآخر للقانون، وتوزيعه سيحيل إلى قانون أعلى. ولكن كاف يلاحظ أن الأمر ليس فعلا هكذا: والمهم ليس ما يحصل في الاستئناف، أو في حركة الفريقين معا، ولكن في الهياج الجزيئي الذي يضع الممرات والأجنحة والأبواب الخلفية والغرف الجانبية في حركة. والمسرح في "أمريكا" ليس أكثر من جناح رحب، ممر واسع، ألغى كل النظارات وكل التمثيل. ويجري نفس الشيء في المجال السياسي (كاف نفسه يقارن مشهد الاستئناف باجتماع سياسي، وعلى نحو أدق، باجتماع ثلة اشتراكيين). وهناك الأمر المهم ليس فيما يحصل في الاستئناف حيث يناقش الحضور مشاكل إيديولوجية.

حقا القانون هو أحد هذه الإشكالات التي تخضع للنقاش. في كل مكان من كافكا - في "المحاكمة"، في "سور الصين العظيم"- يتم فحص القانون بضوء ترابطاته مع الجماعة التي ينتمي لها المتكلمون. ولكن سياسيا المهم يحصل في مكان آخر، في ممرات الصالة، وراء مشاهد الاجتماعات، حيث يواجه الناس الحقيقي، مشاكل الرغبة والسلطة الملحة - المشكلة الحقيقية للعدالة. من هذه النقطة وما بعد، من المهم إدانة فكرة تعالي القانون. لو أن الحالات الأخيرة غير متاحة ولا يمكن تمثيلها، فهذا لا يظهر كأنه من فعل التراتبية اللانهائية المنتمية للاهوت السلبي، ولكن نتيجة لتلامس الرغبة التي تتسبب بحدوث ما حدث ودائما في المكتب المجاور. وتلامس المكاتب، وتجزئة السلطة، تحل محل تراتبية الحالات  وحتمية السيطرة (وفعليا كشفت "القلعة" عن نفسها لتبدو مجزأة وتجميعات صاخبة ومتماسة على نمط بيروقراطية هابسبورغ أو موزاييك الأمم في الإمبراطورية النمساوية).

ولو أن كل شيء، كل شخص، جزء من العدالة، ولو أن كل شخص تابع للعدالة، من الكاهن إلى البنات الصغيرات، فهذا ليس بسبب تعالي القانون، ولكن بسبب حتمية الرغبة. وهذا هو الاكتشاف الذي كانت تحقيقات كافكا وخبراته تحجز نفسها فيه بسرعة.

فيما كان العم يحضه على الاهتمام بالمحاكمة بجدية، على سبيل المثال، وأن يستشير المحامي، وأن يمر بكل مراحل التسامي، يدرك كاف أنه عليه أن لا يسمح لنفسه بأي تمثيل، فهو بدون حاجة للتمثيل - وأنه يجب أن لا يقف أحد بينه وبين رغبته. وسوف يجد أن الرغبة فقط بالحركة، وبالانتقال من حجرة إلى حجرة، واتباع رغبته. سيتحكم بآلة التعبير: سيتحكم بالتحقيق، وسيكتب دون توقف، وسيطالب بإجازة من الغياب، كي يتمكن من تخصيص نفسه لهذا العمل "اللانهائي في خاتمة المطاف". وبهذا المعنى "المحاكمة" رواية لا تنتهي. حقل غير محدود من الحتمية عوضا عن التعالي اللامتناهي. وكان تعالي القانون خيالا، صورة لأعلى الأماكن، ولكن العدالة أقرب لصوت (العبارة) ولا يتوقف أبدا عن التحليق والابتعاد. وتعالي القانون آلة تجريدية، ولكن يوجد القانون فقط في تحقق التجميع الآلي للعدالة.

"المحاكمة" هي تفكيك كل المبررات المتعالية. لا يوجد هناك شيء لتحكم به على الرغبة. والقاضي ذاته تشكله الرغبة. والعدالة لا تعدو أن تكون السيرورة الحتمية للرغبة. وهذه السيرورة متدرجة، ولكن التدرج نتيجة للتلامسات. والمتلامس لا يعارض المستمر. بالعكس هو نسخة موضعية من المستمر وقابلة للتطويل بلا نهاية. وعليه هي أيضا تفكيك للمستمر. فهو دائما مكتب مجاور، دائما في غرفة لصيقة. وبارناباس "مرحب به في غرف خاصة، ولكنها جزء من كل، وهناك حواجز لا يوجد بعدها مزيد من الغرف. وهو ليس عمليا ممنوع من عبور الحواجز... ويجب أن لا تتخيل أن هذه الحواجز هي خط تقسيم محدد.. هناك حواجز يمكنه اجتيازها، وهي تماما مثل التي لم يمر منها على الإطلاق". العدالة هي تدرجات الرغبة، بوجود حدود تحريك تتعرض للإزاحة باستمرار.  هذه السيرورة، وهذا التدرج، وهذا الحقل الحتمي هو الذي ينظر له الرسام تيتوريلي على أنه تأجيل غير محدود. وجزء مركزي من "المحاكمة" يجعل من تيتوريلي شخصية خاصة في الرواية. ويميز بين ثلاث إمكانيات نظرية: الإنكار القطعي، الممكن أو الإنكار السطحي، والتأجيل غير المحدود. أول حالة لا توجد أبدا، لأنها تتضمن الموت أو إلغاء الرغبة التي يمكن أن تصل إلى نتيجة. من جهة أخرى الحالة الثانية تقابل آلة القانون التجريدية. وفي الواقع تعرف بمعارضة التيارات، وتبديل الأقطاب، وتوالي الفترات - تيار القانون المعاكس الذي يجيب على تيار الرغبة، وقطب الهرب الذي يجيب على قطب الكبت، وفترة الأزمة من أجل أزمة المصالحة. ويمكننا القول إن القانون الرسمي أحيانا يتراجع إلى التسامي وذلك بمغادرة حقل هو إيجابيا مفتوح على الرغبة، أو أحيانا يجعل المتسامي بنية تحتية واقعية وهرمية محتمة وقادرة على وقف وكبت الرغبة (في الواقع توجد عدة قراءات أفلاطونية جديدة لكافكا). وبطريقتين مختلفتين هذه الحالة، أو بالأحرى دورة هذا الإنكار السطحي، تقابل وضع كافكا في الرسائل أو في قصص الحيوانات أو الصيرورة الحيوانية. و"المحاكمة" في الفندق هي ضربة معاكسة للقانون الذي يرد على ضربة الرسائل، محاكمة لمصاص الدماء الذي يعلم جيدا أن أي إنكار لا يكون إلا سطحيا. وتعقب القطب الموجب لخط الهروب، ومحاكمة صيرورة الحيوان هو القطب السالب للقانون المتعالي الذي يسد طريق الخروج، وهذا يطرح فرضية عائلية للإيقاع مجددا بالفريق المذنب في الفخ - أودبة غريغور مجددا، التفاحة الأفلاطونية التي ألقاها أبوه إليه.  وهذه التفاحة هي بالضبط نفس التفاحة التي أكل منها كاف في مطلع "المحاكمة"، كأنها جزء من سلسلة مكسورة تجد رابطها في "المسخ". "لأن كل قصة كاف تدور حول الطريقة التي يدخل بها لمسافة أعمق في تأجيل غير محدود، متجاهلا كل صيغ الإنكار السطحي. وعليه هو يغادر آلة القانون التجريدية المعارض لقانون الرغبة، كما يعارض الجسم الروح، وكما يعارض الشكل المادة، وذلك ليدخل في مركب العدالة الآلي - وهذا يعني في الحتمية المشتركة للقانون غير المشفر والرغبة غير المحلية (التي فقدت أرضها).

ولكن ماذا يعني مصطلح التأجيل واللامحدود؟.

إذا رفض كاف الإنكار السطحي، فهذا ليس بسبب الرغبة بالإنكار الحقيقي، ولدرجة أقل ليس بسبب اليأس العاطفي الذي ينبع من ذنب ينهي تغذية نفسه. الذنب هو تماما من طرف الإنكار السطحي.  ويمكن القول إن الإنكار السطحي هو بنفس الوقت لانهائي، ومحدود، وغير مستمر. وهو لا نهائي لأنه دائري ويتبع عن مقربة "دورة المكاتب" على طول مسار دائرة كبيرة.  ولكنه محدود وغير مستمر لأن هدف الإدانة يقترب وينحسر بالنسبة لهذه الدورة. "يتمايل إلى الخلف والأمام بنوسان أضيق أو أوسع، بتأخير أطول أو أقصر: "والتيارات المعاكسة، والأقطاب المتعارضة، والفترات المتعارضة للبراءة والذنب والحرية والاعتقال الجديد. وبما أن الإنكار الحقيقي لا يقبل الشك، تقع مشكلة البراءة "أو" الذنب تماما في مجال الإنكار السطحي الذي يحدد الفترتين غير المتواصلتين وردة الواحد إلى الآخر. أضف لذلك البراءة افتراض شديد الغرابة بالمقارنة مع افتراض الذنب.

بريء أو مذنب، هذه هي مشكلة اللانهائي. وهي بالتأكيد ليست من نوع المشكلة التي يثيرها كافكا.

بالمقارنة التأجيل منته، ولا محدود، ومستمر. وهو منته لأن هذه ليست متعالية، لأنها تعمل على أجزاء. ولا يجب على المتهم أن يخضع إلى "ضغط وإثارة" أو أن يخاف من ردة حادة (لا شك الدورة تبقى، لكن "فقط في الدائرة الصغيرة التي تم حصرها بها وبطريقة صنعية"، وهذه الدورة الضيقة هي "محتملة" فقط، من رواسب الإنكار الظاهر).

وأيضا التأخير غير محدود ومستمر لأنه لا يتوقف عن إضافة جزء لآخر، بالاتصال مع الآخر، وبالتلامس مع الآخر، ليعمل قطعة بعد قطعة كي يدفع دائما الحدود إلى الوراء.

وهذه الأزمة مستمرة لأنها دائما من طرف ما يحصل. "الاتصال" بالعدالة، التلامس،  حل محل هرمية القانون. والتأخير إيجابي تماما ونشط - ويتابع على طول إلغاء فعل الآلة، ومع تركيب التجميع، ودائما قطعة بعد قطعة. وهذه هي السيرورة ذاتها، تتابع أثر حقل المحتوم (5). وحتى أنه أوضح في "القلعة" حيث أن كاف لا شيء سوى الرغبة: مشكلة منفردة، أن ينجز أو يحافظ على "الاتصال" مع القلعة، أن ينجز أو يحافظ على "التعاون".

***

........................

هوامش

4- كافكا. المحاكمة. 40:"ربما تعترض أنها ليست محاكمة على الإطلاق. وأنت محق تماما، لأنها محكمة فقط إذا نظرت إليها بهذا المنظار.

5- يبدو لنا أننا مخطئون تماما في تحديد التأجيل غير المحدود وكأنه حالة "إشكالية"، "لا قرار"، و"ضمير مذنب".

في المثقف اليوم