قراءات نقدية

شقاوة بغداد.. قراءة في رواية: جدد موته مرتين لحميد الربيعي

قدمت الرواية استعراضاً لإبناء بغداد وشقاواتهم، إذ أستغل الروائي التفصيل الدقيق في نقل احداث الرواية، وشخوصها.

أعتمد السرد على الراوي العليم تارةً، والراوي الفردي تارةً اخرى .

(نجم الفحام)  ابرز شقاوات السردية، عمله أقترن بـ (الأخصاء)، بدأه من المحافظ، وانتهى بـ (الرئيس)، وهو من ابرز الشقاوات إذ كان أسمه يتردد على مراكز الشرطة " تؤكد وجوده في سجلاتها حتى مخالفة شرطي المرور له في أثناء عربدته مدونة فيها عقوبة الشرطي بسبب عدم أخذه الغرامة على السكر من المدعو نجم الفحام"، ولينتهي العرس بـ (الدم)، فالظالم الطاغي الذي يمثل الآله لدى البعض" الأرض مثقلة بكتلة بشرية تهدد بإنزلاقها نحو مياه المحيط . وأن الموت عراء وأضحية . فعلى  البركة نثبتها . هوى الساطور على رقبة الرجل العاري فأنفصل الرأس غارقاَ بدماء متدفقة كالنافورة ".

وحقق الطقس الشعبي وجوده في احياء(عاشوراء، وعرس القاسم)،وخصها داخل الرواية بمنطقة (الأكراد)؛ لأنهم طائفة تهتم باعياد(نوروز)، وهو المكان ذاته الذي يحقق الروائي عن طريقه جملة الحقائق التاريخية .

كان (نجم الفحام) يعيش على أمل تحقق أمنيته في تجسيد دور العريس ؛ لأنه على أدراكٍ تام بإن العروس هي (مريم)، يقول: " لقد تدربت كثيراً مع مريم كما أكون لائقاً بذلك الفتى الذي هب لنجدة عمه عند الفرات"، وهي طقوس شعبية عراقية قديمة معاشة بحاضرها وماضيها، فـ " نساء الحي بدأن منذ زمن في تجهيز العروس، وأم خليل تجهز ابنها لحفلة العيد، نحن الصبية نغدو ونعود بين الخيم والحارة"،" لم ابدأ بعد الاستعداد لتمثيل دور القاسم، كنت أحفظ زينته ولباسه، في دارنا الملابس معدة، وما على أم خليل إلا أن تشرف على ارتدائها، فكرت انها ستتقدم حالما تنتهي من ابنها"، فالرواية احتضنت عرسين، الأول: عرس الدم عندما قتل الرئيس، والثاني: عرس القاسم .

ويقول الشقاوة بصوت الكل لا الواحد "نتباهى بمناطقنا، فأبناء " قنبر علي" هم الأعسر، أولاد سوق الغزل كلهم يربطون الطيور، نحن أبناء عكد الأكراد نرطن بعدة لغات، لن يميزنا إلا من سكن معنا دهراَ، الفيلي قصير وممتلىء بيد أنه يتكلم العربية بطلاقة، وابناء الكلداني يحفظون الشعائر كما نحن، نلتم قبل الصباح قبل التوجه إلى المدرسة، كل ينطر صاحبه، نخرج معاً ونعود معاً . نشكل عصبة تجاه الآخرين، لكننا في الحقيقة متضامنون فيما بيننا ـهل الصدرية سواء.

-غلاظ وأشداء.

عابت المدرسة الجديدة صلابة قامتنا وفتوة العضلات، لكنها بعد أسبوع رحلت.

يقال أن ثمة من اشتكاها لدى الإدارة، نحن عزونا الأمر إلى مخافتها من البطش بعد استعراضنا عناداً بها فتوتنا علانية في درسها، كانت مذعورة من تصرفنا الطائش فلم تعد في اليوم التالي وإلى الأبد.

عند انتهاء الدوام نخرج زمراً، ننهب الشارع الذي يفصلنا عن" الفضل" بحركات رقص، إنه في الواقع تحد للشبان الذين ينتظرون قدومنا كل يوم ليدخلوا في مشاحنات، نحن ألفناها وصارت جزءاً من يومنا"

فالسرد أعتمد على  ابناء (قنبر علي، الفضل، الصدرية، الرحمانية، عكد الأكراد)، و(الأكراد) هم الفئة التي نالت الحظ الأوفر في تقديم محنة تهميشهم في ظل الظروف السياسية الضاغطة، بعد أن " صارت البيوت أنقاضاَ، الجثث متعفنة منذ أيام، بعض الكلاب تنبح بتثاقل، البعض الآخر ممدد بجوار البشر"، ويجسد السرد سوداوية المشهد الدموي، بالقول: " بطون مقورة وأعضاء مقطعة ورؤوس مهمشة. ليس ثمة دماء، لقد جفت وتفطرت وتشققت ورسمت خطوطاً متعرجة"، وخص القول بـ (تفطرت، وتشققت)إذ صاغها بالفعل المضارع الدال على استمرارية المشهد الدموي.

والتحقيق مع (نجم الفحام) وأمثاله من شقاوة بغداد تمثل مرحلة تحقيق من عدمه؛ لأن " مثل هذا الرجل لايعاقب ..."؛ لأنه فضلاَ عن شقاوته كان يهتم بـ " ملاحقة ... الرجال من دون سواها من أعضاء الجسم"، فالروائي نسج الكثير من الكلمات الممنوعة في الكتابة الثقافية، ونسج عن طريقها كتابة نصه السردي.

اهتمت الرواية بمناقشة الوضع السياسي الضاغط وترهلاته المميتة، ومحنة الأكراد الفيلين في بغداد، التي زرعت الفتن الطائفية بغية ممارسة ذاتها، وهي فكرة أسس الروائي بناء شخصياته عن طريق جمعها من طوائف العراق المختلفة، لتعلن رفضها لهذه الممارسات وبإن العراق ابناء طوائف عدّة، يجمعهم التعايش السلمي البعيد عن التمييز العنصري المفتعل، وهذا مايفسر فكرة بناء سرده الذي جمعه من مناطق بغداد المختلفة، وبالأخص تلك التي تمتاز بـ (الشقاوة)، فالراوي(نجم الفحام) ينتمي للطائفة السنية، أحب (مريم )ذات الانتماء المسيحي، والتي لم تتزوج من حبيبها (نجم) وأجبرت على الزواج من غيره بغية الخلاص من التشتت في الصحراء، وتناص الروائي في أسمها مع (مريم العذراء)، ولم يكتف بهذا التناص الأسمي فقط بل جعلها تحافظ على عذريتها ايضاَ حتى بعدما تزوجت،وكانت ذا جمال " قمر عكد الاكراد والياقوتة الملألئة، لم يخلق مثل جمالها  في كل أحياء الصدرية"،  و(عزيز علي أكبر) فارسي، و(جليل) شيعي، و(ميرزا) كردي، أما (ام خليل) التي انتمت إلى الطائفة السنية،ونالت مكانة مميزة في حي (عكد الأكراد)، وهي الشخصية المركزية، والأم الجامعة لجل هذه الشخصيات وطوائفها، كانت قد فقدت ابنها (الشهيد محمد الخضيري) وهو تناص مع طائر(الخضيري).

شكلت عتبات العنوان محاور الرواية تفسيراً مسبقاً لمحتواها، أي أن العنوان الضمني يلمح بفكرة مسبقة للأحداث السردية، وقسمها إلى احد عشر قسماً هي (رحلة عزيز، العرس، رحلة الخضيري، الجامعة، رحلة مريم، الفحام، رحلة داعرة، سعدون، رحلة دلون، الرئيس، المجاري)، فضلاً عن عتبة العنوان الرئيس الذي خص بـ (جدد موته مرتين) وهي عنونة مثقلة بالشجن ؛ لأنها مبطنة بالموت داخل الموت، الموت الذي اصبح ثيمة العراق المعلنة، المهمش لوجود الإنسان العراقي.

أضيف، أن النتاجات السردية الجديدة جلها احتضنت الظروف المعاشة وحاورتها، بالنقد تارةً وهو الأكثر، وبالتحليل تارةً اخرى، لتتحول الرواية العراقية إلى وثيقة حاضنة للظروف الاجتماعية جميعها.

 

د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم