قراءات نقدية

الشجن.. ديوان مثل قارب خشبي مقلوب في الصحراء لقاسم سعودي أنموذجا ً

أسس الشجن وجوده الفعلي في نسج اشعار الديوان، إذ حقق الجزء الأكبر في صياغته، سواء من ناحية العنونة أو من ناحية النسيج الشعري.

هذا الشجن نابع من تجربة معاشة لذاته، وهو الذي أسس وجوده الطوعي، والأجباري على ذات الشاعر.

والديوان لم يستدع الشخصيات التاريجية ويمجدها، بل ذهب ليتمرد على الواقع بماضيه وحاضره المعاش، ومستقبله المجهول؛ كوننا نعيش في سلسلة معتمة تعيش في تاريخ داخل تاريخها، الذي لايرث غير الشجن.

إذ استطاع الشاعر عن طريق الربط بين المشهد المعاش بماضيه وحاضره، أن يقدم لنا رفضه العلني لشجن ذاته من فقدانه لأخوته، وماعاشته والدته من حزن على اولادها، وعند التمعن في النصوص الشعرية نجد سخطاً كبيراً، والنصوص بذلك شكلت حبكة شعرية ناطقة لذات الشاعر اولاً، وذات الآخر ثانياً، وهي صورة ناطقة لمثقف يبغي إيصال شعره بالتصريح العلني، كما يريد هو، لا كما يريد الآخر .

قسمت اشعار الديوان إلى نقد للماضي وجملة الضغط السياسي المعاش أنذاك، وإلى الحاضر المطابق لصورة الماضي بأختلاف المسميات فقط، وإلى التوجه إلى الذات العليا ومناجاتها تارةً، والخروج عليها تارةً ثانية، ويفتقر إلى الجانب الدرامي والتغزل، حتى وأن ورد فهو قليل لايشكل ظاهرة، ويقترن دائماً بالوجع من الماضي وشجنه  المعاش في داخل ذات متعبة مما ألت إليه من فراق لأعزاء القلب، وحرمان الأم من فلذاتها، ثم ينتقل الحرمان إلى حرمان جماعي للشاعر.

يقول:

يا الله

القتلة يركضون خلفي

وأنا وحدي في الغرفة

يستعين الشاعر هنا بالمناجاة بالخالق للوصول إلى اقناع الذات المضطربة، وذلك قصد التأثير بالقارىء، والتي عن طريقها يخلق جواً من التشكيل باستعمال تراكيب متوالية ومتصلة ومنسوجة بعضها ببعض حتى يفصل في شرح فكرته ومناجاته، وكذلك استعمل الشاعر الفعل المضارع ( يركضون) بصيغة الجمع، وهذا مايؤكد اهتمامه بعنصر الحدث، والزمن، والحركة  (وأنا وحدي في الغرفة).

وفي نص اخر يقول:

يارب

ماذا لو خلقت لكل منا نسخة إضافية

نسخة تذهب إلى الحرب

ونسخة تعود من السوق بكيس من الخبز والفاكهة

هكذا نحبك كثيراً

هكذا لاتصاب الأمهات بالسكري

:أنه يوم الجمعة يا أمي

ماذا نفعل في المدرسة؟

: انظر.. لقد وصلوا

سأضعك في طابور الرجال يا صغيري

فالنص الشعري  قد استمد مضمونه من مخيلة الشاعر التي تحيل إلى الماضي البعيد، فاستثمار المناجاة بالخالق بـ (يارب)، يفضي إلى الذات الموجوعة التي لجأت إلى المناجاة مباشرةً من دون أية مقدمات.

ولا شك أن الشاعر قد عمد إلى هذه المناجاة، ليعرض جملة من الاسئلة التي تفتقر إلى أية اجابة (ماذا لو خلقت لكل منا نسخة إضافية)؛ ولأن (الأستنساخ) قرن بالعصر الحديث لذا نجده يعمد إلى تكرارها، وكأنه يرغب تطبيقها في الوقت الحاضر، وهو نوع من انواع الحوار الواعي، الذي يقصد عن طريقه مخاطبة الخالق ومحاججته، وايجاد حل بسيط بالأدوات الحديثة والمعاصرة وهي(الأستنساخ)، وقرن الأجابة بـ (نسخة تذهب إلى الحرب، ونسخة تعود من السوق بكيس من الخبز والفاكهة) بدلالة الفعل المضارع(تذهب ) وهي استمرارية المشهد المعاش بالماضي والحاضر، ولكنها تذهب من دون عودة إلا من أذنت له الحياة بحياة ثانية، وهي رمز من رموز الشجن، واخرى (تعود) وهي صورة طبيعية ؛ لأن واقع يومي معاش، وهي صورة أخف حدة من صورة الحرب ذات المصير المجهول، وهنا بنى مترادفات بين (تذهب/ تعود) .

وقرن حب الخالق بتحقيق هذه المطاليب ؛ بغية تجنب اصابة الأم الموجوعة  بداء السكري، والتي كانت ترغب ارسال اولادها  للمدرسة حتى في يوم الجمعة ؛ لأنها تخاف من وجودهم في البيت، والذي يقودهم إلى وراء السواتر (أنه يوم الجمعة ياامي

ماذا نفعل في المدرسة؟

: انظر.. لقد وصلوا

سأضعك في طابور الرجال يا صغيري) كلها دلالات تحيلنا إلى الضياع والشجن، ولعل هذا ما يترك القصيدة مفتوحة وعاجزة عن وجود حل للطفل الصغير، مما دفع الأم لتضعه في (طابور الرجال).

انظروا إليها جيداً

إنها سعيدة في موتها

أي حمل ثقيل هذا ياالله

أن نعطي الحليب

ولانأخذ سوى الشهداء

في هذا النص ثمة عملاً احتجاجياً، إذ استطاع الشاعر عن طريق هذا الربط بين (الأم، والخالق)، إن يقدم لنا رفضه العلني والمباشر للحرب وأفعالها المشينة، إذ يبدو للقارىء للوهلة الأولى أن الشاعر لا يطمح إلى هذا الكم الهائل من السخط على الحرب، لكن عند التمعن في النص نجد هناك سخطاً كبيراً، والنص بهذا شكل حبكة سياسية لمثقف يبغي إيصال شعره الناقد والرافض إلى ما آل اليه الشباب من مصائب الحرب، وماآلت اليه الأمهات التي تربي إبنائها لمستقبل معتم، يكون الموت مصيرهم  (نعطي الحليب/ لا نأخذ سوى الشهداء).

وفي نص اخر يقول:

احتفظ بصورة لكِ في قميصي العسكري

عندما أغسله

أخفي صورتكِ في الخوذة

فتتحول الخوذة إلى طفل يصرخ بابا

اركض إلى القميص

يعود الصغير إلى الصورة

وأنت إلى منزلك

فجأة يصرخ احدهم

أين عربة الأسمنت أيها الأحمق

فالقصيدة كأنها لغة حوارية تلوج في ذات  الشاعر المضطربة، وكأنها أقرب إلى لغة التواصل مع القارىء؛ كون الألفاظ بسيطة ومألوفة، تبتعد عن جفاء العربية وبلاغتها (صورة، قميصي العسكري، أغسله، أخفي، طفل، خوذة، بابا، اركض، منزلك، عربة، الأسمنت)، فهذه الألفاظ البسيطة شكلت آلية في يد الشاعر، وأنتجت نصاً شعرياً، فـ (أحتفظ، أخفي، أركض) دلالة على المفرد (أنا) وهو نفسه (الأحمق)، وهو رمز يؤشر فضاعة الحرب أمام جماليات الحياة، وحاول الشاعرأن يخرج من هذا الوضع المعتم والملبد بالشجن إلى (فجأة يصرخ أحدهم) للإشارة إلى سلبية الموقف.

أضيف، أن الشاعر أسس جملة كبيرة من الأشعار التي اشارت بصورة معلنة وواضحة إلى عتمته الداخلية، واضطراباته الذاتية المعاشة جراء شجن داخلي خاص بذاته اولاً، وبذات الأخر المجتمع ككل، وقد أقرن عنوان الديوان بمقطع شعري داخلي، بالقول:

مثل قارب خشبي مقلوب في الصحراء

ينقذه المطر

فيمضي

دون أن يكترث لأحد

وهي صورة لمستقبل يوجب علينا رسم صورة التفاؤل له ؛ لأن قارب الشاعر أن له الأنتقال من الصحراء، ويمضي (دون أن يكترث لأحد).

 

د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم