قراءات نقدية

استثمار الواقع.. روايتا: طشاري لانعام كجة جي وامرأة القارورة لسليم مطر أنموذجاً.

اسست السردية الروائية حضورها المعلن على النتاجات الأبداعية جميعها، وتفوقت في قراءة الواقع المعاش بظروفه الضاغطة، والمعتمة، وقدمت نقدها المعلن لكل ماهو ممنوع ومحظور، لنجد ذاتنا امام سردية ناطقة لذاتنا الغائبة، ولنكمل قراءة الفكرة قبل الوصول اليها ؛ لأن المتن السردي انطلق من عقم الواقع المعاش.

و باتت هذه الظاهرة محوراً رئيساً في عديد من الكتابات الروائية، لتتحول الرواية إلى واقع معاش تحمل جانباً كبيراً من الشجن، وهي في الوقت نفسه رواية ذات بُعد ثقافي،  إذ تتنوع الآراء والمداخلات بين شخصيات الرواية لكن التقاء هذه الآراء يصب في منبع واحد هو نقد ضغط الواقع المعاش تحت سطوة السلوك والممارسات السياسية.

وتسجل الراوية الواحدة محاور عدّة تنطلق من فكرة أساس وتجتمع في الفكرة ذاتها، فداخل المتن السردي الواحد نرصد  نقداً للواقع، ونقداً للسلطات الضاغطة، ونقداً للواقع اليومي، وجلها جاءت من ايمان حقيقي بفكرة النقد بوصفه نقداً صادراً عن قناعة راسخة في الذات الكاتبة بفكرة نقد الممنوع .

وتقترب رواية (طشاري)  مع مثيلاتها من الروايات في تقديم قراءة لواقع اجتماعي معاش،فـ (الدكتورة وردية) بطلة الرواية تجسد معاناة الإنسان العراقي ما بعد (2003) الذي يعاني اجبارية الخروج من وطنه بفعل الطائفية القاتلة، التي هي من صنع السياسة الموظفة لرداء الدين، الذي حقق وجوده المعلن والطوعي عهلى الشارع العراقي، وهمش الكثير من القوميات العراقية الأصيلة.

كانت الدكتورة وردية قد ذهبت إلى فرنسا، والذاكرة الاسترجاعية  من الوعي لديها دفعتها، للقول: ̏ جزار تناول ساطوره وحكم على اشلائها أن تتفرق في كل تلك الأماكن. رمى الكبد إلى الشمال الأمريكي، وطوح بالرئتين صوب الكاريب وترك الشرايين طافية فوق الخليج ̋ .

ومثلت الدكتورة وردية الشخصية المحورية  في عرض فكرة المتن السردي، وتقديم قراءتها لسوداوية المشهد المعاش، وعقم الشارع العراقي، الذي تحول إلى معدوم، ومسيطر عليه من الغير، الذي يملتلك(الساطور)، والفكرة استمدتها من (ابو طبر) الذي سيطر على شوارع بغداد ماضياً، وها هو الماضي يعيده الحاضر بالصياغة ذاتها، ولكن بفكر ايديولوجي حديث.

و(براق) ابن الدكتورة وردية شخصية رافضة لسلوك وممارسات لعبة الاقتتال الطائفي بين الطبقات الاجتماعية، إذ كان أحد المساهمين في (المواكب الحسينية)، ̏ يبدو براق في الصورة مرتدياً دشداشة في الموكب الحسيني ̋ .

فـ (طشاري) من الروايات التي تألفت في نسيجها مع صورة الواقع لاسيما في قولها: "ملثم وبعضهم مسلح وبعضهم ملتح والباقي يبدو أنه في ورطة وجودية فـ "لا" أحد يعرف لمن يأمن وممن يخاف والشوارع مقسمة حسب الطوائف".

فالخوض في هذا المجال يولد لدينا بُعد نظر وإدراك لفنية الروائية في استثمار الواقع الاجتماعي في بناء سردية تنقل واقعنا المعاش.

فالمتن السردي خص القول بـ (البعض) وليس (الكل)، وعمدت إلى هذا التصنيف؛ لأن النصف الثاني في (ورطة وجودية)، ووظفت الفعل المضارع ( يأمن، يعرف، يخاف) وهو إشارة إلى استمرارية المشهد المأساوي.

أمَّا رواية (امرأة القارورة)، فقد عمد (الراوي) فيها إلى سرد الواقع المعاش ايضاً، قائلاً: ̏ هل من الضروري أن تسحق روحي وتنقطع أوصالي، لكي يجلس القادة المحترمون في النهاية إلى طاولة المفاوضات لنقاسم بضعة كيلومترات عند حدود ملطخة بدماء ملايين يائسة،  ثم هل تضمنون لي أن هؤلاء القادة، بعد الانتهاء من مفاوضات الحدود،  سيتفاوضون مع الرب لارجاع حياتي التي نهشتها دباباتهم وبعثرتها قنابلهم ؟ ̋.

فأكثر ما يحاكيه المتن السردي هنا هو المجتمع، ويجسد النص حالة الاستبداد السياسي والبؤس الفكري والحضاري للحكام المستبدين.

ويمثل المتن السردي ثورة تحريضية يفضح صمت الاستبداد والظلم والضغط السياسي؛ لأنه يعاني المرارة والألم السياسي بوجه العموم، والألم الشخصي للإنسان المضطهد بوجه الخصوص.

وينقسم المتن السردي على قسمين يجمعها استفهام واحد، وكأن القارئ يقرأ جملة استفهامية واحدة، مقسمة على مقاطع داخلية استفهامية:

1- (هل من الضروري أن تسحق روحي وتنقطع أوصالي؟).

(هل تضمنون لي أن هؤلاء القادة، بعد الانتهاء من مفاوضات الحدود، سيتفاوضون مع الرب لارجاع حياتي...؟) وعليه فالنص يذهب ليقدم  نقداً من نوع جديد، ويرسم مصالح الحكم،عن طريق توظيف الفعل المضارع (تسحق، تنقطع، يجلس، تضمنون، سيتفاوضون)،الذي يحمل عنصر الديمومة بالتسلط والطغيان

يكشف النص عن حاجة، هذه الحاجة = مصلحة التمسك بالحكم      نهب الثروات، زيادة الطغيان، التعسف بالرأي، فرض الاستبداد..الخ.

أضيف، القراءة التي تقدمها السردية العراقية، لم تأتِ من فراغ، أنما من وعي تام من كاتبها، وكاتبتها، وقراءة نابعة من سوداوية المشهد المعاش، الذي سيطر عليه السذج.

 

بقلم: د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم