قراءات نقدية

مقاربة لرمزية الحلم وضدية التداول في نص لكَ مآب ايها الحلم!

انعام كمونةللشاعر جاسم آل حمد الجياشي

مقدمة: الأحلام سر وجودي وعالم غريب محبب للنفس البشرية تطمح اليه في كل حين بلاوعي لتحقيق ما نفقده أو نتمناه في الحياة، (ويرى سيجموند فرويد أنّ الأحلام نافذة لمنطقة اللاوعي، وهي وسيلة لإرضاء الرغبات غير المقبولة في المجتمع)، فالهروب للأحلام وسيلة شرود فطرية للعيش في واحة الاماني المبتغاة ونشوة لملامسة الواقع بزيف مشروع ورغبة عصية، وأن تكن بعض الأحلام كابوسا وأضغاثا مؤلمة الا أنها للتنفس الروحي لما يختلجها من ضغوط فتخفف عما يجول بخاطر الروح، وكان النبي يوسف عليه السلام معبر للرؤيا بمعجزة من الله كما ذكر في القرآن الكريم، وقد أهتم بالأحلام كثير من المفسرين العرب قبل الغرب مثل (محمد بن سيرين، والمفكر محمد بن عربي، وأبن خلدون) اصبح لها علم تفسير وتأويل، ويجدر الذكر (لحد الآن لم يكتشف العلم معلومات عن الكثير من كنه الأحلام) رغم تفسيرات عديدة لكيفية حصول الحلم ...

- ولمفردة الحلم نغمة عذبة الإيحاء تترك انطباعا شفيفا في ذهنية القارئ بما تبثه من توارد خيال بمفهومه الواسع تستفز حواسه برحلة ممتعة تجوبها النفس بمشتهى الروح وما تكتم من رغبات مستحيلة لا تتحقق في الواقع، ومن يقرأ مفردة الحلم بالعنوان ويستبصرها بشهية الاطلاع والمتابعة وهو يعرج على ملاحظة الشاعر (بتأبين صديقه قاسم ذيب) يتفاعل مع الصراع النفسي للشاعر فيغوص بمتعة فلسفية للتمرد على الحقيقة، فلنتابع منظور الحلم وتجلياته في فلسفة الشاعر الجياشي ...

- من ثريا النص نرى بناء حبكة مرصوفة بإيقاع انفعالي بما يحمل العنوان من الدلالات والعلامات وسكنات التعجب تمنح العنوان سيمائية قصيدة نثر مغايرة الإيحاء متمردة الفكرة بعنوان يشاكس دهشتنا بأسلوبه اللفظي وتتعدد آفاق مدلولات مضامينه فيستفزنا محور القصد من الوهلة الأولى ...

العنوان (لكَ مآب /ــ ايها الحلم ..!)

 يستدرجنا الفضول الماتع لمفردة الحلم كيف يكون للحلم مآب ؟ونحن نعيش الحلم كل يوم، نستيقظ على حلم الهموم (الحياة)، وعمرنا أيضا حلم الوجع ومرارة غياب الأحبة، والموت حلم آخر في علياء السماء أوفي برزخ الانتظار وقد يكون أحلى الأحلام وأطهرها وأصدقها نطقا، فأي حلما يقصده الشاعر، متى يكون للحلم مآب؟، فللحلم أشكاله المتعددة، بأي شكل سيعاود؟ ...

- تجذبنا متعة الحلم من صيغة العنوان بما لمعجمية الحلم من أصوات مؤثرة بهفيف لفظه أضافة لدلالته الواقعية المهيمنة التناغم فهو رمز مؤطر برؤى فلسفية متعددة بحروف الشاعر، ونستذكر قول للدكتور أحمد غنام عن الرمز: (يمكن تلخيص ماهية الرمز أنها في أدراك أن شيئا ما يقف بديلا عن شيء آخر أو يحل محله أو بمثله بحيث تكون العلاقة بين الأثنين هي علاقة الخاص بالعام أو المحسوس العياني بالمجرد فيرمز لفكرة أو معنى محدد)* فلرمز الحلم أشكال متعددة الدلائل بتغير مستمر وبعث دائم ضمن ماهية وجود طبيعي بضدية البيان وبلاغة التعبير، تتالق بروعة استعارة مكتنزة المعنى بعيدة الإيحاء تزرع التوق لاستكشافها، لذا علينا الغوص في أشكالها، ووجب علينا هدم أطرُها وخرق هالتها لنفهم فلسفة الحلم في بحر رؤى الشاعر ...

- نرى الخطاب الموجه من ثريا النص وهو يشير بالضمير(لك) لمن يخاطب ؟ قد يخاطب بها حلم الشخص المتوفى، وقد يخاطب صديقه ويلقبه بالحلم، لأنه جزءا من أو شبيه لحلم الشاعر، أو يخاطب فترة الحياة المشبهة بالحلم أو قضاء الموت المشبه بالحلم ؟ ولربما يخاطب ذات روحه أي الشاعر الجياشي بهمهمات اليقظة الفلسفية المتألمة؟ !! ...

- بما أن الحلم زمن غير معلوم، وغيبوبة حدث يحظى بزمان ومكان يلاحقنا بأشكال شتى في اليقظة والمنام، يتسرب دون علمنا ولا ينتهي بارداتنا وانما يغشانا بظاهرة طبيعية لا سلطة لنا عليها وحين يتم الحلم ولادته ونشأته بفترة وجود كاملة يتسرب حلما آخر بتوقيت المكوث وتجديد اللحظة الفانية فيعاودنا بشكل آخر، سنستقرأ ما وراء هذا المآب لنرحل مع أشكال وألوان الحلم، ونستنبط غرض الشاعر لعودة الحلم، لمن ومتى ؟ ...

- نلاحظ للعنوان تركيبة متفردة بسيمائية اشارات حركية تعودنا دوما وجودها في نصوص الجياشي الخط المائل والذي يترك فترة توقف للقارئ والخط الأفقي انتقالة للتبحر والغوص لاستخراج عمق الدلالة وهي فواصل لم تخل بالمعنى بل تواصلية الانسجام ببنية تعبيرية جذابة تبعث على التحسس بجمالية الانزياح لما بعدها وتتوهج بومض الترابط، واشارة لانتقاله، علما يستوقفنا العنوان بتركيزه الغرضي وتعدد دلالاته، تتركز في باطنه مغاليق كثيرة رغم سهولة التعبير الا أنه يحمل في طياته صوفية مغزى بما يفضي لنا من كينونة النص !!...

- وظف الشاعر رمز الحلم بتضاد رؤيوي وتناقض دلالي لفاعلية اشكال الحلم ما بين الحقيقة / والخيال، ليثير استفهام القارئ/ المتلقي من ثريا النص، فنسعى متلهفين للحاق بفقرات النص لإزاحة سواتر الغموض وتبرق الاضاءة للإشباع التساؤل، فالعنوان ملتفع للنص ينتعش من ارتكازه على طاقة رمز (الحلم) وقوة تعالقه مع النص، والعنوان بوابة لفحوى النص يفتح مصراعيه كلما توغلنا في عتبات النص والتوقف بين ثناياه لاستقرائه تتأصل خباياه وتشقشق بادرة دلالة أخرى فنسترجع رمزية العنوان من بين نسق النص وهي ميزة رائعة جدا بتعالقه المتين مع متن النص، فالعنوان ثريا ناطقة وغامضة مكتنزة بالدلائل المتعددة وطافحة بأكسير الجمال على مستوى اجرائي عميق الترابط ودلالات القصد ...

النص.. لننحو لمفارقة رمز الحلم وتعدد دلالاتها...

- الأبداع يتراكم من بداية النص والدخول لعتبة جوهرية التعبير وخزين مُرَكز يختزل مساحة واسعة من الكلام والدلائل بعبارة بوح رائع جدا وهي (أنيق الروح) انزياح متفرد فأي أناقة تكون للروح !!هل تتأنق الروح وماهي أناقتها ؟ اقتباس الأناقة للروح يبين منتهى الدلالة لسمو الخلق باستعارة أنسية، ومن ثم تعقبها (تلفعك بحرفك الأبيض) فتكتمل الصورة الشعرية الراقية الإيحاء بانزياح تركيبي وفنية التعبير بعدة دلائل، بما تكتم من براعة وصف وتشكيل جمالي يدل على مقدرة لغة في بلاغة الاستعارة لتفسير نقاء السريرة وصفاء النوايا وهذا ينم عن صفات المتوفي بمعطيات الصورة، وضوح روحه المتسامية عن مساوئ البشر فتمثل في مستوى أجرائي غاية الكمال والجمال ...          

- ويمكن أن يكون بدلالة أخرى، بإحالة الكفن للحرف وكأنه يُحَمِل حرف المتوفي وهو(شاعر أيضا) مسؤولية موته لمدى معاناته وإحساسه المرهف والموجوع من مطبات حلم الحياة ولأن صديقه المتوفى يكتب بمداد الوجع ويستوعب الجياشي تلك المعاناة، لذا أوعز اختيارها كدلالة لسبب موته سَبَبَت بتحقيق حلم الحياة الأخرى (الموت) ...

- وبما أن رمز الحلم للموت أيضا وهو شكل من أشكال الحلم بدلالة (الغياب) وهنا تكمن بلاغة الاستبدال حيث لا يشير الشاعر الجياشي الى الموت بشكل مباشر لأنه يريد أن يقول أن الموت مجرد حلم كما اليقظة من الحلم هو الاستيقاظ من نوم، باستعارة تشبيهية رائعة الوصف على المستوى الدلالي بتناول دلالة المشابهة، فيشي لنا بعمق المعنى وتكثيف الدلالة على أنه لم يمت ببقاء حروف وما زال حي يرزق ...

- وبهذا الكتمان عن الموت وعدم الإفصاح المباشر عنه بتوظيف رمز الحلم بأشكال عديدة متغيرة كوحدة دلالية وما ضمر مضمونها بين أنساق النص بفلسفة خصبة المعرفة ومقدرة فكرية للشاعر ورؤاه الضمنية بصوت مختلف متباين الدلالة متضادة القصد فيما بينها، تبرز براعة الشاعر باستعارة واحدة تتآلف مع وحدات النص وتخلق الاختلاف في كل موضع وتلك مقدرة تقنية وخبرة معرفية راقية اللغة تبهر القارئ/ والمتلقي، ليترك للقارئ التأويل مفتوحا بمدى تأثره ودرجة تفاعله بما يهوى تفسيره وما يلتقط من ثمار معرفته وهي ميزة تواصلية الخطاب الأدبي ...

- ونتابع بقطاف آخر و ..

كن مزاراً،، للصادقين

القادمين من براثنِ الوجع ..!

كُن هودج رفضٍ

للمهطعين في قولة

ال كفى ../ـ ؟ !

- نلاحظ باذخ جمال التصوير لكينونة النقاء وتقديسه في الصورة الشعرية الآتية (كن مزاراً للصادقين) والمؤكدة ب (كُن) وهي تعبير لكائن قصدية الشاعر يشي بتكوين يقيني لبياض وروح صديقه المغيب بحلم قدره فيعبر عن مكان حلمه المغيب مزارا مقدسا بعمومية صفة الصدق يأوي اليه اشباه لونه الصادق وروحه البيضاء كما يردفها في نهاية النص بالطهر وهو استمرار تعالق نسجة الأنساق بانسياب وحدات الموضوع بتسلسل بنائي محكم وجمال تشكيلي رائع بخلاصة راقية للنقاء الانساني في حلم الحياة...

- ولنطلع على مستوى أجرائي آخر لجوهر الفكرة من الصورة الآتية، (القادمين من براثنِ الوجع ..!) فكل القادمين متعبين من قسوة حلم الحياة بأفكارهم وأحلامهم ويشي بذلك رمز براثن في (براثن الوجع) تصوير فني بليغ لمدى وحشية التعامل مع الفكر أو المبدأ فيسبب العذاب الإنساني، وما تُسَبب للقادمين من الجراح معاناة وحرمان من أبسط الأحلام المشروعة للإنسانية ... وكأن الشاعر عندما ينعي صديقه يستذكر كل القادمين من حلم الحياة والمعنى المقصود كل من يُغَيَب من حلم الحياة وباستخدام مفردة القادمين وهي الأرجح من الذاهبين لأن الانتقال من حلم لآخر هو قِدم الشيء، ولربما بدلالة يمكن تأويلها أن الشاعر ينعى نفسه مسبقا أليس هو من سيكون ضمن القادمين!! فحتى في حلمه الآتي يأبى الا أن يكون طاهر المزار كروح صديقه حين حلم اللقاء ...

- وفي كلتا الصورتين السابقتين بتجسيد الإشارة الجمعية (بالصادقيّن والقادمين) تومئ انغماس الأنا للشاعر في محيط الآخر وانتقالية وحدة الخاص الى العام وهو مدلول التحرر من حلم الأنا لحلم الجميع ...

- ورغم مسحة الحزن المتراكم ألا أن درجة الدعم للتصدي لحلم الموت وبعث روح الشجاعة لمواجهة أي مرحلة حلم وبتذليل سطوة الخوف الطبيعية والفطرية التي تتلبس البشر بذكر الموت فنلمس درجة التحفيز للتفاؤل حين يخاطبه ب (كُن هودج رفضٍ) وايضا مفردة (كن) بصوت متكرر النبرة مؤكد الدلالة يدعوه برمزية الهودج لما لها من أثر تراثي وتاريخي عميق الدلالة ومعجمية عقائدية مكتنزة بالدلالات فالهودج زينة من الأنوار مرتفع لأعلى مكان وفي المقدمة دوما، تشبيه صديقه ليكون كبريق الهودج بأنواره ليضئ طريق القادمين من حلم الظلام (ألحياة) وهو سيمائية لمستوى أجرائي بأسلوب جمالي لخلق نبرة التناغم في أنساق النص الحديث ونبرة لغة فائقة الجمال وتشبيه رائع باستعارة تاريخي عقائدية اجتماعية لها الأثر النفسي البعيد متوهجة الصورة...

- لتتمثل موجة انفعالات الشاعر لمرجع ذكرى والتي يثيرها الشعور الغريزي فتنطلق بانفعال عاطفي بصيغة أمر كما في (كُن) بإيحاء صوتي واستعمالها كعلامة قيمة شعورية على مستوى التوصيل الإيحائي توجهنا نحو منطقة الدلالة بالاستعمال الجمالي للغة الشعرية وهي أدوات تقنية تقترن ببنية الأنساق وتبرز قوة الأبداع ...

 - وندرك حوار اللاشعور في نص الجياشي مع صديقه في حلم الغياب يحثه ويشجعه بعدم الاستسلام بلفظة (كن) وبصيغة آمر له ليبث روح الحلم في تفاصيل غيابه ومنها نرى ايماءة دلالة رائعة البوح للتصدي للموت ونكران هيمنته بروحانية مفارقة لرمزية الحلم مدهشة تنهمر من رؤى التأمل وروح نقاء قد تلتقي بأشكال عدة في واقع أو خيال وتلك فلسفة رؤى سيكولوجية وتاريخية وأنثروبولوجيا متجذرة من اعتقادات وتفسيرات كثيرة عن الموت كما في بناء أهرامات الفراعنة باعتقاد مآبهم، وكثير من الأديان تعتقد بتكرار الحياة بعد الموت، فلما لا يكون حلما وبهذا يتحول الموت لفكرة الحلم وكما نعرف للحلم زمن يؤوب وتوقيت محدد ...

- يدرك الشاعر بإحساسه المرهف لوعة الفراق وتعاني روحه فتنهمر دفقات شعورية التأمل من مدى الرؤى والمتأثرة بالموضوع فيكون الشعور ذاتي التفاعل، يهيم بحرقة الألم بلا وعي في رؤى فلسفته التعبيرية بفكرة القصد، لذا ندرك كنه ترابط الذات بفكرة الموضوع وتلاصق فلسفة الفكر المعبر بدلالات عميقة الأسى، وهنا ذاتية الموضوع تكمن في أوج التألم وعراقة المشاعر الإنسانية، والإحساس الوجداني الصادق والتأثر النفسي الغير مدنس بأي شائبة من أحلام الحياة ونرى تأجج مشاعر التأبين كلما توغلنا في وحدات النص ولنتابع قطافه الآتي ...

- تقلب في لظى أحلامكَ

الوجلة من القادمِ

ولظى /ــ الانتظار

الذي نما .. وأخضرَ

في دجى ثوبكَ

الأبيض المصابُ

بعدوى الغياب /ـ ها إنك

الآن تُدافَ في ندى

حلم التراب

- لَوَنَ الشاعر بريشة لغته أنساق القصيدة بالأبيض والأخضر أضفت التوهج على صور النص فاصطبغت بالعطاء، ولأن الأبيض ولادة حلم جديد والأخضر أنبات روح وبذرة نماء بسيمائية تفاؤل استخدم فحواها كرموز لإيحاءات عميقة متوارية خلف صفة الألوان، ومنها نرى الوصف الدقيق لصفات وخلق الصديق المتوفي برهافة ودقة اختيار ترتبط بدلالة حرفه الأبيض الذي مثل ميزة تأكيد النقاء .

- ونلاحظ منحى التشجيع للتصدي للخوف من المجهول في حلم الغياب فيعظهُ بعدم الاستسلام ويطمئنه بأن الغياب حلم سيستيقظ منه حتما وأن طال موعده، وبأن العتمة لا تدوم وما الغياب الا عدوى سيشفى منها، نرى دلالة التأكيد على (عدوى الغياب) ما هي الا مجرد أزمة مرض لفترة زمنية مما تشي أنها عدوى ستحل على الجميع، لذا يعبر عنها برمز الحلم في الغياب هو(الموت) وهو تفادي لقسوة لفظة الموت وما معروف عن النفس البشرية من صعوبة المواجهة له بالبحث عن سبل تفاديه كما اسلفنا بعدم الإشارة اليه بلفظه المعتاد ...

- أبدع الشاعر بطاقة تعبيرية فنية و فلسفة عميقة لتفسير ماهية الموت بزمن غياب مؤقت وعدهُ شكل من أشكال الحلم بتوظيف مفردات بسيطة مبطنة بتنوع دلالي غائر مما يوصلنا لتداولية خطاب رائعة الأثر بتواصلية أدبية لتفسيرات عديدة نابضة على محمل التأويل لعمق ما تحمل الأنساق من صور بارعة الوصف بتوظيف مضمون خطابي لموضوع متكامل بمعاني جميلة وما تكتنز من دلالات الصور الشعرية لخطاب عام بتغاير دلالة مفردة واحدة هي رمز الحلم وألبسها هبة المرونة لغرض دلالي متنوع بإيماءة طاقة الرمز فاكتست بقوة الإيحاء ومقدرة التشكيل ككيان متفرد وحدوي مكتمل الدلالة متجانس مع وحدات النسق في أي صورة كائنة الغاية ...

- يجذبنا الأسلوب التعبيري في الصورة الشعرية الفنية الرسم (ها إنك الآن تُدافَ في ندى حلم التراب)، فنية التعبير تطغي ببعدها الدلالي، فكيف يداف صديقه في ندى حلم التراب ؟ يبتدأ الشاعر بظرف الزمان (الآن)والذي يدل على الوقت الحاضر وهي لحظة زمنية آنية غير متوقفة في أي قراءة ستكون الآن فصاعدا، فهو يراه برؤيا قلبه يداف وهو فعل مضارع يدل على الاستمرارية، والندى رمز الطراوة والبلل، والتراب من العناصر الأساسية الأربعة وهي أصل الكون والخلق ومنها نشم رائحة التراب المعطر من رطوبة الصباح وشروق النور، تشبيه رائع مبطن وبدلالة تأويله أن صديقه سيعطر حلم التراب وهذا دلالة أخرى لرمز الحلم عميقة الإيحاء وكما نعرف خُلقنا من التراب ونعود للتراب ففيها الكثير من الحكمة الفلسفية وصوفية التفكر وبعد التخيل، لذا علينا تفتيت كل معجمية لنكتشف ما تحمل في بواطنها البعيدة فنرى الانزياح التركيبي العميق والدلالي الموظف لرسم مستوى النقاء الذي نوى الشاعر توصيله للقارئ وهو مستوى أجرائي رائع ومكثف جدا ...

- نستدل من وصف الموت بالحلم نظرة فلسفية تنم عن رضا مسبق لكينونة الوجود المتغير مبررة لتفسير حتمية زمنية معينة لا تخضع لمدى علم البشر فتفسر بقناعة عرفانية وثقافة عميقة لتتقبل حالة غامضة يقينية التوقع بتكهنات فلسفية ودراية معرفية واسعة وباعتقاد رؤيوي بعدم أحباط النفس البشرية والتي تسعى دوما للبقاء الأبدي، كما في قصة جلجامش والبحث عن عشبة الخلود فمن منا لا يتمنى أن يعثر عن سر هذه العشبة ؟ وبالابتعاد عن الوضوح والمباشرة بهذا نستدرك بعض التجارب التراثية والأسطورية والتي تنقلنا لميتافيزيقية التكوين لخاصية الفكر الفلسفي للشاعر ...

- ويوفق الشاعر بفلسفته لفكرة الموت عن صديقه المقرب ليقتنع ولربما يُقنع أنه حلم، وجدير بالذكر أن أثر الصدمة لغيابه أهلته لذهنية عميقة الرؤى حول الغياب كما يدل رفضه لعبارة الموت باستبدال فرضي انها حلما وتلك قناعة فلسفية بعيدة الرؤى، وما تفسيره أن الحياة والممات حلم، والاستيقاظ هو حلم لقاء آخر وحياة مجدية جديدة فنرى فلسفة متفردة لكلمة ومعنى الموت ومنطق اقتناع أن الموت والحياة مرادفات لشكلين مختلفين لحلم واحد متعدد الصور، وتلك مفارقة رائعة على مستوى أجرائي بفلسفة ذاتية وعمومية يطمح لها الكثير بحكمة فلسفية مؤملة لتحقيق الحلم ...

- ورغم ما شدا الشاعر من حزن في أصقاع الحلم ألا أن أصداء مناجاة روح الشاعر تتهجد بدرجات العرفان الإنساني والوجداني بألم الفراق تجاه روح صديقه المتوفى، ولنتابع بقية القطاف ...

إني أراكَ الآن وأنتَ

في عليائكَ ..

متوثبٌ في حلمِ يقظتكَ

وأنتَ تهرول

على سواترِ الييااااااااااض

تاركاً خلفكَ

كلَ هذا المجون /ــ متطهراً

زاهداً ..

نقياً .. فرااااغ كفكَ يشهدُ

تأكد ياصديقي /ــ لكَ مآب

ولي ذهاب /ــ وسنلتقي

عند منتصف الحلم /ــ إياكَ أن توقظني

من حلمي السادرُ فيك ..!!!

- للضمائر حضور بهي في أنساق النص، تنهمر من العنوان (لكَ) لعتبات النص (ها إنكَ)، وقد تعددت الضمائر، ومنها ما تركزت في المجاز التعبيري الآتي (إني أراكَ الآن وأنتَ)، ضمير المتكلم (الياء) والمخاطب (الكاف، أنت)، كذلك موسيقى التعبير للضمائر في العبارة الآتية (لكَ مآب ولي ذهاب)، اضافة الى تعدد حرف الأف في معجمية البياض ورسمها بشكل (البيااااااااااض) بتكثيف نبرة النقاء، فما أروع التكثيف لإيصال نبرة الخطاب بمستوى صوتي صارخ النقاء والوفاء متوازي بإيقاع اسلوبي الانفعال وصيغة متوازنة بين المرسل والمرسل اليه، مما يشد القارئ / المتلقي للتواصل والانهماك العذب في تفسيره وتأويله المتواصل...

- ونرى تكرار مفردة (الآن) تمثل زمن الحلم وانغماس الشاعر في الرؤى ممتدة باستمرار اللحظة لروح صديقه ودلالاتها بكل حين تأكيد مكثف للزمن الآتي، سبق أن تناولته ...

- ولننهل من تعدد الصور الشعرية بفحوى اشكال حلم الحياة الأخرى في زمن الغياب تضمنت الزمان في(حلم يقظتك) والمكان (على سواتر) بانساق متكاملة الترابط كما في الأنساق التالية...

 في عليائكَ ..

متوثبٌ في حلمِ يقظتكَ

وأنتَ تهرول

على سواترِ الييااااااااااض

تاركاً خلفكَ

- ما يلفت الانتباه بتحفيز الفكر لدلالات عديدة بأن الغياب زمن حياة اخرى مثل(في عليائكَ ..، متوثبٌ في حلمِ يقظتكَ، تهرول) فيها حضور مطلق التأكيد متشرب برؤى الشاعر يعري الموت من سكونه فتبدو الصور بفاعلية تجريدية لحركية الأنسان موازية لأي حياة بحضور دليل الحركة في(متوثب، تهرول، وتثب) فتشكل منحى أجرائي تجريدي الملامح عميق الدلالة مرتبط بحواس حميمية الروح كما تراه العين حاضرا وتسمعه الأذن وجودا برؤيا طاقة الحياة في حلم الغياب وهذا تضاد استعاري رهيب البلاغة ...

- كما أوحى لنا الشاعر بدلالة أن اللقاء في منتصف الحلم هو إشارة لفلسفة تسلسل الانعتاق رويدا رويدا من حلم لآخر وهو (الموت)في قصدية مبطنة لفكره الفلسفي، ويوحي بالفراق المتوقع فلكل حلم نهاية كما أسلفنا وقطاف أخير لفلسفة النص...

ــ إياكَ أن توقظني

من حلمي السادرُ فيك ..!!!

يا صديقي ..

 - دفقة شعورية لخاتمة رائعة مكملة لترابط ضمائر الخطاب في بنية النص بأسلوب سلس الانسياب مؤكدة فلسفة الجياشي لأشكال شجرة الحلم واشارات الضمائر ما بين مرسل ومرسل اليه، نلاحظ الضمير أياك موجه للمخاطب بشكل تأكيدي وتحذيري لأن الشاعر يود أن يبقى في حلم الذكرى لصديقه ليتم اللقاء بحلمه الآخر وتأكيده ب (يا صديقي) فقد أنهى لواعج الوجع بندائه لصديقه فهل ينتهي حوار فلسفة الحلم ؟...

- لقد تكررت مفردة الحلم تسعة مرات من العنوان لخاتمة النص ما بين مرتبطة بضمائر المتكلم والمخاطب أو غير مرتبطة ضمن سياق تركيبي بمهمة وظيفية وقوة توالد دلالي بسياق اسلوبي على مستوى الرمز، حيث تم توزيعها في مواطن النص ولكل منها مدلولها الخاص بانزياحها عن مدلولها المعجمي (الدال) برمزية مختلفة الدلالة متآلفة مع الشكل والمضمون بصورة حسية واستعارة مختلفة شكلت العمود الفقري للنص وتكاد تكون هي الرابط الأساسي للفكرة وثيمة ارتكاز من العنوان للخاتمة موشية بكثير من الدلالات المتناقضة الجذابة وهذا ما يوحي للأبداع الحقيقي والمثير للجدل حول قدرة خيال الشاعر واجتهاده اللغوي وخبرته الشعرية وقد كان للكلمات ايقاع متوازن ومؤثر ...

- كما تكرر اللون الأبيض ثلاثة مرات والمصدر ايقاظ اربع مرات ...

- على مستوى الأنساق في بنية النص تشكيلة فنية بارعة الجمال ببنية رصينة وترابط وثيق لا تنفك عقده عن أفقية الانزياح ولا عن عمودية التراتب الانسيابي بسلاسة شيقة ممتعة للقارئ/ والمتلقي، بنسجة متشابكة مترابطة المضمون، قصيدة نثر معطرة بالاقتدار اللغوي والخبرة التعبيرية بحبكة مترابطة الأنساق وسيمائية عناصر بأسلوب توظيف غاية وقصد تجول في تفكيرنا دوما، أنجاز رائع لنص حديث مغاير الرؤيا بوحدة نفسية وخيال شعوري وفلسفة فكرية بتطويع اللغة لأدوات مبدع ...

- تمكن الشاعر جاسم الجياشي من إرساء مستوى أجرائي لدلالة التضاد في الوجود من موت وحياة ..وغياب وحضور.. أبيض، اسود .. فراق ولقاء وغيرها من أحاسيس عاطفية نفسية برمزية الحلم وتحرر من قيود مبهمة عطشا لحرية روح بمنطق فلسفي متميز الفكر بترابط موضوعي ذا فاعلية خطاب نقلنا من الخاص الى العام، ومن ذاتية موضوع لعمومية الخيال، وترجم فلسفته بحواس الإنسانية بأنواع المعرفة ومختلف البيان بخبرة عميقة فأنتج الأبداع بفاعلية أدبية بباذخ اللغة، وبوح ايحائي يشي لنا حكم وعبر برشاقة اللفظ وفنية التعبير بمفردات بسيطة جسدها بمشاعره الجياشة بحزنه العميق فرسم انزياح متغاير بتكثيف الصورة لأبعد ما يلامس خلجات القارئ بتفاعل التلقي فيتوهج النص بصفة السهل الممتنع وهي بلاغة النظم وكثافة الإيحاء ببساطة التعابير وعمق المضمون...

خلاصة

- يؤكد لنا الشاعر بفلسفة زاخرة التفكر غنية الرصيد المعرفي خصبة الخيال بتمثيل حركة الحلم لملامح زمن بأنواع مواسم كونية الوجوه وتكرار مختلف، فتوالد الحلم بأشكاله الشتى من محور النص القائم على بؤرة تناقضات تجسد كونية عالم الحلم، باقتران رمز الحلم بجوهر الفكرة ومختلف الدلالة ندركه بتمعن التوقف كلاً على حدود معناه وما يخفي من ايحاء يشي بإمكانية تفسيرها وتأويلها ضمن معرفة المستقرئ ...

- بخلاصة الرد على اسئلتنا السابقة، نستنبط أن الحلم زمن يؤوب بين حلم وحلم وقد بدأ الشاعر بزمن واستدرجنا معه برحلته الفلسفية ما بين زمن حاضر وزمن غائب نستدل منه أن الوجود الطبيعي زمن بكيان مستمر رغم تقاطع أزمنته بأشكال الحلم ورغم قياسها بالمستوى السيكولوجي فان الأزمنة أفق كوني متأرجح يجيب على اسئلة فضولنا بكيفية لا تقتصر على نهاية واقعية بل منطقية مستحدثة ضمن كل قناعة قارئ، وقد تناثر هذا الزمن بوحدات النص بالوان مختلفة من بداية العنوان لخاتمة النص مرادف لرمز الحلم بشكل متوازي بصيغة مدهشة منصهر مع وحدات النص بجمال أخاذ، فلكل زمان مكان يحتويه وبهذا المستوى الإجرائي النص مكتظ بالزمن وهي إشارة فاعلة التأثير تصاعدية التموج تبعد الجمود عن ذهن المتلقي للتفكر بفترات الحلم حين المتابعة ...

- وبدلالة عميقة التبصر وعين التوقع بفلسفة الإلهام الثاقب التفكر بذهنية الشاعر الجياشي تجاه موت صديقه الشاعر تنعكس بمرآة التصور وكأنه يتوقع بسيرة نفسية ذاتية مستقبلية له وما يجول بخاطره الفلسفي، فيرصد مسبقا لما يتوقعه بعد مغادرة حلم التواجد(الحياة) الى حلم الغياب (الموت)، بتحقيق شكل من أشكال الحلم والذي لا بد منه في حياة الحلم، ولذا يدرك بيقين حكمته وروحه الناصعة وكما يقال(رحم الله من عرف قدر نفسه)، وها هو يرى نفسه في مرآة حلم صديقه بلا ضبابية ولا هروب، وبكذا يترك لنا انطباعا عن بصمة حلم غيابه المستقبلية بذهنية تغاير سيكولوجية وأثر اجتماعي وتاريخي تراود الشاعر عن حلمه الآتي، قد تكون! أو لأنهم من نفس المحيط وتعاريج مناخ مرسومة على خارطة المصير بنفس المعاناة فالأصالة تجود بنعي الميت فكيف أن يكون التأبين لصديق عزيز مقرب أحرق فراقه القلب وأفاض المآقي...

 

قراءة إنعام كمونة

...............

لكَ مآب /ــ ايها الحلم..!!

 وفاءً لروح الأديب قاسم ذيب.. حبيب القلب والذي وافاه الأجل قبل ايام رحمه الله ..

جاسم آل حمد الجياشي

***

أنيقَ الروح /ــ تلحف حرفكَ الأبيض

كن مزاراً،، للصادقين

القادمين من براثنِ الوجع ..!

كُن هودج رفضٍ

للمهطعين في قولة

ال كفى ../ـ ؟ !

تقلب في لظى أحلامكَ

الوجلة من القادمِ

ولظى /ــ الأنتظار

الذي نما .. وأخضرَ

في دجى ثوبكَ

الأبيض المصابُ

بعدوى الغياب /ـ ها إنك

الآن تُدافَ في ندى

حلم التراب

تدثر ..

تدثر /ــ بالسحاب

تدثر .. لكَ موعد

في الإياب /ــ عند منعطف

أولى الحكايا

أولى الصرخات

الرافضة /ـ ؟!

لم أشأ يوماً ياصديقي أن اوقظك من أحلامكَ ../ــ إلا رغبة مجنونة سُكبت فيَ اليوم

لإيقاظكَ من صحو أحلامكَ التي سَكَنت مشافي الجنون! ولادتها المتعسرة /ــ ؟!

على يدِ قابلة الرعب .. أُجهضت ..!!

منذ زمنٍ ..!

إني أراكَ الآن وأنتَ

في عليائكَ ..

متوثبٌ في حلمِ يقظتكَ

وأنتَ تهرول

على سواترِ الييااااااااااض

تاركاً خلفكَ

كلَ هذا المجون /ــ متطهراً

زاهداً ..

نقياً .. فرااااغ كفكَ يشهدُ

تأكد ياصديقي /ــ لكَ مآب

ولي ذهاب /ــ وسنلتقي

عند منتصف الحلم /ــ إياكَ أن توقظني

من حلمي السادرُ فيك ..!!!

ياصديقي ..

 

في المثقف اليوم