قراءات نقدية

أرخنة السرد قومياً في رواية: فكشنري للروائية ميسلون هادي

ضَجَّ التاريخ العراقي منذ القدم بهويات متعددة ومختلفة واحياناً متناقضة بحكم تنوع المكونات الاجتماعية التي تعيش فيه (الدين، العرق، الاثنية) فالمؤرخ او الروائي كتب سرديته من منطلق ايديولوجيته والايديولوجية هي بحد ذاتها نسق ثقافي غالباً ما يهمن عليه التلفيق والتزييف والبعد عن الحقيقة، فالكلّ يكتب بدافع الانتصار لجماعته التي ينتمي إليها. رواية فكشنري الصادرة العام الحالي عن دار المدى للروائية ميسلون هادي التي أعادت فيها صياغة التاريخ العراقي في مرحلة الاحتلال العثماني وبداية الحرب العالمية الأولى فجلعت بطلها (الاحمداني) يشارك في الحرب العالمية في صف محتلي أرضه اذ تقول على لسان البطل حين التحق بالجيش العثماني: (دخلتُ إليها، مع عشرين شاباً اقتادتهم الحكومة كجندي مكلف يطلقون عليه اسم جندرمه نفر. ص 126)، ثم تستعرض الروائية ذاكرة الموروث الشعبي في تلك المرحلة بدءاً من مشهد ولادة الاحمداني الذي ولِدَ ميتاً لولا تدخل القابلة (الجدة زيتونة) التي بذلت جهداً في إحيائه من موت محتم ولاسيما حين خطف إخوته الصبيان بطرقٍ مختلفة ولم تبقَ سوى أخته اسيا ثم تسرد الكاتبة ميسلون مشاهد كثيرة عن تلك الطقوس الشعبية وكذلك الدينية التي استُلت من الشعبي وغُلفت بغلاف ديني حسب معتقدات عامة الناس وهذا السرد غيب عن الرواية التحبيك، اي صياغة الحبكة التي تعد مجموع من التنسيقات والترتيبات التي تتحول من خلالها الاحداث المتناثرة الى حكاية منسجمة وذات معنى، فدخلت الرواية في السرد التاريخي لكن بشخصيات شعبية حسب نظرة ما بعد الحداثة للتاريخ حين سلطت الضوء على الشخصية الهامشية بدل من الابطال المشهورين، وتحديداً في شخصية (شرار النار) التي جعلتها الروائية كمعلم وأبٍ ثانٍ للأحمداني ومن هنا ينطلق السرد في تصوير الاحداث التي وقعت في تلك المرحلة ومن اهمها إنشاء العثمانيين خط سكك الحديد، ودخول التصوير الفوتوغرافي حين قام المصور نعيم بتصوير الأماكن المهمة في العراق، حتى طوب ابو خزامة أخر مَعْلَم من معالم الحرب بين الفرس والعثمانيين . نلحظ أن السرد جاء في الرواية مسلطاً الضوء على التراث والأحداث التاريخية وما ادخله العثمانيون من عادات إلى البلد، وهذه ليست موضوعات أصلية بالضرورة، وليست شيئاً خاملاً او سلبياً دائماً، بل هي (موضوعات نفعية يتم توظيفها واستخدامها لخدمة اغراض ومقاصد معينة من أجل إقصاء هوية ما، وإعطاء هوية أخرى تماسكاً واطراداً ومكاناً في العالم) وبهذا هيمنت الهوية القومية على الرواية حين لجأت الكاتبة الى سرد تفاصيل الأمة وسرد تاريخ اجدادها المؤسسين وسرد الوثائق الاصلية اذا تقول لسان الأحمداني (توبة هو الذي قال لي بأنه قد ولد في العام الذي دخل في الحوت الى نهر دجلة ووصل الى قصبة النبي عزرا المعروف بالعزيز وقد حدد دخول الحوت بالعام 1880 احد موظفي شركة الملاحة المعروفة بشركة بيت لنج، وهو اسكندر جوزيف زفوبودا وكان هذا الكاتب قد بدأ يدون كل يوم، وبدون انقطاع تصرفاته ومشاهدته .. ص 129) . فمثل هذه السرد كثير في الرواية الذي رصد مرحلة الاحتلال العثماني وكما قلنا بأنه كون هوية الساردة في الوقت الذي تبعثرت فيه الهوية المركزية العراقية، فمنذ عملية التحول السياسي في العراق عام 2003 تمزقت الهوية القومية و التي اثبتت فشلها في مجتمع متعدد الطوائف والديانات والقوميات ؛ لذا أصبحنا بحاجة الى هوية جامعة تلم تلك الهويات المبعثرة . بعد ذلك تعود الروائية الى اتخاذ القومية مرة أخرى هوية مركزية ولا سيما حين اتخذها النظام السابق ذريعة لإقصاء جميع الهويات الفرعية في العراق . وبهذا استعادت الروائية تلك الهوية حين كتبت الرواية بطريقة اصطفائية بدافع الانتصار للايدلوجية التي تنتمي إليها، وهذا ما يحرض الآخرين على كتابة تاريخ هويتهم بالطريقة ذاتها ونكون قد وقعنا في أزمة الهوية مرة أخرى .

 

موج يوسف

 

في المثقف اليوم