قراءات نقدية

جولة سريعة في أعمال الشاعرة ذكرى لعيبي

صالح الرزوقلا يوجد في تجربة الشاعرة العراقية ذكرى لعيبي أي خلاف ذي شأن مع الحداثة. إلا في خروجها على تقليد رواد الشعر الحر بنقطة واحدة. وهي أن حزنها ليس دراميا و لكنه إنشادي. ويبدو لي أن ميولها لتدمير الذات هي التي تضع مسافة عازلة بينها وبين النغمة الموضوعية عند السياب والبياتي ونازك الملائكة. فالسياب يعيد ترتيب مشاعره بتسلسل حكائي لا يخلو من الصور. وكذلك البياتي إنه يستخرج من الواقع عناصر أسطورية تصنع جدلا دراميا. وتضيف الملائكة له ربط الأسباب بالنتائج. وهذا أوضح عنصر في قصيدتها المشهورة (كوليرا). فالاستعمار والوباء والتخلف يحتلون نفس الدور في تخريب علاقات العاطفة بالطبيعة. أما ذكرى لعيبي فهي تقدم نوعا من صيغة عاطفية تقفز من الذات إلى الواقع القاسي والمؤلم وتتحطم على جدرانه وصخوره. ولذلك يغلب على قصائدها أسلوب التشكي والمناجاة. مثلا هي تفتتح مجموعتها (امرأة من كرز وعسل)* بقولها:

لو نطق الحزن

لقال هذه امرأة الدمع

وأم الصبر (ص 7).

وتقول في قصيدة (ياسمينة مسكونة بالغد):

وفي قمة الخوف أترك قلبي

ينقره النسر،

وأمضي

إلى حتف حبي (ص12/ يمامة تتهجى النهار)**.

ونادرا ماكانت ذكرى لعيبي تستعمل المحاورات أو توجه خطابها لإنسان معروف. فهي تكاشف نفسها لكن الطرف الأخر هو دون اسم أو هوية ويغلب عليه اللاتناهي. وتستعمل لهذه الغاية التذكر والنظر للسطوح العاكسة كالمرآة والزجاج والماء. وكلها حواجز سائلة لا تفيد معنى التماسك والوحدة العضوية. وربما هذا هو سبب الخلاف الهام أو الفرق الأساسي بين رمزية الماء والمطر في شعر الحداثة (السياب مثلا) والمعنى الذي تستعمله لعيبي. فهو يأتي لديها بشكل رمز بارد، ولا يفيد معنى الضرورة ولا الحياة ولا حتى الخصوبة. وإنما يدل على التعطيل والارتياب والشك. وفي بعض الحالات هو سراب أو مجرد إشارة للركود. بتعبير آخر إنها تستعمله لتعزز من إحساسها بواحد من اثنين.

1- البكاء والتأسي، وهذا في حالة المطر. كقولها:

يا قطرة مطر نزلت

على يباب الروح (ص 12/ امرأة من كرزوعسل).

وقولها:

أنا الفلاحة

القادمة من حقول الله

لروحي المغموسة بالبكاء المر

وفستاني المطر. (من قصيدة: هب لي إشارة).

2- ثم الشك واللاجدوى. وهذا الاستعمال مبتكر، ويضع الرمز عند حدوده الموضوعية، سواء لأن الماء بلا قوام أو لأنه يأخذ شكل سراب في الصحراء. وبهذه الطريقة تجدد ذكرى لعيبي في عنصر من عناصر الشعرية العربية. فإذا كان العرب يشبّهون المادة بصفات مادية كالليل وموج البحر، فلعيبي تشبه العاقل بصفات غير عاقلة. ويساعدها ذلك على تحويل الانتباه من المرئيات إلى مجال التخيل مثل: فيضان النهر الذي يدل على طيب المعشر واتساع الرؤية (ص68 من امرأة من كرز وعسل)، أو الثمار الجاهزة للقطاف التي تدل على سنوات العمر الآفل والاقتراب من الموت (ص 76/ المرجع السابق). ومثل هذا الوجدان، الذي يمكن تجريده أو تصويره، هو أحد خصائص أدب المرأة ولا سيما في بواكير عصر الحداثة. فقصائد الحداثة ذات ميول عدائية ضد الجميع: الذات المنفصلة عن نفسها. والغربة التي تجهض مشروعها الوطني. وأخيرا الوطن الذي يبدو أشبه بقانون بطريكي أوحاجز أمام ضرورات الحرية. لقد كانت أساليب الاحتجاج راديكالية عند شعراء الحداثة ومنهم تيسير سبول وتوفيق صايغ وخليل حاوي، بعكس أسلوب الأجيال الحالية التي قللت من تشرذم اللغة والتراكيب لحساب غليان العاطفة وارتفاع شحنتها، والفصل ما بين السلوك اليومي والحياة الذهنية. وتستطيع أن تجد بهذا السياق تركيبة عجيبة تضع أخلاق الطاعة الكلاسيكية جنبا إلى جنب مع تمرد الأفكار وتشوه مكونات النفس. حتى أصبح كل شاعر مضيفا لخيال غريب عنه. بمعنى أنه يعيش حياة مركبة من وجه (متمرد وساخط) وقناع (مهذب ومطيع). وبهذا السياق كانت ذكرى لعيبي تبتعد عن إلحاق الضرر بنفسها وغيرها وتنحو لتكون إنسانة تبريرية، تلقي اللوم على الآخرين. بمعنى أنها لا تتقاسم معهم ثمن الخطيئة، وإنما تتنصل من الذنوب، وتتهمهم. ولذلك تداخل لديها معنى الوطن والأسرة، وتحولت المرادفات من دافع إيجابي أو ليبيدو إلى دافع سلبي أو عصاب. وتسبب مثل هذا التحول بإحساس عام بالحرمان والهزيمة والفراغ أو العطب. وحلت محل الصور الغريبة (العجائب في شعر الملاحم الشعبية، والقوى الخفية في واقعية جنوب أمريكا) مواقف أليفة وإنما تحترق بنار الواقع.

ولكن ابتداء من مجموعتها الأخيرة، وهي (بوح في خاصرة الغياب)*** تبدأ ذكرى لعيبي بالتعبير عن استعدادها للتحول. بمعنى أنها لا تنظر باتجاه واحد، ولكن باتجاهين، وبنبرة مونولوجية لكنها أبعد ما تكون عن النواح ودون فلسفة النهايات الحزينة حصرا. و تكثر من استعمال تراكيب نصف يائسة أو نصف متفائلة مثل: درب أحلامي (ص15)، النور في حضرة الظلام (ص30 )، سيموت الموت (ص75)، وغير ذلك كثير. وتستعمل لهذه الغاية طريقتين.

الأولى في الأسلوب. وبها تتخلى عن كل بقايا بواكير الحداثة، وتضع حدا لقانون العروض من بحوروتفعيلة، وتستبدل قانون القصيدة بحساسية الفن الشعري. 

الثانية في المضمون. وتلح فيها عمدا على العتاب وليس الهجاء، وعلى استنهاض العاطفة وليس الهجوم، وأحيانا تترك الباب مواربا لشيء من التفاهمات. أو يمكن القول للصلح مع الذات. وإذا كانت مجموعاتها السابقة تشكل هجوما على قانون الأب (والابن والرجل والطاغية ضمنا)، فهي تبدو في هذه المجموعة مفتوحة ومستديرة على نفسها وغيرها. أو بتعبير آخر لديها إحتمالات وفرص، كقولها في خاتمة أول قصيدة من المجموعة:

بكى الوقت والقلب

بكت قصائد

مكسورة الجناح

متعبة أنا،

أيذوب عني هذا الصقيع؟ (ص17).

ولا يخفى على أحد الأهمية الرمزية لصورة ذوبان الجليد. فهي تدل على التحفز والاستعداد واستكمال الدورة الطبيعية أو النشور، ناهيك عن المعنى التاريخي لعبارة (ذوبان الجليد) في السياسة والأدب، والتي بشرت بنهاية الستالينية وبدايات ثاني عصور التنوير.

 

صالح الرزوق

..................

* امرأة من كرز وعسل. منشورات مركز الحضارة العربية. القاهرة. 2015.

** يمامة تتهجى النهار. منشورات مركز الحضارة العربية. القاهرة. 2010.

*** بوح في خاصرة الغياب. منشورات أمل الجديدة ومؤسسة المثقف العربي. دمشق. 2017.

 

في المثقف اليوم