قراءات نقدية

جيسلا ف ميوش.. شعر السرديات الكبرى

صالح الرزوقلا يوجد شاعر في بولونيا تخلو قصائده من آثار السرديات الكبرى لعصر الرومنسية الأول، والذي يمثله عميد الشعر البولوني آدم ميتسكيفيتش. ولا سيما بظروف حياته الدرامية. لقد مثل شعر ميتسكيفيتش الغضب الأعمى المبالغ به،. وكان ذلك نتيجة ثلاث منعطفات مرت بها حياته.

1- التآمر ضد النظام.

2- جنون زوجته.

3- فراره إلى اسطنبول ووفاته هناك بالكوليرا.

ويبدو لي أن جيسلاف ميوش هو الأقرب لهذه الملابسات، فقد كان الابن المدلل للنظام، قبل أن ينفصل عنه في باريس ثم يهاجر إلى أمريكا. ويغادر دائرة الثقافة السلوفينية ويدخل بمتاهة العقل الأنغلوساكسوني. ورافق ذلك مراجعة لأدواته الفنية التي كانت تدين أساسا بخلفياتها الأرستقراطية لتولستوي وانتقلت لأفكار رومنسية سوداء يغلب عليها الإنكار والتحفظ أو التزمت أحيانا. وأصبح كأنه نسخة مبيّضة من بودلير أو لوتريامون. والإشارة هنا لشكل قصيدته التي تتألف من سطور ومتواليات. لقد انتقلت سرياليته فجأة من إعادة إنتاج صور الواقع المجزأ بنتيجة الحرب العالمية إلى تصوف غامض تضيع فيه الذات بين تيارات غير محددة وغير مفهومة. بمعنى أن السريالية الإشتراكية أصبحت تصوفا نضاليا. وفي كلتا الحالتين كان ميوش يعكس اتجاه السهم في العلاقات. فهو يضع التجارب الخاصة أمام الهموم العامة. وأعتقد أنه يلح على هذه الفكرة. فمعاناة الذات هي الباب الطبيعي للكلام عن هموم المجتمع. ويمكن القول إن معاناة الأشخاص تأتي عنده قبل محنة الجماعة. وأن الوصول لنتيجة عامة ليست ممكنة دون الدخول من بوابة الأفراد وذاكرتهم وماضيهم. وهكذا رسم صورة مركبة لإنسان غامض وضائع في ملكوت أفكاره وأحاسيسه. ويمكن مقارنة تجربة ميوش بالنفري. فقصائده ابتهالات واعترافات موجهة لقوة غير محددة. وحتى أن آخر باقة من قصائد ميوش، والمنشورة في كتابه (الفضاء الثاني/ صدر عام 2004)، تحمل عناوين لاهوتية مباشرة مثل الملاك الحارس، مقالة في الثيولوجيا، الدين يأتينا. وفيها يعرب عن ألمه من دربه الشاق الذي يبدأ بالمعاناة مع الواقع وينتهي بطلب السعادة الكلية والسامية. ومن غريب المصادفات أنه خاطب ميتسكيفيتش في عدة مواضع وقال دون مواربة:

كنت دائما أحب ميتسكيفيتش، ولكن لا أعلم لماذا.

ثم أدركت أنه يكتب بالشفرة

وهذا هو قانون الشعر،

أن يحتفظ بمسافة بين ما نعرف وما نقول. ص 52.

إن شعرية ميوش تعتمد على أن يكون لكل فكرة صورة متخيلة، وهي على الأرجح، رمز لروح الإنسان المعذب والمقيد بسلاسل الضرورة والحاجة. وهذا ما دفعه في نهايات حياته لاختيار التصوف كحل للتعبير عن سريالية الروح والواقع الغريب. لكن سرياليته من النمط المعاكس للكسل و التبلد واختراع الألغاز. ويقول بهذا الاتجاه:

إنها لا تريد أن تقبل المعرفة الوحيدة

المتاحة لنا: أن الناس يخلقهم الناس،

 وأنهم معا، يصنعون شيئا هم يسمونه الحقيقة. ص 52.

ويقول لاحقا في قصيدة (أخيرا نحن في العصر الحاضر):

أشعر بالدفء بين الناس في الصلاة.

لأنهم مؤمنون، يساعدونني على اكتشاف طريقي للإيمان

بوجودهم، يا لهذه الكائنات غير المفهومة. ص 63.

وهكذا إنه يشترط على المعرفة شيئين اثنين: أن تكون لغزا يحرضنا على التفكير بطبيعتها الحقيقية. وأن تتعامل مع واقع ملموس وله حضور. وأعتقد أن المعرفة في شعرية ميوش خاصة ومكتسبة لكن الحقيقة عامة ومطلقة. ولا أجد أية غرابة في ذلك. لطالما اختار أدباء الحداثة تعريف ما هو غامض بإلهيات تستدل عليها بواسطة الحدس والتنبؤ. كما يفعل المتصوفة لحل مشكلتهم المزمنة مع الواقع. ومن هؤلاء المرحوم السوري محمد عمران الذي بدأ مع الطبيعة في (أناشيد على جدار جليدي) وانتهى بتراتيل تستعمل الأسطورة الدينية في (كتاب الملاجة) ثم في (قصيدة الطين). وقد أثر ذلك ، عند ميوش، حتى على شكل قصيدته التي تألفت من متن وهامش. وكان الهامش أحيانا يلتهم مساحة أكبر من حجم القصيدة كما فعل بقصيدته المتميزة (الحواريون). وهي قصيدة رؤية ومعرفة، وحافلة بالتعابير والمصطلحات اللاتينية. ولا نعرف حاليا بين الشعراء العرب من يتبع هذا الأسلوب غير الشاعر العراقي يحيى السماوي. وإن كانت الهوامش لديه مختصرة، ووظيفتها التوضيح والتفسير، مثل شرح مفردات عربية قديمة، أو التعريف بشخص غير مشهور. لكن هوامش ميوش هي وجه الورقة الثاني أو ” فضاؤه الآخر”. وأرى أن هذا الأسلوب يحول القصيدة إلى مرتبة “كتابة” أو “نص”. إن مجموعة “الفضاء الثاني” للشاعر كانت تكتبه، وتعتدي على حقائق حياته، وتضيف لها “كولاج” يظهر ما لا يضمر. وبلغة مباشرة: هي تجربة لتدوين السيرة الفنية في المتن، والسيرة الفكرية في الحواشي.

 وذلك بطريقة مبتكرة لتفجير شكل القصيدة المتعارف عليه وتحويله من خطاب مع الذات وإنشاد لسلطة مجهولة ومتعالية، إلى خطاب موجه لكتلة من الأفراد أو الموجودات. وهكذا أصبحت القصيدة استذكارية وحاملة. بمعنى أنها تفكر بالماضي لتحملنا إلى المستقبل. ويقول بهذا المعنى بلغة رمادية يصعب فهم مراميها:

طوال أمسيات عديدة في مكتبة السوربون،

انكببت على أطرحة دكتوراة

حول التصوف عند ميوش.

كاتبها أمريكي اسمه ستانلي غوز

بعد أن أنهى حياته الأكاديمية في باريس،

عاد إلى أمريكا وأصبح حدائقيا. ص 85. (قصيدة التلميذ).

هل كان ميوش يحاول أن يرثي نفسه أم حياته الذهنية. أم أنه بكل بساطة أن يرسم أفقا نهائيا لرحلة العقل البشري؟.. في كل الحالات كانت غاية الشاعر أن يتصالح مع نفسه باعتبار أنه لا يوجد أي فرق فعلي بين الذات والمبدأ، أو بين القصيدة والمعنى. ما الفرق بين دراسة المعاني وترتيب الزهور؟.. وفرض عليه ذلك أن يخون اللغة، وأن يرتكب بحقها تجاوزات. بتعبير آخر: لم يعد للكلمات نفس المعاني المتوقعة والقديمة، ولكن كانت تفاجئ نفسها.

وتبقى هناك فروق أساسية بين تجربة ميتسكيفيتش وميوش:

1- الأول يختار التعبير عن الواقع بلغة واقعية. بينما يفضل الثاني الكلام عن نشاط الذهن والمعرفة.

2- يبالغ ميتكسيفيتش بصور الجبروت والقوة والتعظيم، بينما يقترب ميوش مما هو يومي ومفهوم.

3 - ويضع ميتسكيفيتش اللامتناهي مع اللامحدود بمجال واحد (مثل سوبرمان نيتشة - وفي موقف سوداوي محكوم عليه بالخذلان والسقوط) في حين يلجأ ميوش للمطلق بشكل جموع غفيرة تلهمه الصبر والمعرفة.

4- ميتكسيفيتش يفكر بقلبه وعضلاته، بينما يميل ميوش للبحث عن المعرفة في أماكن تواجدها. والنتيجة أن الاثنين يؤكدان على ذاتية المعرفة وعدم موضوعيتها.

5- لا يوجد جانب معرفي مستقل عند ميسكيفيتش،أما المعرفة، عند ميوش، فهي حقيقة عامة تأتي بالاكتساب الشخصي.

6- البنية الأساسية للقصيدة عند ميتسكيفيتش خارجية، عرضة لتقلبات الطبيعة التي تحمل كل دلالات المزاج الشخصي (العاطفة المفكرة - المنتمية) بينما هي عند ميوش داخلية. يغلب عليها الجو الضبابي والعزلة والانطواء والتخيل.

 

د. صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم