قراءات نقدية

البلاغة وسوء الفهم

تفاعلا مع النقاش الذي أثارته أطروحة جامعية تقدم بها باحث مغربي لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع "بلاغة الخطاب السجالي عند عبد الإله بنكيران"، ارتأيت أن أقدم بعض التوضيحات المرتبطة بالبلاغة وتحليل الخطاب، أملا في المساهمة في رفع الحُجب الذهنية التي جعلت القول مطلوقا على عواهنه في هذه القضية، وستجعله مطلوقا في قضايا مماثلة أخرى من الــمُحتمل جدا الوقوف عليها في المستقبل.

ففي المقام الأول، لا يمكن حصر البلاغة في فهم ضيق يجعل منها صفة إيجابية للكلام البليغ فقط. فقد فهم الكثير من المتفاعلين مع القضية المذكورة أن الحديث عن البلاغة عند "فلان"، يعني أن هذا "الفلان" متمكن من فنون الكلام، وله دراية واسعة بالفصاحة وأساليب الاستمالة، وبالتالي سيكون كلامنا حوله تقريظا وتنويها بما يملكه من مهارات لغوية . فصحيح أن هذا الاستعمال يتردد أحيانا في كتب البلاغة حين يكون الحديث عن صفة الكلام البليغ، كأن يُقال: " إن فلانا بليغ، أو صاحب بلاغة "، غير أننا سنجانب الصواب إذا جعلنا هذا الفهم يطابق (أو يختزل) جميع استعمالاتنا لكلمة "البلاغة"، وحاكمنا به الباحثين في تحليل الخطاب الذي يستعملون "البلاغة " للإشارة بها إلى نظرية عريقة تبحث في وسائل الإقناع والتأثير (البلاغة العلم) وتُستثمر آلياتها بأفق تحليلي - إجرائي يروم تفسير فعالية الإقناع داخل الخطاب .

فما يجب الانتباه إليه، هو أن البلاغة أضحت تنشِّط، وبقوة، حقول تحليل الخطاب، وتُستعمل إجراءاتها التحليلية للبحث في بنية الخطابات المؤثرة . وهذه الواجهة التحليلية للبلاغة ليست وليدة اليوم، ففي أصولها اليونانية مع أرسطو كانت وظيفتها الأساس مساءلة الخطابات الإقناعية وتحديد آلياتها ووسائلها، وفي جزء واسع من التأليف البلاغي العربي القديم (مع الجاحظ وابن وهب الكاتب وحازم القرطاجني ...)، نجد ربطا واضحا بين البحث البلاغي وتفسير البناء الإقناعي للخطاب، وذلك عبر التنظير والتحليل والمقارنة بين أنواع الخطاب، وفي الفترة المعاصرة شهدت البلاغة طفرة نوعية في مجال التحليل الحجاجي، وأسهم باحثون كثيرون في تجديد مناهجها وإغنائها بالحقول المعرفية المجاورة، وفتحها على عالم الخطاب المؤثر بمختلف أنواعه (الإشهار – الخطاب السياسي – الخطاب الديني...) . وتبعا لهذه السياقات المعرفية، صار التحليل البلاغي للخطاب يمثل البديل العلمي للتحليل الإيديولوجي أو التحليل العاري عن الأسس العلمية .

فإذا اتضح أن البلاغة تعني ما ذكرنا في مجال تحليل الخطاب، يمكن لنا أن نميز بين هذا الفهم وبين أفهام أخرى لها، كالفهم الذي يعني بها الصفة الإيجابية للكلام (الجمال والفصاحة)، أو الفهم الذي يرى فيها وسيلة لتحليل النص الأدبي والكشف عن جماليته، أو الفهم الذي يحصرها في الوجوه الأسلوبية المدرسية المرتبة في الأبواب المعروفة: المعاني والبيان والبديع .

وإذ نعود إلى الأطروحة الجامعية المذكورة، ونحن لم نطلع إلا على عنوانها فقط، نتبيَّن (من خلال العنوان دائما) أن الباحث اختار أن يسائل بلاغيا، وبالفهم التحليلي المذكور (ومن داخل مجموعة بحثية علمية تهتم بتحليل الخطاب "وحدة البلاغة وتحليل الخطاب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان")، الخطاب السجالي – السياسي عند رئيس الحكومة المغربي السابق عبد الإله بنكيران . ولعلم جميع القراء، فإن هذه الشخصية السياسية المثيرة للجدل كانت تثير بخطاباتها الشفوية التي تُلقى باللغة العامية المغربية عادة الكثير من الجدل في الصحف والقنوات الإذاعية ووسائل التواصل الاجتماعي والشارع العام . بل إن بنكيران كان يستطيع حشد الآلاف من المتابعين والموالين له في خُطبه العمومية، ويستطيع أحيانا إقناع شريحة مهمة من المتابعين والهتمين بقرارات حكومته، وقبل كل هذا، استطاع بخطبه وتصريحاته وسجالاته مع خصومه، أن يغير المشهد الانتخابي في المغرب لصالح حزبه الإسلامي .

ولأن أمر خطابات الرجل بهذه الصورة المثيرة للجدل، فإنني أتصور أن الباحث اختار متنا مناسبا جدا لدراسة البنية الحجاجية للخطاب في المشهد السياسي المغربي . لأن البلاغة التحليلية بنت الحياة، وتتابع ما هو لافت للنظر ومؤثر في الفضاء العمومي . فما الفائدة في أن ندرس خطابا مغمورا وغير مؤثر ونجعله موضوعا لأطروحة جامعية؟ إن البلاغة، وبحسب التجربة الغربية الناجعة في هذا الميدان، تتابع ما هو مؤثر في الحياة والفضاء العام، وتعمل على كشف منطقه وقيمه .

وحين نقول إن الأمر يتعلق بالدراسة والتحليل، فذلك معناه أن هذا المتن سيكون هدفا للمساءلة العلمية، وبعيدا عن كل تجريح أو قذف أو تنقيص من الشأن . وإذا افترضنا أن البحث سيخلص إلى نتائج تقييمة لخطابات بنكيران، من قبيل أنه يغالط أو يستعمل النصوص الدينية بطريقة معيبة ومغرضة، فإن ذلك لن يكون منفصلا عن الاستدلال العلمي الصارم.

وبعد كل هذه التوضيحات، نصل إلى القول: إن اللغط الذي أُثير حول عنوان هذه الأطروحة الجامعية لم يقم على تفسير علمي واضح، بل انطلق من مقدمات خاطئة، من قبيل الفهم الخاطئ للبلاغة، والاعتقاد بأن التحليل البلاغي يتناول حصرا المتنون الأدبية وخُطب الشخصيات التي تحظى بالإجماع القومي.. والحق أن هذه المناسبة فرصة لفتح نقاش حقيقي حول تحليل الخطاب وسبل نشر ثقافته في أوساط المثقفين خاصة، حتى تزول الكثير من الأوهام المتكلسة في الأذهان، ويتناقص الكلام المتسرع في قضايا تخصصية دقيقة .

 

حسن الطويل

 

في المثقف اليوم