قراءات نقدية

ناجي ظاهر: أورهان باموق يكشف عن أسراره الروائية

يكشف الكاتب التركي البارز أورهان باموق، الحاصل على جائزة نوبل الادبية، في كتابه المؤثّر "الروائي الساذج والروائي الحسّاس"، عن أسرار كتابته الروائية معتمدًا على كتابات هامّة سبق وكتبها أصحابها عن أسرار الفنّ الروائي، أمثال م. فورستر، في كتابه عن "أركان الرواية"، أو "جوانب الرواية"، كما يرد في الترّجمة العربية للكتاب موضوع حديثنا. ويقدّم للقاري تجربته في الكتابة الروائية سابرًا أغوارها العميقة بحرفية ومهنية، متمكّنة وراقية.

يستمد باموق عنوان كتابه من مقالة هامة جدًا حول "الشاعر الساذج والشاعر الحساس"، كتبها الشاعر الالماني شيلر، واعتبرها الكاتب الروائي المتميّز توماس مان، أهم مقالة تمت كتابتها باللغة الالمانية. أما الروائي الساذج كما يتردّد أكثر من مرة في الكتاب، فهو، وفق تعريف باموق، ذاك الذي لا يشغل باله بالقضايا الفنّية في كتابة الرواية وقراءتها.. في حين أن الروائي الحسّاس على العكس من الروائي الساذج، إنه الروائي العاطفي المتأمّل الذي يولي أهمية خاصة للأساليب الروائية والطريقة التي يعمل بها عقل القاري. إجابة عن سؤال طالما وُجه إليه يقول باموق إنه روائي ساذج وحسّاس في الآن ذاته.

يضمّ الكتاب ست محاضرات ألقاها باموق في جامعة كامبردج عام 2009، يطرح فيها أهم القضايا المتلّعقة بالكتابة الروائية، كما تحدّث عنها روائيون مشهود لهم عالميًا وكما عايشها هو ذاتُه.

يفتتح باموق كتابه/ محاضراته، بالسؤال الصعب، كيف تعمل عقولنا عندما نقرأ رواية، ويجيب إن الروايات حياة ثانية.. مثل الاحلام التي تحدّث عنها الشاعر الفرنسي جيرار دي نرفال، ويضيف إن الروايات تكشف لنا الالوان والتعقيدات في حياتنا وهي مليئة بالناس، بالوجوه والاشياء التي نشعر أننا نعرفها من قبل، تمامًا كما يحدث في الاحلام.. عندما نقرأ الروايات نتأثر أحيانًا بقوة الطبيعة الخارقة للأشياء التي تصادفنا والتي تجعلنا ننسى أين نحن ونتصور أنفسنا وسط الاحداث الخيالية والشخصيات التي نشهدها.

خلافًا للعديد من الروائيين، يقول باموق إنه يخطّط لكتابة روايته ويستعد مطوّلًا للبدء في كتابته لها، ويتحدّث عن بطل روايته يقول: شخصية البطل الرئيسي في روايتي تحدَّد بنفس الطريقة التي تتشكّل بها شخصية الانسان في الحياة، مِن خلال الظروف والاحداث التي يعيشها. القصة أو الحَبكة هي خط يربط بشكل فعّال الظروف المختلفة التي أريد التحدث عنها. البطل هو شخص ما شكّلته الظروف وساعد هو على إظهارها بأسلوب حكائي.

يقول باموق إجابة عن سؤال مُفترض حول تميّز الرواية عن باقي أنواع السرد الطويل، إن السمة الرئيسية التي تميّز الرواية وتجعلها نوعًا أدبيًا له شعبية واسعة، هي الطريقة التي تقرأ بها الرواية. حقيقة رؤية كلّ هذه النقاط الصغيرة. هذه النهايات العصبية على طول الخط. عينا إحدى الشخصيات في القصة. عملية ربط هذه النقاط مع مشاعر وأحاسيس الابطال، سواء مَن كان يروي الاحداث هو الشخص الاول أو الثالث، سواء كان الروائي أو القاص، مدركًا أو غير مُدرك لهذه العلاقة، فإن القارئ يمتص كلَّ حدث في المشهد العامّ، وذلك بربطه مع مشاعر وعواطف البطل القريب من الاحداث. يقول باموك ويتابع، هذه هي إذن القاعدة الذهبية لفنّ الرواية، تنبع من البنية الداخلية للرواية عينها.. ويتحدّث باموق عن الزمن الروائي، يقول إنه ليس الزمن الخطي والمجرّد الذي عرّفه أرسطو، وإنما هو الزمن الشخصي للأبطال، ولا يبتعد باموق في كلامه هذا كثيرًا عمّا تحدث عنه بيرسي لوبوك في كتابه الخالد "صنعة الرواية"، عن وجهة النظر التي تُروى الرواية عبرها.

يتحدّث باموق عن ابتكار الروائي للبطل. يقول إن أهم ما على الروائي القيام به، كما يعتقد معظم الروائيين، هو ابتكار البطل!. إذا نجح في الوصول إليه، أي البطل، فسوف يتحوّل إلى ما يُشبه المُلقّن على خشبة المسرح، يهمس للروائي مسار الرواية بالكامل.. ويوضّح باموق مُضيفًا ان فورستر ذهب، في هذا السياق، بعيدًا جدًا عندما اقترح علينا، نحن الروائيين، أن نتعلّم من شخصيات الرواية ما يجب أن نقوله في الكتاب. هذا التصوّر لا يؤكد أهمية شخصية الانسان في حياتنا، مجرد أنها تظهر لنا. إن الكثير من الروائيين، يبدؤون بكتابة رواياتهم بدون أن يكونوا متأكّدين من قصتهم، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يستطيعون الكتابة بها. بالإضافة إلى ذلك يشير تصور فورستر إلى الجانب الاشد تحدّيًا في الكتابة، كذلك في القراءة: حقيقة أن الرواية هي نتاج المهارة والبراعة معًا، كلّما كانت الرواية طويلة يواجه الكاتب صعوبة في صياغة الاحداث.. يحتفظ بكلّ الاحداث في عقله. ويبتكر تصوّرًا عن محور الرواية بكلّ نجاح.

يشير باموق، في سياق مُقارب، إلى تعبير "المعادل الموضوعي" الذي عرّفه ت. إس. اليوت. بأنّه سلسلة من الاحداث التي تتوافق موضوعيًا مع تلك التي ستكون الصيغة.. الاستحضار التلقائي - مشاعر خاصة يبحث عنها المبدع ليعبّر عنها في قصيدة. رسم. رواية أو أي عمل فنّي آخر، قد نقول هذا في الرواية، المعادل الموضوعي هو صورة الزمن التي تكوّنت بالكلمات والتي نراها من خلال عيني البطل. ويقدم باموق مثالًا تطبيّقيًا لهذا من رواية "آنا كارنينا" للكاتب الروسي ليف تولستوي.. هذه الرواية التي يرها الأعظم في التاريخ الروائي. يقول.. لم يُخبرنا تولستوي عن مشاعر آنا كارنينا وهي تستقل قطار سانت بطرسبورغ، بدلًا من ذلك، رسم صورًا تساعدنا في فهم هذه المشاعر: ظهور الثلج من خلال النافذة على اليسار. النشاط في المقصورة. الطقس البارد. إلخ..، وصف تولستوي كيف أخرجت آنا الرواية من حقيبتها الحمراء، بيديها الصغيرتين، وكيف وضعت وسادة صغيرة في حجرتها، ثم استمر بوصف الناس في المقصورة، وهذا بالضّبط ما نفهمه، نحن القراء، وهو أن "آنا" لم تتمكّن من التركيز في الكتاب، لأنها رفعت رأسها من الصفحة ووجّهت اهتمامها إلى الناس في المقصورة، ومن خلال تحويل كلمات تولستوي ذهنيًا من أجل خلق صور نراها.. نصل إلى الشعور بمشاعرها.

يخصّص باموق فصلًا/ محاضرة كاملة في كتابه، للتحدّث عن محور الرواية، ويرى أنه هو الاهم في الكتابة الروائية مُقدّمًا الكاتب الروسي فيودور دستوفسكي في كتابته روايته "الشياطين"، أنموذجًا ومثالًا.. عندما اكتشف دستوفسكي محور روايته.. بادر لإعادة كتابتها مجدّدًا.. علمًا أن محور الرواية هو سرّها الكبير وأن تناوله/ يقصد محور الرواية، يختلف من كاتب لآخر. يوضح باموق.

***

قراءة: ناجي ظاهر

................

* الروائي الساذج والحساس. تأليف اورهان باموق. ترجمة ميادة خليل. الكتاب يضجّ ، للأسف، بالأخطاء اللغوية والنحوية. صدر عام 2015 عن منشورات الجمل في بغداد.

في المثقف اليوم