قراءات نقدية

جماليات التشكيل الزمكاني في رواية (بلدة في علبة) للروائي العراقي حامد فاضل (1)

مقدمة: الرّواية جِنسٌ أدبيّ حظّى بالقراءةِ والنقدِ، وتفوّق على الأجناسِ الأدبيةِ الأخرى مُنذ النّصفِ الثاني من القرنِ العِشرين، ذلك القرن الذي شهد ثورات عظيمة أسهمت في رسم المشهد الروائي، فأصبحت الرواية أكثر الكتب رواجًا وأقربها لروح القارئ، بينما كانت في الماضي وسيلة للتسلية، وإشباعًا سهلًا للعاطفة والمخيلة، ولسعة توزيعها تمثل اليوم من الناحية الاجتماعية أداة الاتصال الأدبي بين الجماهير المتفاوتة فيما بينها(1).

يشكل الروائي الراحل حامد فاضل(2) ظاهرة أدبية تستحق التأمل، إذ اجتمعت له خصائص شكلته روائيًا مجيدًا، وكاتبًا مرموقًا، منها قوة الوصف وجماليته، وأنسنة المكان، والخيال الخصب، والأسلوب المرموق، والنسيج الروائي المحكم الصنع، إضافة إلى أنه روائي شغلته قضايا وطنه، والتمسك بالمبادئ والأخلاق، والحفاظ على تأريخ مدينته والحضارات التي مرّت عليها، وتخليد ذكريات قرون مضت، عبر لغة شعرية ووصفية تأريخية سلسة، لذلك ارتأت الدراسة أنْ تختار الروائي حامد فاضل لتتوقف أمام عمل من أعماله الروائية (رواية بلدة في علبة)، مستقرئةً التشكيل الزمكاني للخطاب الروائي عنده؛ ولأجل ذلك قمت بتقسيم الدراسة إلى مبحثين، يقفوهما خاتمة تضمنت أهم نتائج الدراسة.

المبحث الأول: قراءة زمكانية في معمارية الرواية

المطلب الأول: جماليات التشكيل الزمكاني للعتبات النصية

المطلب الثاني: جماليات التشكيل الزمكاني للهيكل المعماري للرواية

المبحث الثاني: تحليل زمكانية العمل الروائي

المطلب الأول: زمكانية الأمكنة المغلقة

المطلب الثاني: زمكانية الأمكنة المفتوحة

تمهيد: مفهوم الزمكانية:

في الحقيقة إنَّ مصطلح الزمكان، وإنْ كان مركبًا مزجيًا منحوتًا من مصطلحي الزمان، والمكان(3)، فهو مصطلح غربي في الأساس، استعمله ميخائيل باختين(4) في مصطلح الكرونوتوب، في نطاق حديثه عن الأنساق القصصية في تطورها من العصر الإغريقي حتى العصور الحديثة، وقد وجد في مصطلح الكرونوتوب وسيلة يجمع فيها بين عنصرين قصصيين، هما: الكرونوس Cronos (الزمان)، والتوبوس Topos (المكان)(5).

وقد "نحته باختين عن وعي علمي، ودافع نقدي يبحث عن دفع الخلط، وتجاوز تقنيات الفكر التقليدي الذي يؤمن بمطلقية الزمن وانفصاله عن الفضاء/ المكان"(6).

إنَّ اصطلاح الزمكان يدل دلالة واضحة على "العلاقات الجوهرية المتبادلة بين الزمان والمكان المستوعبة في الأدب استيعابًا فنيًا"(7).

ويرى باختين أنَّ ما يحدث في الزمكان الفني هو اتحاد وانصهار علاقات الزمان والمكان في كل واحدٍ ندركه فنيًا، ويجعل للزمان والمكان أهمية جنسية جوهرية، إذ يوضح أنّ الجنس الأدبي وأنواعه يتم تحديدها من خلال الزمكان بالذات(8).

قارب باختين مفهوم الزمان من خلال ارتباطه بالمكان ولم ينظر إلى هذا الأخير بوصفه "طرفًا في علاقة ثنائية طرفها الآخر هو الزمان"(9)، فاستخدم مصطلح زمكانية ورآه أنسب للتعبير عن علاقة الترابط الوثيق بينهما.

إذن؛ نستنتج أنَّ باخيتن قصد من وراء هذا المصطلح أنه لا يمكن أن نفصل الزمان عن المكان، فهما شكل واحد، في بوتقة واحدة وفي رحاهما تدور باقي مكونات السرد الأخرى.

يقول عمر عاشور في كتابه البنية السردية: "الكرونوتوب هو مصطلح قصد به تواجد الزمن مخزنًا في المكان، وبما أنَّ للزمن صلات بالمكونات الأخرى للحكاية من حدث وشخصيات، فمن الضروري أنْ تكون لها هي الأخرى صلات بالمكان، وهي صلات يشتغل بعضها علنًا وبعضها يشتغل ضمنيًا، أي أنها علاقة بين عناصر حضورية وأخرى غيابية، كما يرى الناقد تودورف، وهذه العلاقات تتقاطع وتتفاعل بكيفيات معقدة لما يعطي الرواية بنيتها الشكلية والدلالية"(10).

ومن خلال ما سبق تعرف الزمكانية بأنَّها الوحدة الفنية للعمل الأدبي والرابط العضوي لجميع عناصر السرد.

زمكانية العنوان:

يحتل العنوان المركز الأول في أي عمل فني، فهو بمنزلة الثريا التي تحتل بعدًا مكانيًا عاليًا تعكس إشعاعها على النص، فهو مؤشر أولي مهم يستقطب داخله آفاق البنية الدلالية المركزية التي يقوم عليها البناء.

وعادةً ما يصبح العنوان رغم فقره اللُّغوي "مرجعًا بداخله العلاقة والرمز وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أنْ يثبت فيه مقصده برمته، أي أنَّه النواة المتحركة التي يخيط المؤلف عليها نسيج النص"(11)، فالعنوان هو المفتاح الأول من المفاتيح المهمة لقراءة الرواية، فهو نص ابتدائي ينشئه المؤلف، وهو خطاب منتج للنص يتبعه أو يسبقه.

لذا؛ فهو علامة سيميائية ترتبط بمضمون النص، وقد تحيل إلى الحدث الرئيس الذي يهيمن على الرواية، فهو بوابةٌ لاقتحام عالمه الداخلي.

يعكس العنوان حمولات دلالية مكثفة داخل بنية النص الروائي؛ كونه العلامة اللسانية الأولى التي يقاربها القارئ على سطح الغلاف، حيث تتشابك أمامه وتتداخل مختلف الدلالات السيميائية والرمزية المحيلة إلى عوالم لا تستقيم بالضرورة أمام القارئ التقليدي، بل تحتاج إلى قارئ نخبوي لا يمارس تقانات التأويل إلا وهو متمرس بخبايا النص وسياقاته. لهذا أصبحت دراسة العنوان ومقاربته لعبة ممنهجة ضمن كتلة النصوص الموازية، وضمن السياق الإنتاجي للرواية كسلعة تجارية.

وفيما يخص رواية بلدة في علبة، فقد جاء هذا العنوان في شكل مركب اسمي مكون من جزأين؛ الأول: بلدة، وجمعها بلدان، وهي الأرض المتسعة تستوطنها جماعة ما، لها مدن وقرى وحدود معينة.

والثاني: شبه الجملة الجار والمجرور (في علبة)، والعلبة هي وعاء من خشب أو ورق أو صفيح معدني يحفظ فيه الشيء.

وهو عنوان غائر في الإحالة الدلالية والرمزية؛ فالبلدة أولًا جاءت بصيغة النكرة، فأي بلدة يقصد الروائي، وما اسمها، أما كون البلدة في علبة، فهذا تأكيد على المعنى الأول (كون البلدة عنصر مجهول)، فضلًا عن أنَّ العلبة ذات حيز مكاني ضيق جدًا، مغلق على ذاته.

كما أنَّ العنوان يدل على الغياب الكبير لمعالم البلدة وأشكال العنف والضغينة، يشعر القارئ أنه أمام رواية مسكونة بالأسرار والخفايا المؤلمة التي حصرت وبقيت حبيسة مكانها، إذن نستنتج أنَّ ثمة شيء ما في العلبة يتعلق بالبلدة.

فعتبة النص الأولى هو عنوان تناقضي يفتح الباب بدايةً للتناقض كمدخل للقراءة، فكيف تكون بلدة بالحجم الكبير في علبة صغيرة ومغلقة، وهي غرابة سرعان ما تتبدد حينما نعرف أنَّ العلبة تحتوي على صور للمدينة وحاراتها وشوارعها وبيوتها ومدارسها ومقاهيها وأسواقها، ومن خلالها يرجع بنا الروائي إلى أحداث أو قصة كل صورة.

وبما أنَّ العنوان لا يمكن إدراكه إلا كوظيفة دالة فاعلة، تقوم بتوليد الدلالات الممكن تأويلها، حيث يستقطب داخله آفاق البنية الدلالية المركزية أو الأساسية التي يقوم عليها البناء الروائي كله(12)، فإنَّ العنوان (بلدة في علبة) يحمل على كتفه هموم وآلام سكان هذه البلدة التي قاست وعانت صنوفًا من أنواع العذاب والقهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ولمّا كانت الشخصيات في الرواية تعاني من الحصار والفقر والحرب في فضاء البلدة، فهي بالتالي مقيدة الحريات ومحاصرة من كل زاوية كزوايا العلبة، فعنوان الرواية يوحي بمضمونها.

ورغم طغيان المظهر المكاني المباشر على العنوان، إلا أنَّه يتضمن الزمن في سياق الدلالة نفسها بصفة مضمرة ومستترة، فالأحداث والشخصيات لا يمكنها أنْ تنمو وتتحرك إلا في إطارها الزمكاني، ثم إنَّ العلاقة الزمنية المضمرة للعنوان يمكن استجلاؤها بوضوح في زاوية أخرى، فالصور الموجودة في العلبة تحمل قصصًا من الزمان البعيد والحاضر لمدينة السماوة.

وهذا يفسر إسناد المفرد (بلدة) إلى شبه الجملة (في علبة)؛ ليبين أنَّ البلدة مغلقة على نفسها، تعاني من القهر والاستبداد.

إنَّ اختيار حامد فاضل لعنوان الرواية (بلدة في علبة) ليس عبثًا، إنما جاء نصًا مختزلًا ومختصرًا في الوقت ذاته مليئًا بالدلالات والمعاني، فعنوان الرواية دال يتوافق ويتظافر كثيرًا مع مدلول النص وما يحتويه من المعنى الداخلي.

إذن؛ فعنوان الرواية تربطه علاقة تكاملية بالنص الداخلي، فهو بمنزلة الدال الإشاري للنص، وحامد فاضل ربما حاول الربط بين الرواية وواقعه وكل ما يتصل به من مؤثرات، فأنتج هذه الرواية التي حاول من خلالها أنْ يصف عالم مدينة السماوة، ويصف عالم صحرائها وما فيه من أساطير وخرافات... والتبحر من خلال هذه الصور في التاريخ القديم والحضارات والفلسفات القديمة حتى استدعاء الأساطير وبعض الخرافات كالسلعوة(13)، وحكايا الجن(14).

والعنوان بنية صغرى، تؤلِّف مع محتوى الرواية وحدة متكاملة تسهم في إنتاج الدلالة، ولا يمكن أنْ تتحقق هذه الوظيفة بمعزل عن النص الروائي، وهذا ما نجده في متن الرواية في حديث الروائي عن بلدة السماوة التي اختزن ذكرياتها في علبة صور، كل صورة منها تحكي عن حادثة معينة، يتبادل فيها النقاش مع الشيخ النوراني الذي وجده في الغرفة.

وبعد هذا؛ فإنَّ العنوان هو الصورة المتكاملة التي يستحضرها القارئ أثناء التلقي والتفاعل مع جمالية النص الروائي.

من هنا يتضح؛ أنَّ العنوان (بلدة في علبة) اختزل في داخله زمكانية واضحة جدًا نراها من بداية الرواية حتى نهايتها، في العلبة التي تحمل صور المدينة وحاراتها وأناسها وحكاياتها، فكل صورة كنز من الحكايات التاريخية.

تذكرنا الرواية بالصندوق في رواية الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (موت سرير رقم 12)، فهو صندوق مفعم بالرموز، وهو علامة سيميائية، والعلبة في هذه الرواية (بلدة في علبة)، ذكرى ما لا تعيه الذاكرة من الزمن، والمحتويات هي عبارة عن صور باللونين الأبيض والأسود، وتم تلوينها عبر الخيال، وقد ورد ذكر الصندوق (العلبة) في أكثر من موضع في الرواية، وعلى أشكال عدة، وهي: صندوق جدي(15)، صندوق الطفولة(16)، صندوق قطار الموت(17).

زمكانية الإهداء:

في رواية بلدة في علبة، نجد أنَّ الإهداء جاء وجيزًا في كلمتين، ذكر فيها المهدى إليه، بقوله: "إلى السماوة"، وسرعان ما تبدد الغطاء عن اسم البلدة، وهي بلدة السماوة.

زمكانية الاستهلال أو التصدير النثري والشعري:

يعد الخطاب المقدماتي من أهم العتبات النصية التي يعتمدها الروائي المعاصر في رسم استراتيجيات النص والتصدير له عند المتلقي بوصفه القارئ المفعل للدلالات الوسيطة بينه وبين المعنى المضمر، الذي يحاول القبض عليه من خلال تلك اللواحق النصية الموجِه تارة والمتسلطة تارة أخرى، فالخطاب المقدماتي – في تقديري - لا يخرج عن دائرة التوجيه الفكري والأيديولوجي، إنَّه "خطاب موجه نحو النص والقارئ، قَصْد بناء أو تحديد نمط القراءة المتوخاة، وهذه الوظيفة التوجيهية جزء من استراتيجيات المقدِم في تحديد علاقة النص بالقارئ"(18).

يصدر الروائي روايته بهذا التصدير الشعري للشاعر رياض الغريب(19):

خاتمي ذو الحجر الأزرق

الذي ورثته عن أبي

ظل

طوال الطريق

إلى السوق

يحدثني

الحصار سينتهي

الأولاد سيكبرون

ماذا تبقي

لابنك إن بعتني

مَن يقول

هذا

ورثته عن أبي

هذا بقايا العائلة

جاء الروائي بهذه الأسطر الشعرية والتي كأنها رسالة من رياض الغريب إلى كل مواطن فَقَد أباه وورث منه شيئًا بأنْ يحافظ عليه، وهذا النص الشعري إشارة إلى العلبة الصندوق التي ورثها الابن عن أبيه، وبداخله كنز من كنوز مدينته الجميلة وذكرياتها.

زمكانية العناوين الداخلية:

تتألف الرواية من عشرين فصلًا، تحمل عناوين دالة، ترسم المنحى التسلسلي الذي اتخذته مأساة مدينة السماوة، ينفتح الفصل الأول على "نوافذ مظللة"، ثم "سليلة الوركاء"، "خيمة الحكايات"، "السمين والضعيف"، "مسلحة أليس"، "السماور"، "قلعة الهيس"، "دار السيِّد"، "البجعة والجمل"، "الجسر العتيق"، "الأرجوحة والمنبر"، "قطار الموت"، "قبلة سبارتاكوس"، "مقهى النقائض"، "النهر العليل"، الليرات العشر"، "الملك الشاب"، "عمامة سدارة"، "عقال طربوش سروال خوذة"، وينتهي بالفصل الأخير (20) "نوافذ مفتوحة".

افتتح الروائي حامد فاضل روايته بالفصل الأول المعنون بـ "نوافذ مظللة"، وأنهى روايته بـ "نوافذ مفتوحة"، مفتوحة على حياة تبشر بمستقبل واعد لا يقتطف وإنما يتوصل إليه على جسر من التعب، ففي نهاية كل نفق مظلم قبس من نور.

زمكانية الغلاف:

يعد الغلاف من ضمن العتبات الأولى التي يقف عليها القارئ، وتلفت انتباهه فيقف وقفة تمحيص.

وفيما يتعلق بتقسيم الصورة البصرية للغلاف، فقد قسّمت إلى قسمين؛ الأول: هو الجزء العلوي من الرواية، حيث فصل بين الجزء السفلي بخط برتقالي واسم الروائي فوقه بخط أبيض، وأخذ حيز ثلثي الغلاف، وتحته عنوان الرواية في الثلث الأخير، وقد كتب الخط بلون أصفر فاقع بحجم خط كبير، وله تفسير فلربما دلّ الخط على الحد الفاصل بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث للمدينة، وهو الجزء الأكبر من الغلاف.

الباب مغلق والكف المعصورة الخارجة من الحائط غير الموجود، وكأنها عصرت داخل الحائط، ولا شيء واضح خلف الباب، والحذاء أمام عتبة الباب، وكأنَّ رجلًا دخل وحاول الخروج ولكنه لم يستطع.

إنَّ الكف المحصورة على صفحة الغلاف داخل فضاء متعدد الألوان والأبعاد والدلالات يضع الخطاب الروائي في قلب عالم كله صراع ومواجهة وتحولات، حتى السماء المحيط بها يلازمها لون الغيوم السوداء الذي يبعث على الخوف والقلق والاضطراب، ولكن الأمل موجود بالومضة البيضاء في تحسن الحال قليلًا.

سواد الغلاف يوازي نوافذ مظللة، وانفتاح اللون بعد أنْ كان غامقًا في الغلاف الأخير يوازي نوافذ مفتوحة.

الغراب والصخرة وسيلان الحبر من كلمة (Allone)، والغراب ينظر باتجاه الباب التي كانت بالكتابة اللاتينية (الساعة السابعة إلا عشر دقائق)، أهو صباح أم مساء من هذه الغيوم الملبدة في الجو؛ لربما هو المساء ومظلم كلما أضاء البرق سلكت الطريق، وهو يدل على أنَّ ساعات النور قليلة في هذه الرواية وهي عبارة عن ومضات، حيث يدل على ذلك انطفاء الشمعة التي تقع تحت الساعة المحفورة في الصخرة، وكأنَّ قوة كبيرة دفعتها للانطفاء.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا وقع اختيار الكاتب على اليد اليسرى دون اليمنى؟

لا شكَّ أن اليسار كان يمثل طيلة العهود القديمة وحتى عهد قريب قيمًا سلبية في نظر الكثير من الديانات والثقافات. وقد أدت هذه التمثيلات دورًا مهمًا في تشكيل متخيل إنساني يقوم على مركزية اليمين وهامشية اليسار، لكن الحداثة التي قلبت موازين القوى السياسية والثقافية والأدبية والحضارية، أعادت الاعتبار لليسار الذي أضحى رمزًا للتحرر والتجديد والإبداع.

وعندما نقرأ الرواية نلاحظ فصلًا يحمل عنوان "قطار الموت"، ويتحدث فيه الكاتب عن المكيدة التي دبرت لليسار والشيوعيين لقتلهم، وربما هذا ما يفسر اختيار الكاتب لليد اليسرى.

الغلاف الأخير يحيى السماوي – وهو شاعر مغترب- ما كان ليغترب لولا ما حدث في وطنه، وصورة الروائي حامد فاضل وهو يتأمل شيئًا ما يوشي بأمل جديد بالانتظار.

دلالة الألوان:

تؤدي الألوان دورًا أساسيًا في التواصل بين الأفراد، ويبدو أنَّ دلالة الألوان لصيقة بالثقافة والحضارة، فلا توجد ثوابت عالمية في هذا المجال، إذ غالبًا ما تتحدد شيفرات الألوان بالانتماءات الثقافية والمرجعيات الحضارية والسياقات التاريخية، وما يهمنا هنا هو حقيقة الألوان الموظفة في الغلاف وعلاقتها بالمنظومة الثقافية العربية واستراتيجية الكتابة الروائية.

نلقي الآن نظرة على الألوان في واجهة الرواية، ودلالاتها الموحية في ظل هندسة حامد فاضل لفضائه الروائي، وما له من تعالقات مع غلاف الرواية.

نلاحظ بداية أنَّ حامد فاضل اختار لواجهة روايته "بلدة في علبة" اللون الأسود الممزوج بالرمادي والأبيض، ويجدر بنا أنْ نشير إلى أنَّ هذا اللون له وقع خاص في النفس، فهو يشير إلى الإحباط والخوف والذعر والحرمان والقهر.

وعندما اختار حامد الواجهة باللون الأسود، فإنه يسعى إلى رسم عالم يوحي بالحزن والتوتر والاستبداد، كما يشير إلى حالة شخصيات الرواية التي تتطلع إلى التحرر من الأزمات والنكبات، كما يرتبط الأسود بالحزن والوحدة، والإحساس بالوحشة لهذا كان اللون الأسود الأقرب لتجربة القهر والاستبداد.

إنَّ قيمة اللون لا تكمن في ذاته بوصفه كائنًا مستقلًا قائمًا بذاته، بمعزل عن الألوان الأخرى بل في تفاعله الكيميائي والدلالي مع الألوان الأخرى، إنه بمنزلة الكلمة التي تتعالق مع الكلمات الأخرى داخل نسيج متماسك ومترابط لإنتاج جمل ووحدات دلالية صغرى، تكون بمنزلة مرتكزات الخطابات والوحدات الكبرى.

لذلك؛ نرى أنَّ التقاء الرمادي الغامق بالأسود له مفعول سيكولوجي داخل الاقتصاد الكلي للبناء الدرامي، فإنْ كان هناك سبق للون الأسود فإنَّ المراد هو العذاب والحزن والذعر.

يأتي عنوان المؤلف بخط أبيض في الثلث الأخير من أسفل الصفحة، ويفصل بينه وبين عنوان الرواية خط برتقالي ثم اسم الرواية بلون أصفر فاقع كبير، وهو يحيل إلى العزلة والانفصال عن الآخرين، كما يعكس العنوان وضعيات الشخصيات المأزومة في الرواية، التي تعاني من المصاعب.

ثم تأتي كلمة (رواية) في يسار الغلاف باللون الأبيض في ثالث موقع لتضيف لبنة جديدة إلى معمارية الدلالة وتوجه الفعل القرائي إلى أفق جديد، فيتعدى بذلك كونه مجرد فضاء لوني إلى موضوع دلالي مشبع بالرمزية، ويأتي بعدها اسم دار النشر (سطور).

إنَّ الأشكال والرسومات والألوان المتفاعلة داخل فضاء الغلاف تمثل فسيفساء دلالية وجمالية تنهض بفعل إنجاز البرنامج الإبداعي الكلي على مستوى الدفق المبدئي والبرمجة المفتاحية، ولكي تكتمل الصورة وتتناغم المكونات مع بعضها البعض، لجأ الكاتب إلى خط اسمه (حامد فاضل) باللون الأبيض، وهو رمز للطهر والنقاء والصفاء، إنه شهادة الميلاد التي تعلن عن ميلاد أسطورة أدبية.

تلك هي بعض الأفكار التي أوحت بها دراسة الغلاف والعنوان من منطلقات تحليلية سيميائية زمكانية، وقد بيّنت الدراسة أنَّ مغامرة الكتابة الإبداعية النصية ما هي إلا نتاج وتكاثر النواة المجهرية التي يمثلها العنوان، والتي تختزل الطاقات الدلالية اللانهائية.

يستحق العنوان ولوحة الغلاف وقفة مطولة، بل هما جديران بدراسة موسّعة تثبت العلاقة الجدلية القوية بين الأحداث وبين العنوان، وما يتعلق به، ما يؤكد رؤية جيرار جينيت أنّ العنوان هو "النص الموازي"، وهو ما ينطبق فعلًا على لوحة الغلاف التي تأخذنا إلى أجواء الخوف والذعر والتغيرات السياسية والحروب والنزاع في تاريخ مدينة السماوة الحافل.

***

د. سحر ماهر احمد

........................

(1) ينظر: ماتز، تطور الرواية الحديثة، ص15.

(2) هو حامد فاضل حاشوش الغزي كاتب وروائي ومسرحي وصحفي عراقي, ولد في مدينة الرميثة بالعراق عام 1950، وحصل على بكالوريوس اللغة الإنجليزية وآدابها، وعمل في مجال التدريس, وعمل مراسلًا لجريدة «الزمان» من عام 2003 إلى عام 2005، ومراسلًا لجريدة «الأديب» الثقافية من عام 2004 إلى عام 2013، ومراسلًا لوكالة رويترز للأنباء من عام 2003 إلى عام 2008، وعمل مندوبًا لمعهد المرأة القيادية من عام 2004 إلى عام 2009، كما قام بإعداد الصفحة الثقافية لجريدة السماوة. رحل عن عمر يناهز الـ71 عامًا يوم الثلاثاء 15 يونيو 2021م.

(3) عبد الملك مرتاض. تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية "زقاق المدق"، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، (د.ط)، 1995م، ص227.

(4) ميخائيل باختين:)1895-1975م) فيلسوف ولغوي ومنظر أدبي روسي سوفييتي، ولد في مدينة أريول، درس فقه اللغة وتخرج عام 1918م، وعمل في سلك التعليم وأسس "حلقة باختين" النقدية عام 1921م.

(5) انظر: محمد القاضي وآخرون. معجم السرديات، دار محمد علي للنشر، تونس، ط1، 2010م، ص344؛ وأيضًا: فيصل الأحمر. المكان ودلالته في الرواية العربية الجزائرية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر، (د.ت)، ص227.

(6) شعيب حليفي. شعرية الرواية الفانتستيكية، ص182.

(7) ميخائيل باختين. أشكال الزمان والمكان في الرواية، ترجمة: يوسف الحلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، (د.ط)، 1990م، ص5.

(8) انظر: المرجع السابق، ص6.

(9) يمنى العيد. أضواء على الكرونوتوب والنسق الدلالي في نظرية باختين للرواية ضمن كتاب: في مفاهيم النقد وحركة الثقافة العربية، دار الفارابي، بيروت - لبنان، ط8، (د.ت)، ص65.

(10) عمر عاشور. البنية الزمنية والمكانية في موسم الهجرة إلى الشمال، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، (د.ط)، 2010م، ص31.

(11) ناصر يعقوب. اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية (1970-2000)، المؤسسة العربية للدراسات، لبنان، (د.ط)، 2004م، ص110.

(12) عثمان بدري. وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ: دراسة تطبيقية، ص50.

(13) حامد فاضل، بلدة في علبة، ص57.

(14) السابق، ص107-108.

(15) بلدة في علبة، حامد فاضل، ص246.

(16) السابق، ص87، 133، 264.

(17) السابق، ص96، 197.

(18) أحمد المنادي. النص الموازي: آفاق المعنى خارج النص، مجلة علامات في النقد، النادي الأدبي بجدة، ج(61)، مج(16)، 2007م، ص145.

(19) حامد فاضل، بلدة في علبة، ص6.

 

 

في المثقف اليوم