قراءات نقدية

زيارة أخيرة لبيت أم كلثوم.. جولة جديدة من "كتابة الحياة"

أعرف أن جملتي الافتتاحية تلك كررتها في مقال سابق، لكن تصديري لها ليست إلا تأكيدًا عليها، إذ يتضح لي –بشكل شخصي- صحتها كلما وقعت تحت يدي رواية جديدة أو مخطوط عمل روائي كتبه أحد الشعراء. وهنا أزيد تعريفًا هامًا لمن أقصد بالشعراء، إذ كان أسوأ ما أنتجه لنا عالمنا المعاصر ذلك الانزياح المفاهيمي لكل شيء، وصبغ الأدب بصيغ غريبة وعجيبة معًا، بعد أن حدث ما يُشبه الإنفجار الإبداعي كما يحلو لبعض الباحثين تسميته، وهو ما تؤكده إحصائيات النشر في مصر، والحقيقة أنه انفجارًا ليته ما حدث، فبين فنية وأخرى تجد مئات المطبوعات تصدر إليك كتابات لا ترتقي لتكون مخطوطًا حتى، أو مسودة أولى لكتاب أو عمل إبداعي. لا أريد الإطالة حول ذلك حتى لا أخرج من مقالي وما أريده، باختصار اختلط الحابل بالنابل في الكتابة والنشر معًا، وهذا شجن عظيم لو تعلمون.

جملتي الافتتاحية:

أعود لجملتي الافتتاحية، وأكرر أننا معشر الروائيين علينا أن ننتبه جيدًا حين يكتب الشعراء نصوصهم النثرية الطويلة، أو يقدمون لنا مخطوطات رواياتهم، إذ يبدو أنهم بلا مبالغة يخطون خطًا كتابيًا جديدًا من حيث اللغة والنموذج الكتابي النثري، والحقيقة –كباحث- هناك بعض الأسماء لكن أكتفي بنموذج واحد تأكيدًا على جملتي تلك، وكل هؤلاء الشعراء –بالأساس- والذين دخلوا الرواية وعالمها من بابٍ خاص جدًا، رأيته واحدًا من أفضل ما قدمه ذلك التحول الكتابي في مشروعاتهم الكتابية، هو باب "كتابة الحياة". نعم، "كتابة الحياة" ذلك المصطلح الذي لا أعرف لم لم ينتبه له المشروع النقدي المصري والعربي حتى الآن.

سأعترف بأنني أحد المتحمسين للمصطلح أدبيًا وأنثربولوجيًا، وأنني بنيت عليه في رسالتي العلمية، باعتباره شكلا من أشكال الكتابة الأدبية والأنثربولوجية التي سينفتح لها المجال أكثر وأكثر، وإن كان المقال هنا لا يتسع لشرح المفهوم والمصطلح "كتابة الحياة"، لكن أؤكد أن النص الذي بين يدي الآن هو نموذج واضح لتلك النوعية الكتابية الجديدة عالميًا، حتى وإن لم ينتبه لها النقد العربي، وفقط أشير بأنها كتابة ذاتية جدًا بالأساس لكنها ليست سيرة ذاتية لكاتبها، إذ هناك شعرة دقيقة وخط فاصل بين كتابة الحياة وبين السيرة الذاتية.

فاصل أدبي ماتع:

كنتُ بصدد اللمسات الأخيرة قبل مناقشتي العلمية لرسالتي حول التاريخ الحي للثورة المصرية وكتابة الحياة في تاريخ الربيع العربي، حين وصلتني رواية الشاعر المصري على عطا، رواية (زيارة أخيرة أم كلثوم) لتصبح فاصلا أدبيًا ماتعًا، والصادرة عن دار نشر المصرية اللبنانية نهايات العام 2019، والمُسوق لها في معرض القاهرة الدولي للكتاب يناير 2020.  وهي الرواية الثانية للشاعر والصحفي علي عطا، بعد روايته الأولى حافة الكوثر، وسبق لي أن تحدثت عنها، وقلت تلك الجملة الافتتاحية التي تحذر من قدوم الشعراء بقوة إلى عالم الرواية، وهو ما له أسباب أراها مختلفة كثيرة عما نظّر له البعض نقديًا عن أسباب ذلك التحول كما يُدعى، والذي لا أراه تحولاً قدر ما هو تطورًا وإضافة جديدًا إلى المنتج والمشروع الأدبي والإبداعي للشاعر الذي كتب الرواية كعلي عطا وغيره ممن ذكرتهم في مقالي حول رواية حافة الكوثر، ولا يتسع المقال لذكر أسباب ذلك.

وقفة هامة مع تصدير الرواية:

أعود إلى تلك الزيارة الأخيرة لبيت أم كلثوم، والتي جاءت –حسب المخطوط الذي وصلني بصيغة الـ(pdf) ، في 200 صفحة، ويبدو أنه  سيكون قطع متوسط حال النشر، ويبدأ المخطوط بتصدير هام في أوله في ص 5 عبر ثلاث جمل الأولة يمكن اعتبارها إهداءً، وهو أمر دارج لكن ما يوقنا فيه هو ذكر "أهل الكوثر"، وهم الرواية الأولى لعلي عطا، والتي نكتشف سر هذا الإهداء حين نقرأ وخلال القراءة. والجملة الثانية والثالثة هما لبُ ما أشير إليه، فالجملة الثانية لماركيز (من لا ذاكرة له فليصنع لنفسه ذاكرة) وتلك جملة تلخص في عبقرية "كتابة الحياة" ولماذا ظهرت، وكأن أحد اهم أسباب ظهورها هو حاجتنا الشخصية لكتابة تاريخنا الحقيقي كما نراه نحن لا كما يرويه الآخرون، وهو ما انتبه له علي عطا في روايته الأولى حافة الكوثر ويؤكد عليه في زيارة أخيرة لأم كلثوم، إذ يصنع لنفسه هذا التاريخ بتلك الكتابة الذاتية جدًا لكنها ليست السيراتية لحياة الكاتب، وهو ما نلاحظه في كل كتابات الحياة حين يمتزج الشخصي جدًا بالعام الواسع بشكل لافت. وأما الجملة الثالثة فهي للعلامة ابن خلدون، تقول (العربُ لا يحصلُ لهم المُلكُ إلا بصبغة دينية مِن نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم مِن الدين على الجُملة)، ولها من دلالاتها السياسية الكثير، ولست بصدد تحليل أسباب اختيارها هنا، لكن بعد القراءة نكتشف لما تصير جملة التصدير تلك لها دلالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية في زمن الرواية المحكي، والذي يكتب في فترة زمنية مصيرية في تاريخ مصر المعاصر، ربما سيتوقف التاريخ كثيرًا عندها بالشهادة والتحليل، وهذه الجملة لا يمكن أن ينتبه لها الكاتب إلا حين يمارس "كتابة الحياة"، التي تحول النص الإبداعي إلى نص أنثربولوجي وتاريخي، وتخرج به من دائرة التنظير الإبداعي إلى دائرة الحياة بكل تفاصيلها، وهو ما فعله علي عطا في روايته زيارة أخيرة لأم كلثوم، والتي تقدمًا قطعا تشريحيًا عريضًا للفترة الزمنية الشائكة.

نريدُ نقدًا لا ملخصًا للحكايات:

لا أعرف لماذا كلما قرأت نصًا مقاليًا حول الرواية العربية المعاصرة، أشعر بأنني أقرأ ملخصًا لأحداث الرواية، وقليلا ما أجد تحليلا نقديًا حقيقيًا للنص المكتوب، وهو منتشر بتلك الصيغة الحكواتية كثيرًا، بل يُدهشك لماذا يتم الاحتفاء بتلك القراءات التي تحمل عنوانًا نقديًا؟! ربما سبب ذلك شجن آخر يتعلق بحركة النقد في مصر والوطن العربي بشكل عام، ويتردد داخلك أملٌ يقول: "نريد نقدًا لا ملخصًا للحكايات"، لذلك لا أظن أنني سأقدم ملخصًا لرواية وحكاية زيارة أخيرة لعلي عطا، لكن سأشير إلى نقاط يمكن أن تكون ركيزة نقدية حقيقية للنص، دون الخوض في تفاصيل الحكاية، وإلا صرت أنهي عن فعل وأجيء بمثله.

يقدم علي عطا في زيارة أخيرة لأم كلثوم الكثير الذي يمكن تتبعه، وبالمناسبة هي الخالة للبطل وليست كوكب الشرق، وإن كانت الصدفة في البداية توقع في ذلك اللبس خاصة حين تعرف أن الأحداث تدور في المنصورة (الدقهلية) مسقط رأس أم كلثوم كوكب الشرق ومسقط رأس الكاتب. وفي رأيي أن هؤلاء الذين يتصدون لكتابة الحياة هم أولئك الذين يملكون التفاصيل الدقيقة، وصناعة متعة الحكي العام عبر التفاصيل الشخصية شديدة الذاتية، ويفعلون ذلك بسلاسة وسهولة، وهي سهولة في كل شيء في اللغة ونمط الحكي، وتسريب الأفكار والرؤى حول الحدث العام الذي يظل طوال العمل الأدبي ظلا واسعًا تحته تدور تلك التفاصيل الشخصية.

علي عطا وكتابة الحياة:

قدم علي عطا وهو الشاعر والصحفي المتمرس، نصًا يقول بأن "كتابة الحياة" ليست أمرًا هينًا، يمكن لأي شخص يمارس كتابة اليوميات أو السيرة الذاتية أن يكتبه، فللرواية لغة خاصة جدًا شديدة العذوبة –لكونه شاعر- وشديدة الحيوية لكونه صحفيًا، حين يختار بعينه الثالثة كروائي بعض المشاهد من تلك الفترة الزمنية ويقرر إعادة صياغتها عبر الحكاية الشخصية، وهنا يبدو ثمة التباسًا قد يحدث حول لغة النص، في ظني هذا الالتباس هو سر من أسرار تميز الرواية، وهو لغة علي عطا، والتي أكرر بأن بعضها بل كثيرًا منها جاء شاعريًا جدُا، ولك أن تكتشف ذلك حال القراءة دون تمثيل، لكنه يقدم لغة تحسبها للوهلة الأولى لغة الصحافة أو لغة المدونيين، لكن سرعان ما تكتشف أنها لغة "كتابة الحياة"، عبر تلك الخلطة اللغوية شديدة البساطة شدية الصعوبة متى أردت الكتابة عبرها، واللافت أن علي عطا ظل ممسكًا بخيطها طوال العمل منذ اللحظة الأولى عبر مشاهد كثيرة منذ قرر تلك الزيارة من القاهرة إلى بيت الخالة في المنصورة. الحقيقة أن علي عطا فعل ذلك باقتدار أيضًا في عمله الاول حافة الكوثر، واتفق أو اختلف على الحكاية داخل الروايتين –والمتصلتين بحبل واحد هو علي عطا نفسه- لكنهما نموذجان لكتابة الحياة باقتدار.

جاءت الأحداث عبر 69 مقطع مستخدمة الكثير من تقنيات السرد الروائي الطبيعية، ومعتمدة على تنوع الرواة خلال المقاطع تلك، فتجد مقاطع لنصوص الرسالة، او سرد أحلام، أو فلاش باك أو استرسال طولي ممتد على خط الحكاية، وكل ذلك مولفًا بتوليفة نفسية واضحة للبطل الذي يتولى زمام الحكي كثيرًا، ويتنازل أحيانًا للحدث نفسًا ليقفز بطلا وراويًا بديلا عن ذلك الراوي العليم الذي نتتبع رحلته وزيارته تلك ليعري الحدث التاريخي الاكبر عبر هذه التعرية النفسية والمصارحات التي يطرحها، لتأخذنا إلى سؤالها الأكبر حول الحدث العام، مرة بالطرح والسؤال المباشر ومرة أخرى بالإضاءة على الحدث، وعبر نسيج مركب من العلاقات الإنسانية التي تأثرت بالحدث الاعظم في مصر وقت الزمن المحكي للرواية، وهو ما فعله البطل بلا إزعاج، وبلا عثرات قرائية للمتلقي للنص، إذ أفلح علي عطا في توريطنا نحن ليس في حكايته الشخصية التي تبدو لوهلتها الأولى حكاية عادية جدًا رغم تفاصيلها الخاصة، لنكتشف أنه في حقيقة الأمر إنما يورطنا في الحكاية الأكبر في تلك الفترة الزمنية شديدة الارتباك في تاريخ مصر المعاصر.

لا أريد الإطالة ولا الوقوع في فخ حكاية النص وتلخيصه، لكن أود بشدة لفت الانتباه إلى ما فعله علي عطا في زيارته تلك، وويفعله معه قلة نادرة من كتابنا الآن، إذ يحولون نصوصهم الإبداعية من مجرد كونها نصًا أدبيًا إلى نص تاريخي، يمكن ان يصبح زاوية رؤية جديدة للحدث التاريخي، تلفت الانتباه إلى زاوية من زوايا الحدث ربما لا ينتبه لها المؤرخ التقليدي لكن حتمًا تهم وتلهم الباحث الأنثربولوجي والمؤرخ المعاصر الذي يرى في كل الحياة مادة للبحث والدراسة، ويعتمد كل المتاح من علوم إنسانية وفيزيائية وبيولوجية وغيرها لكتابة الحدث التاريخي.

زيارة أخيرة لأم كلثوم، نص تجاوز في زواياه مجرد النص الإبداعي الجيد المحكوم بقواعد النقد الأدبي، لتتسع قماشته كنص حقيقي لكتابة الحياة يمكن أن يلجأ إليه الباحث التاريخي المعاصر والانثربولوجي المهتم بتغيرات التفاصيل والقراءة الاجتماعية لمجتمع مثل المجتمع المصري بعد حدث عظيم مثل حدث الثورة المصرية في يناير 2011، وهو أمر ليس بالسهولة التي يظنها البعض حين يقررون الكتابة عن الحدث.

ستظل كتابة الحياة إطارًا حيويًا يسمح لمن يدرك كُنه التفاصيل والحياة والتاريخ في مجتمعه الخاص والعام، ولكل من يريد الفهم أكثر عن نفسه أو عن مجتمعه أو الأحداث الفارقة في تاريخ الأمم، ستظل هي النمط الأنسب لصوغ كل ذلك عبر نص متجاوز لحدود الأدب وحده وقافزًا إلى التاريخ والانثربولوجيا والاجتماع بامتياز.

 

د. مختار سعد شحاته

جامعة UNEB سالفادور/ البرازيل

 

في المثقف اليوم