قراءات نقدية

من الريادة حتى التأسيس.. الرواية العربية بين جيلين

صالح الرزوقتعتبر روايات الدكتور شكيب الجابري محاولة مبكرة مع الخيال الفني. فقد ابتكرت شخصيات متكاملة ذات أبعاد نفسية. وكانت مرشحة للصدام مع واقعها الغريب ومع عالم المستجدات. اختار الجابري أسلوب الرحلة العلمية ليبني عليها حبكته. وهي حكاية طالب علم يسافر إلى الغرب، وهناك يكتشف الدروب الخلفية للحضارة، ويبدأ بعملية التصنيف والفرز: بين ما لا يدركه وما يرغب به. ويمكن القول بكل بساطة إن مادة الحبكة هي التناحر المتواصل بين المعايير. ولنكون أكثر دقة بين إدراك الشخصيات لهذه المعايير بناء على موقفها من معنى الحضارة. ولكن لسوء الحظ مع أن الدكتور الجابري تحلى باليقظة الفنية الكافية لعزل الشخصيات عن صوته الداخلي، لم يتورع عن إسقاط إملاءات فرضها الضمير الشعبي العام على كل الشخصيات الوطنية، التي ارتبطت بعلاقة مع حكومات الاستقلال. ويمكن أن تقول بكل بساطة إن حدود تفكيره كانت تتراجع أمام عدة أنواع من الضغوط الشعبوية. وربما هذه هي ملحمة أبطاله بالأساس.. أن يتنكروا أمام أنفسهم بدعوى حراسة الأخلاق الحميدة، وأن يرفعوا جدرا شفافا بينهم وبين الجذور الاستعمارية لثقافتهم. فبطله إيفان كوزاروف، في “نهم / 1937 ” أولى رواياته، لم يفهم العلاقة بين المؤنث والمذكر بنفس طريقة الراهبة إيفلين. وكذلك بالنسبة لأبطال ثاني أعماله “قدر يلهو/1939”، كان لعلاء موقف مختلف من الأخلاق بالمقارنة مع إيلزا. بمعنى أنه لم يكن على دراية تامة بصراع الحضارات. بل كان مشغولا بإملاءات من ذاته التقليدية المتورمة. وهو ما يتناوله بكل وضوح في قصته المعروفة (هكذا سنقاتلكم في فلسطين). وفيها يلتقي عربي مع يهودي في ألمانيا، أثناء حفلة راقصة، ويدعوه للنزال أمام الحضور، غير أنه يترك النهاية مفتوحة، مثلما فعل في رواياته. فقد كان الشك والتأجيل هما أبرز صفات الحياة الدرامية لشخصياته، ولذلك أكثر من استعمال مفردات غامضة، وتحتمل أكثر من معنى، ويغلب عليها الحدس والتكهن، أو الإحساس والدهاء بلغته في رواية نهم ( ص 2 - 1) * . وهذه كلمات ظنية، وإن دلت على شيء، تدل على تحسس الشكل الفني الدرامي من مضمونه الرومنسي. فقد اكتفى الجابري بالاحتماء تحت مظلة الفضيلة والشرف الرفيع. بمعنى أن خطاب الشرف (الرمز الموضوعي لعصر الفروسية والنبالة) هو الذي تحكم بدوافع شخصياته المهاجرة. لقد كانت رواياته ميدانا للحرب بين متطلبات المعرفة وفروض الهوية، أو أنها نزال مباشر بين تجارب الذاكرة وتجارب الواقع. وبالنتيجة تطابقت عنده الذات مع الأرض، ودخلت في صندوق البدائل التي لا تقبل المقايضة. وهذا يتعارض مع فكرة لوكاتش الذي يرى أن الرواية هي تعبير فني عن إرادة الطبقة البورجوازية الصاعدة. مثلما يتعارض مع فكرة إدوارد سعيد أنها نتيجة الفراغ الاجتماعي الذي نشأ بسبب الغزو. فقد كانت أعمال شكيب الجابري، بمجملها، بحثا عن هوية مستمرة (أو عن معنى شمولي لا يقبل التغيير ويعمل من فوق الواقع الطبيعي). وهي بأفضل الأحوال هوية مقاومة لظروف الحضارة الجريحة. بمعنى أنها مقاومة لظروفها وليس لمغزاها. ويكفي أن رسالة روايته (نهم) هي بشكل أساسي عن تآكل الروح. وربما لهذا السبب فقط كانت الشخصيات حبلى بالمضمون النفسي، فقد كانت النفوس هي التي تتصارع. أما من ناحية البنية الفنية فقد كانت شخصياته مكشوفة، كأنها مكبر صوت ينقل ما يدور في ذهن الراوي من أفكار. وهكذا أخذ الرهان، بين الماضي والحاضر، شكلا معكوسا، وأصبح رهانا على إلغاء ذاكرة الاثنين. وأعتقد أن أحدا لم يسبق الجابري لهذه الميزة. فكل الأعمال التي مهدت له وسبقته عزفت على نغمة من لحن واحد (بمعنى أنها قدمت لنا صوتا واحدا له عدة أسماء). فهي إما أنها رهنت مستقبلها بالانقلاب على ماضيها، أو سقطت في فخ الحاضر، واضطرت للتعايش معه، وقدمت لنا رواية تتوسع أفقيا أو تتراكم ولا تتطور. ولنأخذ كمثال (تخليص الإبريز/ 1830) ثم (وقائع تليماك/1851) للطهطاوي. لقد اتخذ هذا الرائد التنويري موقفا عدائيا على وجه الإطلاق من الماضي، ورفضه جملة وتفصيلا على مستوى بنية العقل (الحضارة)، وعلى مستوى الفكر الاجتماعي (البنية). وأخيرا على مستوى التعبير الفني (البلاغة). وربما هو أول راديكالي في تاريخ الرواية العربية. وقد سمح له هذا الموقف بالابتعاد عن المساحة الروحية والاقتراب ما أمكن من المعاني الملموسة للروح. لقد فهم معنى الحياة بمنظور الاختلاف وليس التكرار (إذا استعرنا لغة دولوز). وتوجد محاولة مشابهة عند ابن حجر في نسخته عن (الإسراء والمعراج/ 1350)، هذا إن وافقنا جدلا أنها ببنيتها ووعيها نوع من أنواع السرد. فقد حملت رمزية الرحلة، أفقيا وعموديا، تصورات تعبيرية عن إرادة الإنسان في التغلب على تصوراته، ووضعت الخيال البشري أمام إمكانات لا محدودة، ونقلت مايمكن أن نفكر به إلى صور مادية. وساعد ذلك على تحويل المجاز العاطفي إلى كناية عاطفية أو معرفة. وكرر المعري هذه المحاولة في (رسالة الغفران/ تقريبا عام 1033) ثم الغزالي في (المنقذ من الضلال/ 1007). لقد وضعت مثل هذه الرحلات الوعي الفردي أمام حالة شك بالواقع، أو إنكار لصوره وظاهراته، ودعتنا لتنشيط موضعنا في العالم، والانتقال به من حالة نمطية لحالة تمايز نوعي، سواء عن طريق الإيمان (ابن حجر) أو الخلاص الذاتي (الغزالي) أو التوجس (المعري). وربما تدين بدايات الرواية العربية لهذا المنطق. فقد اهتمت بتمثيل الوعي لهوية المكان وليس بتطور الوعي المعرفي كما هو شائع، سواء في الرحلات الميتافيزيقية، أو في حبكة الروايات المبكرة وما جاء بعدها. وأعتقد أن ما شجع على ذلك جملة مفارقات.

الأولى فشل مشروع الواقعية الاشتراكية التي نظرت لمكان الخيال الفني وكأنه معادل لوجدان الشخصيات وعلاقاتها. الثانية تدويل الثقافة العالمة، وانحياز ثقافة الأضعف لثقافة الأقوى. وساعدت هذه الظاهرة على إنتاج موجات متحركة من الأفكار. وسرعان ما تحولت لشكل تيارات متواصلة. ومدفوعة بسياسة الأمر الواقع للهجرة من الموضع الخامل لموضع النشاط والإنتاج. بتعبير آخر كان الرواد من بين الرحالة أو من بين المهاجرين بعقولهم. ولم يبرأ ولو واحد منهم فقط من مشكلة المؤثرات الوافدة. المفارقة الثالثة هي خروج طبقة كبار الملاك من الحكم ودخول طبقة أبناء الريف المهاجرين إلى المدينة. فقد تشكل وفق هذه المنظومة رؤية سلبية لدكتاتورية الأرضن وحل محلها شعار تحرير الأرض من الاستعمار أو الاستغلال. والمفارقة الرابعة هي في علاقة الأمة بالدولة، والابتعاد التدريجي ولكن المفجع للطرفين بعد أن كانا بمعنى واحد. وفرض ذلك على الحبكة نوعا من الحركة الإجبارية أو الهجرة بالموضوع أو الهجرة بالذات. بتعبير أوضح إن استحالة إنجاز مشروع دولة الأمة أجل المشروع أو عاد به لحالة التردد والشكن أو أقله ألقى عليه ظلا من الإبهام والغموض. وما كان واضحا ومباشرا تحول لتمثيل رموزي أو لمجاز فني يخفي في طياته الواقع المتحول. وآخر مفارقة، وهي التي تصنع فرقا بين جيل الرواد وجيل التأسيس، أن الطرف الأول نظر للرواية على أنها جزء من المعنى. بينما الثاني نظر لها كطريقة تقودنا إلى هذا المعنى. بتعبير آخر كان الرواد يتكسبون برواياتهم الجزء الغائب من الرغبة. بينما عمل المؤسسون (وبالأخص الجابري) على إعادة تعريف ما لا يعرف، ولذلك تطورت رواياتهم من النظر من خلف الجدار العازل إلى الانغماس بكل جوانب الواقع. وهذا ما فرض على الجابري ما لم يفكر به الطهطاوي أصلا. أقصد الانتقائية في المعايير، ووضع شروط وكوابح للمعرفة، مثلا أن يشترط على الحرية الاقتران بالفضيلة.

لم يكن الطهطاوي (ومثله علي مبارك ومعروف الأرناؤوط) انتقائيين. فمصير الواقع يتحدد لديهم بأفراد وصور كاملة وبنفس الاستراتيجية التي اكتشف طريقها الخيال الإسلامي بواسطة الترميز أو فيضان الروح الكلية على الصور الجزئية. بينما انفرد جيل التأسيس (عند الجابري وتوفيق يوسف عواد وآخرين) بانتخاب ما يمكن للشخصيات الفنية (وكل منها على حدة) أن تقاوم به أسباب دمارها. بمعنى أنها كانت مهمومة بضرورة البقاء أو بإحياء الأفعال التي تسمح لها بتأدية وظائف التنمية والتطور.

 

...................

* المطبعة العلمية. حلب. 1937

 

في المثقف اليوم