قراءات نقدية

فن الكلام العادي في روايات جيمس كيلمان

صالح الرزوقبقلم: سكوت هايمس*

ترجمة: د. صالح الرزوق

حينما اكتشف باتريك "زوجا من الأبواق القديمة" في المشهد الافتتاحي من رواية "النفور"، تضاعف انتباهنا بطبيعة إدراكاته وعلاقاته الأولية.  أولا حرض وجود "ساكسوفونات إنكليزية من فترة غابرة" ذكريات بعيدة عن "رغبة سرية عند البطل" ليكون رساما. وتحول تصوير الأشياء المادية  لتكهنات عن إمكانية أن تكون فنانا. وهذا ما يبدو واضحا في تركيب واتجاه الحكاية. فقد بدأت الجملة كما يلي: “الأنابيب أشياء غريبة بنظر باتريك وتترك لديه انطباعات عجيبة". أما نصف الجملة الثاني فقد عدل النصف الأول، ولم نعد ننظر للأنبوبين كأنبوبين، ولكن كوسيط يحرك إدراك وخيال باتريك. و"الغرابة" هنا شيء يعود على باتريك، لا على الأنابيب. الأمر الذي يدفعنا للتكهن والتخمين حول حقيقية هذه الأنابيب – بتعبير آخر ما هي الغاية الفعلية منها. يمكن النظر إليها كشيء استعمله الكاتب بسياق إستاطيقي قبل أن يتحول لهوية فعلية "محددة" (كما في قوله: الأنابيب العادية التي يستعملها السباك أو الكهربائي). وحتى قبل أن يقرر شراء البوقين، وقبل أن يعنى بوصف تفاصيلهما المادية، يقوم باتريك بإجراء اختبار "في خلفية" مركز الفنون المحلي. وهكذا يحتل الأنبوبان موضعا وسياقا بين الأشياء "العادية" و"الاستاطيقية" منذ أول لحظة في النص. وتراوح هذه المعاني بمكانها طوال أحداث الرواية. وحينما يعود باتريك للظهور مع البوقين يجذب انتباه زملائه في العمل فيرفعون حواجبهم من الدهشة، ولا يجد شيئا للتوضيح غير أن يقول:”من الآن وصاعدا سيكونان معي في كل مكان"، ولا يوضح أو يحدد كيف.

كان البوقان لغزا  له احتمالات جمالية ويطبق باستمرار ضغطا تفرضه الأشياء العادية والعملية. وبتأمل مشروعه نصف الواعي، الهادف لـ "تحويل الأشياء المنتجة تجاريا إلى أدوات جمالية"، يعتقد باتريك أن "أي شخص يمكنه النظر للأنبوب بطريقته ويتمنى لحامله حظا طيبا". ووبتقديم الأنبوبين بشكل أدوات موسيقية وليس صناعية يخلق "مسافة" تفصله عن الواقع المادي، وهو ما يقود لخلق سوء تفاهم  وعدم ثقة،  أول الأمر، بين باتريك وبين (أدوات الخلاص والهروب). ولكنه بالتدريج، أثناء العزف والتجريب، يشعر بالتحرر من حالته الداخلية الخانقة. ويفتح الباب لوعيه الباطن للانطلاق والتعبير عن ذاته ويستخدم الطقوس الفنية للتصعيد، يقول: ادخل إلى أعماقك يا قذر. اعزف بهذا الملعون قبل أن يمر الوقت وينقضي. ولكن ما يجري أن باتريك يرفع الأنبوب لشفتيه ويغلق جفنيه، وينفخ بصوت عميق وطويل، صوت واحد وحسب، يضغط شفتيه، ويحكم إغلاق جفنيه، فتنبع الدموع فيهما من الزوايا، كما يحصل عندما تبلغ منتهى السعادة والتأثر، شيء ما ينبع ويسيل من داخله ويحرر كتفيه من الأحمال الثقيلة التي تضغط، ثم يخف التوتر الفظيع الفظيع جدا، ويتخلص من ذلك الشقاء، شقاء نفسه، من جلد ومعاقبة نفسه، من هناك فقط، من هناك، هناك، يتابع ويتابع، يمكن أن تقول لمسافة قريبة، ليس لامتناهية، لكنها مسافة..”. مثل هذه القدرة على تصعيد المساحة الجمالية – التعليق المؤقت لما هي الأشياء عليه -  يفسر أيضا علاقة الأنابيب بالحرية والاحتمالات والخلاص. كما في قوله: (“وأنت تنفخ بهذه الأنابيب كل شيء يكون ممكنا . كلا!.  بل يصبح احتمالا!”).

لو أن الأنابيب (يقصد البوقين) راوحت بين ما هو مؤكد وصدفة – ولنتذكر أن باتريك عانى في البداية من "طبيعتها" التي تزيد  أو تقلل من “إحساسنا بمعناها الحقيقي” - فإن المعنى الجمالي والممكن جعل “المعطى والمحدد” فوق أي تشابه وتكرار يمكن أن يقود لشلل المعنى. وتحقق ذلك بواسطة المبالغة المقصودة: تكرار النغمة لفترة طويلة حتى تتحول إلى صوت مسموع يلغي كل ما عداه. هذه المسافة المتعمدة (“كان أشبه بفضاء للتنفس، ما صدر عنه”)، تعلق الحقيقي المقصود بذاته من خلال الاستغراق في خصوصية حسية، وهو شرط مسبق في أعمال كيلمان ويمهد به لعدة احتمالات مفتوحة وغير مغلقة وبالتالي لتحقيق شيء من  الحرية. والتفكير بـ "شيئية" الأنابيب نفسها يشكل جزءا من هذا الوعي (كما في قوله:“ولكن ماذا عن الأنابيب؟. هل هي أشياء؟. هل الأنابيب أشياء؟")، وذلك بلغة تسبب تحريضا يشبه أثر لوحة رينيه ماغريت المسماة "خيانة الصور / 1928 - 29)"، حيث كتلة من الصور لأنابيب "عادية" يقابلها عبارة تقول: Ceci n’est pas une pipe (هذا ليس أنبوبا). وهنا لا تتطابق الكلمة والصورة و"الشيء". وهذه العبارة صحيحة حرفيا، باعتبار أن المومأ له  لوحة وليس أنبوبا حقيقيا، ولكن حسب بروتوكول التمثيل الصامت إن التعبير الفني يكون تجريبيا وغير حرفي. إن فضاء اللوحة تصوري  حتما. وهكذا هو الحال مع الكتابة. علينا أن لا ننسى أن النصوص مركبة من إشارات، ومختلف أشكال التأثيرات الواقعية في كتابات كيلمان (ومن ضمنها الصوت) هي من نتاج التحوير :”وعلى نقاد ومتابعي الفن أن يلتزموا بالحذر… فكل التقنيات تعتمد على الاستعارة".

هناك نوع آخر من المشاكل تفرضه على الفن القواعد الاجتماعية التي تعتمد على التعبير باللغة. ففي موضع آخر من رواية "النفور" يطرح كيلمان مشكلة الكلام الفني – وذلك بالإشارة لنص حديث من العشرينات. يقول: "أنا دويل النافخ بالبوق. أنا أنفخ. أنفخ مثل دويل لأحيي سيرته. وحكاية كافكا عن أنثى صغيرة وجميلة،وهي بالتحديد فأرة مطربة ومتكبرة، قصة مدهشة، مدهشة، مدهشة حقا، ولكن فلتحل علي اللعنة إن كنت أتذكر لماذا. لقد نسيت”.

وكلام كيلمان هنا عن قصة "يوسفينا المغنية" (1924)**، آخر قصة أكمل كافكا كتابتها. وفيها اتكال على الفن الشعبي الذي لا يختلف عن بنية الكلام العادي: فـ “النفخ" رمز يدل على مصادر وهويات متعددة، ولكنه تحديدا "أداء" أفراد طامحين لبلوغ الكمال الفني والتميز. ومن خلال سلسلة من التأملات الطويلة حول هذا الفن "ينسف الراوي في قصة كافكا كل ادعاءات يوسفينا بالتفوق ويشير لشيء تختلف به عن غيرها، وهو أن أداءها عادي جدا بل مبالغ بعاديته. وحين نكون بين الأصدقاء والأقارب نعترف بصراحة أن غناء يوسفينا ليس أكثر من العادي. ونتساءل: هل هو فعلا غناء أصلا؟… ألا يمكن أنه مجرد صراخ؟. والصراخ شيء نتقنه جميعا، وهو فن حقيقي نشترك به، وربما هو ليس فنا ولكنه مجرد دليل على أننا أحياء. كلنا نصرخ ونصفر، وليس بيننا من يحلم أن يقول عن صراخه إنه فن… وإذا جلست أمامها، لن تجد أنه صراخ فقط. ولتقدر فنها حق قدره من الضروري أن لا تكتفي بالاستماع لها، ولكن أيضا عليك أن تنظر إليها وتراها. وحتى لو أن صوتها هو صراخنا اليومة المعتاد، تبقى هناك قبل كل شيء هذه الفكرة الغريبة التي يجب أن تفكر بها، أنه هنا شخص  يحيي حفلة ويغني أغنية نعرف كيف نؤديها جميعا، فهي صراخ وصفير".

وتفترض سياسة تصوير هذه العقدة من الأفكار ـ أنه “إذا كانت يوسفينا هي المغنية المحبوبة في وطن الفئران، ألا يقلل من شأن تفردها هذا المكان الرمزي؟. فهي لا تبدو مغنية بقدر ما هي مظلة يلتئم شمل الجماعة تحتها... فهذا الصراخ، يرتفع كلما رغب الناس بالصمت، ولذلك هو أشبه برسالة من الشعب لكل شخص على حدة”. ولاحظ أن أساس هذه الرسالة اجتماعي وليس شخصيا. وهنا، لا مجال للتعبير بالمعنى الرومنسي - ولا يوجد مساحة يمكن للـ “صوت” فيها أن يكون ذاتيا أو له صبغة غريبة.

صقل الهوية الذاتية بلغة المجتمع تمنع كما يبدو كل أشكال الاغتراب. ويوسفينا خلال بحثها عن "اعتراف دائم" بفنها تهدد "باختصار تنوع السلم الموسيقي لألحانها". وهنا يقول السارد: بافتراض أنها طبقت تهديدها، لم ألاحظ أي تأثير له على الأداء". ويوسفينا "تنكر أي علاقة بين فنها والصراخ العادي"، ولكن قوتها الاجتماعية الغريبة تنبع بالضبط من فشلها الفني. يقول السارد أيضا:”إنها تؤثر بنا  وهو ما يحاول المغني المتمرن جهده أن يقوم به  ونجاحها يتأتى لها من اتباع أساليب مناسبة". وهذا الجو المغرق بالجماعية "أو النحن" لا يمكنه أن "ينتعش" أو يتطور وفق منظومة أسلوب إفرادي. و"مجتمعانيته" الشمولية لا تترك مجالا للتميز.

***

هذا تصور كابوسي عن الكلام الفني الأصل الذي له "جذور عميقة".  وهو ما يرفضه كيلمان. ففنه محاولة لاكتشاف عناصر السيادة والحرية في واقع محدد، ولا علاقة له بإنتاج هذين الشرطين موضوعيا. وفنيته تلح على الإخلاص للحقيقي – وفي بدايات رواية "النفور" يلوم باتريك نفسه "لأنه ركز جوهريا على أشياء ذات قيم أصيلة، أشياء أصيلة فعلا، ذات معنى مادي وحقيقي" – ولكنها لم تتورط بعالم حقيقي موجود بذاته. والتحدي، الذي لا يقوم به أي بطل من أبطال كيلمان، يتلخص بعدم الدخول فيما – يتطلب جهدا عاليا لتحويله،أن تخلق ظرفا مختلفا باحتمالات تنبع من داخل واقعه الحقيقي. إن العنصر الجديد فيما هو معروف وشائع، أو غرابة الشيء الحقيقي – هو العنصر الجمالي الذي بنى عليه كيلمان سياسته اللغوية وواقعيته. وما يبدو أنه حقيقي Verisimilitude – أو كما يتعمد كيلمان أن يكتبه بتهجئة مغلوطة " حاقيقي versailintude" – هو ثاني شيء غريب في عملية الكتابة الإبداعية، وعن ذلك يقول كيلمان:”كيف يمكن أن نقول إنه خطأ مع أنه جزء مني، ولماذا لا ننظر له كتعبير جديد جدا عن الإبداع".

 

.....................

**تم تدقيق الترجمة الإنكليزية بترجمة خالد البلتاجي من التشيكية للعربية. الأعمال الكاملة لكافكا. ج2.

*باحث اسكوتلاندي متخصص بعلاقة السياسة مع الأدب. أستاذ في جامعة سترلينغ. والترجمة من كتابه "دليل جامعة إدنبرة لعالم جيمس كيلمان".   

    

في المثقف اليوم