قراءات نقدية

دايستوبيا عربية.. "جزء مؤلم من حكاية" لأمير تاج السر

صالح الرزوقمع أن حبكة “جزء مؤلم من حكاية” للسوداني أمير تاج السر* تغطي فترة سابقة على أيلول / سبتمبر 1750 فهي ليست عملا تاريخيا، كما هو الحال في “توترات القبطي” و“مهر الصياح”. إنها لا تتناول ماضي السودان ولا حاضره، وتتابع أخبار ممالك وإمارات ليس لها وجود على الخريطة. ومهما بحثت عن أسماء الأماكن التي ذكرتها مثل طير وقير وبوادي لن تجد في المصنفات شيئا. ونفس الشيء بالنسبة لتاريخ الأحداث فهو ليس مفصليا بتاريخ السودان الوسيط، لا يحدد نهاية مرحلة ولا بداية مرحلة، ويمكن القول إن الرواية ليست سردا لذاكرة حقيقية، ولا إعادة تركيب وتأويل لها. وكل ما ورد هو من بنات مخيلة الكاتب.

ومع أنها تتابع سيرة شخص واحد لا ثاني له، هو القاتل المأجور (مرحلي)، فهي ليست رواية شخصيات لأننا لا نعلم شيئا عنه. لا خلفياته ولا خططه للمستقبل. ويبدو لنا شخصية جامدة، منتهية، لا تقبل الحذف أو الإضافة. وفي لحظات المكاشفة النادرة يؤكد بلسانه وعلانية أنه بلا صلة مع أحد. لا يعلم ما يكفي عن عائلته. ص 13. ويسمع أخبارهم من أشخاص يلتقي بهم بالصدفة في الشارع أو السوق. ص 13. إنه وعاء لأفكار يحملها معه، وهي مسقطة عليه من القدر ومن النموذج. بتعبير آخر هو نمط لشخصية لها دور ولكنه بلا وظيفة. ويوضح هذه الفكرة العقد الشرير الذي يعقده مع ديباج الفارسي. وهو يذكر بصفقة مفيستوفوليس مع الشيطان أو دوريان غراي مع إبليس. لقد احتكر هذا العقد أكبر مساحة من الأحداث، وما تبقى مجرد ضخ لمعلومات جانبية تضاعف من خوفنا و كآبتنا. ولو أن رامبو كتب رواية لن تكون مغرقة بالفظاعة والدموية والإجرام لهذه الدرجة. لقد كانت الرواية أشبه بإعادة كتابة لـ “فصل في الجحيم” لرامبو. وهي مثله تأخذ موقفا يشك بالأخلاق، بل يدينها، وتضع سلم المعايير تحت المصالح الأنانية للأفراد. وهناك أيضا تعمية على المقاييس، فالمفهومات (كل المشاعر وطريقة الإدراك) تتطور بظلمة داخلية تضيع معها الأسباب وتتركنا أمام احتمالات لامتناهية على مستوى النتائج (وهذا ما سوف يوضحه ديباج قائد وموجه مرحلي في تفسيره لطريقة عمل الميتافيزيقا أو استغلالنا لها). 

وإذا كان مجموع جرائم مرحلي يتجاوز 20 ضحية،  فإن أكثر ما يسجل لها هو أسلوب القتل وبشاعته. ثم طريقة حواره معها وهو نائم. في هذه الكوابيس لا يبدي لنا أي درجة من الندم بل المتعة والإصرار. كأنه يكرر وراء رامبو قوله: أيتها الساحرات، أيها البؤس، أيها البغض، أنتم كنزي. ص 17**. وقوله قبل ذلك: هذا ما كان دائما نصيبي.. فقدان الإيمان بالتاريخ و نسيان المبادئ. ص 32.

حتى أن مرحلي يبدو بالمقارنة مع رامبو أشد فتكا وفظاعة. فرامبو لا يؤمن بالدمار الشامل، ولديه قناعات إيمانية بمخرج ولو أنه متأخر. وبهذا المعنى يقول قرابة نهاية قصيدته: عند الشفق سندخل مسلحين، بصبر متقد، المدن البهية. ص 75.

بينما يختار تاج السر لبطله في خاتمة المطاف السقوط بالعبودية. ويتركه مقيدا ومشدودا لفراغ أسطوري كما قال. ص 311.

وبالنسبة لبقية الشخصيات، التي تظهر وتختفي بلمح البصر فهي من النوع المساند أو أنها داعمة بتعبير النقد الفني. وتلعب دور إضاءة لشخصية البطل. بالإضافة لديباج الذي يشترك في تدوير أو توسيع عالم الجريمة، حتى تتحول الحياة لمربع من الأخطاء والمكائد، هناك سلالمي الكذاب الذي يبيع الوهم على أنه حقيقة، ويزيف موضع الإنسان من نفسه ومن غيره ويشجعه ليس على ارتكاب المعاصي بل على تهديم المعايير. إنه نموذج عالم افتراضي ليس لدينا براهين عنه. أو ما يسميه تاج السر “الاستهتار المكشوف بالمخيلة” ص 125. وما يقول عنه فرويد تزوير الوعي الباطن. وإن لم يكن سلاملي صورة من صور إبليس فهو رمز للإنكار والخطيئة، أو بلغة المرحوم يوسف اليوسف: هو دليل آخر على القحط النفسي الذي أصابنا وما رافقه من مشاعر خمول وركود جعلت لون حياتنا رماديا أو أسود. وربما لم يلتفت أحد مثل يوسف اليوسف لرمز اللون في الأدب العربي منذ أيام المعلقات وحتى حداثة حيدر حيدر وزكريا تامر، وما بينهما من علاقة تشبه الدال والمدلول،  أو صورة رمز ومعنى ماهية. 

ومن هذه النقطة يمكن الدخول في عوالم “جزء مؤلم من حكاية”. إنها رواية أفكار، وتعمل على توسيع فكرتها عن القوة السالبة في المجتمع وليس الحضارة، وعن شبكة العلاقات بين النماذج وليس الواقع السياسي. وهنا  عناصر قوتها وبنفس الوقت عناصر تحولها. فهي علبة حكايات أو صندوق للحكايات، ما أن تفتحه حتى تتطاير منه الأخبار والحوادث. وإن كان لا بد من مقارنة يمكن ربط هذا الأسلوب بـ “الديكاميرون” أو “ألف ليلة وليلة”، حيث الحكاية الأساسية تتفرع لحكايات أصغر حتى نصل في النتيجة لعنقود من القصص (حسب تعبير زيد الشهيد في معرض دفاعه عن كتاباته). بتعبير آخر: يحكم منطق الرواية تناوب وتجاور الحكايات  دون أي التزام بالتعاقب.

ويبقى توضيح آخر.

إن “ألف ليلة”، وبقية هذه السير والملاحم، صناعة ذاكرة تحاول أن تقاوم النسيان. فهي تبذل جهدها لتبديل قدر الشخصيات، إن لم يكن بواسطة العصا السحرية سيكون بالإصرار، وهو مبدأ أنوثي وفرويدي يشير للتصعيد أو لتأثير الوقت بالغرائز.  وكما نعلم إن الشيخوخة تفل من عزم العقدة الأوديبية. وربما هذا ما راهنت عليه شهرزاد، وهي تقاوم إيديولوجيا التملك عند شهريار. لقد كانت تربط الحياة بالنور والموت بالظلام، وتعمل على تبديل موضعها منهما. بلغة أوضح: بدلت دورة المؤنث أمام دورة الطبيعة، ليكون التأنيث مجالا معرفيا ولتحتفظ الطبيعة بأصلها الغريزي والفطري.

أما في حالة أمير تاج السر لم تمر الحبكة بمثل هذا التحويل، ولم ينكسر أوديب. لقد انتصر الأب على ابنه، وأودى به موارد التهلكة. وكما قال ديباج (السيد)  لمرحلي (خادمه المطيع):  كنت أرتكب الأذى بيدك. أو كما قال أيضا:  كنت أنتظر ظهورك لتنوب عني بالأذى. بمعنى أنه لم يكن العقل المدبر بل نائبه. وإمعانا بالسادية والإهانة يعترف أنه قتل زوجته (الأم الأوديبية) كي لا ينتفع منها الابن. ويمكن أن تتصور مبلغ دناءته وغدره حين تنتبه لحقيقة فاجعة: أنه لا يكتفي بنفي الابن المولود حديثا ولا بقتله، بل يقتل أمه ليبطل مفعول الرؤية. ويوضح ذلك بقوله: لقد ماتت على يدي، وساعدني الوباء الذي كان منتشرا يومذاك. وينتهي هذا الاعتراف المؤلم بالسؤال العجيب التالي: هل أنا مجنون يا أخ؟. ص 317.

ولنضع خطا أحمر تحت عبارة يا أخ. إنه يشير بالضرورة لتقاليد الرواية العائلية وصراع الأخوة، أو بأقل تقدير لذاكرتنا الميتافيزيقية وجريمة قتل قابيل لأخيه الأصغر، وهي جريمة أثرية تدخل في أحفوريات تاريخ الجنس البشري. بوجيز العبارة كلل خاتمة “ألف ليلة” نهاية سعيدة، صالحت بها الطبيعة نفسها، بينما فشلت رواية تاج السر بذلك. فقد وضعت في الأسر ابن الشرير (وهو آخر لقب يحمله السفاح وسارق الأرواح مرحلي)، وتركت الشرير متربعا على عرش الظلام.

وإن انتهت رواية “إيبولا” لتاج السر نفسه بالوباء وهو يقهقه في الشوارع، يمكن أن تسمع صوت ديباج وهو يضحك في الظلام، ويحوك خيوط مؤامرة جديدة. وهذا يذكرنا فورا بضحكة فومانشو، الشرير الصيني الذي استغلته الحرب الباردة في الهجوم على حضارة المشرق.

ولكن مهما قلنا عن مشاكل رواية “جزء مؤلم من حكاية”: أن بعض شخصياتها تحتاج لمزيد من الوقت والإنضاج، أو مزيد من التفاصيل. وأن شخصية بطلها مرحلي تمثل إنسانا من بعد واحد، يتطور جزئيا ولا يستكمال دورة حياته الطبيعية، تبقى عملا رؤيويا. فهي تسير في ركاب دايستوبيا معاصرة على شاكلة “الطريق” لكورماك مكارثي  و“القصر” لكافكا. إنها تعمم الجزء وتضعه قبل الكل. وتفسر الواقع بضوء إدراكنا له ونحن في لحظة ضعف وسقوط. عموما إن الدايستوبيات الحديثة تختص بالمدن، ونادرا ما تجد رواية قيامة تكتب عن الحقول والجبال والطبيعة العذراء، كأن المدينة الشريرة جزء من مملكة الموت والخراب الأعظم. وتستطيع أن تذهب لما هو أبعد من ذلك وتقول: إن الطبيعة في الأدب رمز للجنة، بينما المدن والمعامل والمخيمات رمز للعذاب بنار جهنم. وأهم مثال هو أدب المخيمات الفلسطينية وسياسة الستار الحديدي (مثل: زامياتين في “نحن”، وسوروكين في “يوم من حياة أوبريشنيك”). لكن تاج السر بدأ سيرة الشخص الخبيث في “زحف النمل”، وطورها إلى سيرة المدينة الملعونة في “صائد اليرقات”، ليصل إلى سيرة تاريخية عن بشرية تغرق بالأخطاء والآثام وهو ما رمز له بصورة بوادي عاصمة مملكة طير في “جزء مؤلم”. ومثل هذه القفزات بالمعاني والأساليب، ولا شك، حولت الدايستوبيا من فلسفة عن مرحلة إلى فلسفة عن حقبة. ويعبر مرحلي عن ذلك خير تعبير حينما يصل إلى بوادي ويرى على وجه المدينة الخامل حقيقته: إنها زوايا مخصصة للموت، وعيون تترقرق الدموع في داخلها. ص 17. وكأنه يريد أن يقول: إن أي إنسان في هذه الدايستوبيا ضحية لجلاد... وأنه هنا لا مجال إلا للشر. ص 322.

وأعتقد أن الشر كان بطل عدد لا يستهان به من الروايات المعروفة. “سيد الذباب” لغولدنغ مثلا والتي تؤكد على أن الشر فطري وغير مكتسب. وأنه ناجم من مبدأ دارويني كلنا سمعنا به: وهو البقاء للأصلح. و”لعبة طفل” لدايفيد معلوف، وهي إعادة سرد للصراع الدرامي والمميت بين غريزة الحياة وغريزة الموت عند البشر وتأثير الواقع الاجتماعي عليه. غير أن ميزة “جزء مؤلم” أنها تقدم الفكرة مجردة دون ميلودراما، وتفرض عليها منطق العود الأبدي كما لو أنها تاريخنا غير المكتوب والذي يكرر نفسه بشكل دوائر لا متناهية. ويصور لنا أمير تاج السر ذلك من خلال نهاية مرحلي واستمرار ديباج بالنشاط. أو بواسطة ما تسميه الرواية في الفصل الأخير (ص 313)  نهاية “مهنة” وبقاء “رسالتها” على قيد الحياة .

 

د. صالح الرزوق

.................

* صدرت الرواية عن دار نوفل. بيروت.  2018 .

** ترجمة رمسيس يونان. و منشورات دار التنوير 1998.

 

في المثقف اليوم