قراءات نقدية

إطلالة على نص "أمطار لا تتوقف" لعادل بن رحمون

هيام الفرشيشيعادل بن رحمون هو أستاذ وباحث دكتوراه، ولديه دراسات علمية. وكتاباته هي شذرات من سيرة ذاتية تعبر عن تشكلات  حالات الوعي، يلبسها ثوب الراوي الذي يختزن ذكريات متشابكة وتفاصيل رهيفة تجعله يتقلب بين الحنين لماض سعيد (عالم الطفولة)، وبراءة الإحساس الوجودي بالزمن والأشياء و(عالم الشباب) وفوران الغضب إزاء الخيبات الاجتماعية والعاطفية..

ورغم هذه التقلبات والعواصف والاهتزازات فهو يغمس فتيل الماضي في الحاضر لينير شعلة يتلمس بها شعاب الاتي على يقينه بأنه يسير في طريق متشعب ويكابد رحلة القلق والتوجس.. فالسرد ليس مجرد إدراك حسي وتجارب الحواس  بل هو إدراك تصوري مرتبط بقدرة الذهن على الاستفادة من صور الذاكرة، ثم نلاحظ هذا الارتقاء بالوعي حيث يضع ثقل المواجهة عن طريق العقل إذ لم يعد العلم تمارين ومعادلات صعبة بل هو طريق نحو إثبات الذات في المجتمع. ومن هنا نستشف قصدية الذاكرة في كتابات عادل بن رحمون  عبر استرجاع الانفعالات والأحاسيس، وربط صور الحاضر بالماضي، وعبر المرتكزات الاجتماعية للتذكر وخاصة الأمكنة وملامح الشخصيات الراسخة. وتنبري الذاكرة ككتلة مشاعر  تحاكي لحنا حزينا، تتدفق كالأمواج التي تعلو كلما لامست عمق الذات وخاصة في لحظات التأمل والاسترخاء، فغالبا ما يبدو الراوي في وضع نفسي معين يعبر من خلاله عن حزنه.

فالراوي في قصة "أمطار لا تتوقف"  كان في القسم يتأمل المشهد الخارجي من بلور النافذة ليشاهد مشهدا متحركا ومألوفا:  حافلة صفراء بأبواب متهتكة تكاد تسقط المسافرين البسطاء المتشبثين بقضيب مترنح، فهو يحدق في مشاهد الذاكرة ويعيش حالات التذكر، فالحافلة هي الفضاء الذي تشكلت فيه الحكاية وانطلق منه الحدث حين  عادت به الذاكرة لأيام كان ينتظر فيها حبيبته في محطة الحافلات لكنها سافرت وتزوجت برجل مقتدر ماديا. فيضع القارئ أمام مشهد محطة الحافلات القديمة غير عابئة بالزمن، ما فتئت تشكل فضاء للصراع من أجل التشبث بالحياة رغم صعوبتها وارتباك سيرها، تاركة وراءها عجوز تنتظر  حافلة أخرى، ذلك أن المواجهة تعتمد على توقد الحركة والذهن، لهذا ينطلق من مشهد داخلي في القسم و يضع الراوي/ الأستاذ تلاميذه أمام معادلة صعبة، ويصور أجواء القسم الصاخبة، وتوعد الأستاذ تلاميذه بالعقاب إن لم يعملوا العقل، فهو يضعهم أمام الامتحان الصعب لأنه يدرك أن الاستمرارية للأقوي كركاب الحافلة، ثم ينتقل لمشهد خارجي كمرآة لما ينتظر بلورته داخل القسم، ولا يعود إلى الفضاء الداخلي الذي انطلق منه إلا بإعلان أحد التلاميذ (سامي) بحله للمعادلة.

فلعبة الداخل والخارج، والحاضر والماضي  من أجل تحديد صورة المستقبل عن طريق العلم، فهو يخرج الصور من الذاكرة ويعكسها في مرآة الحاضر في بحث عن التجاوز  رغم كل الهزائم ها هو ينتصر في صنع نجاح وإن كان صغيرا. قد يعترضه ذلك التلميذ يوما وهو إطار جيد في بلد باتت فيه فرص النجاح شحيحة على الفقراء.

ولو ربطنا هذا النص بشذرات سردية ينشرها عادل بن رحمون هنا وهناك ندرك أن التلميذ سامي هو صورة للراوي حين كان تلميذا، ورغم أنه يبرز نفسه في صورة الأستاذ الفظ الذي يتوعد تلاميذه بالعقاب إن لم يكفوا عن الضجيج ولم يحلوا المعادلات، إلا أنه ينقد ذاتيا صورة ذلك الطفل الصغير في ذاكرته " لن أطيق أن أبقى بين أربع جدران ورجل غاضب على الدوام يأمرنا" ويقصد الأستاذ. ففي ذاكرته خوف من عالم أبوي صارم يحثه على العمل والتفكير ورغبة في تطليق الدراسة والعودة إلى حضن الأم والبيت وما يبعث فيه السعادة "كم أنا سعيد بعودتي لحضن أمي، لبيتي، هناك في دوار بوربيع مهد طهر وصباي، سأخبر أمي بكل شيء، سأقول لها أني لا أرغب في الدراسة". عالم أمومي من الجمال كامن في عمق الذاكرة، متحرر من الحزن والخوف والقهر، عالم الحرية المطلقة: "وأجري لا ألوي على شيء سوى العودة لعصفوري حسونة". وحيث أمه الجميلة وخالته التي تأتي في العطل صيفا وهي لا تقل جمالا.

فالتذكر يرتبط  بمفارقة صورة الأب الرحيم والقاسي، فالأب وهو يسعل في ليالي البرد والابن الذي يغطيه جيدا يذكره بملامح المعلم القاسية الذي أودعه له أبوه في اليوم الأول للدراسة. ويقارن بين صورتين للأب، صورة الأب الرحيم الذي يحميه من العالم الخارجي، وصورة الأب التي تتميز بالغلظة إلا أنه يدرك أنها صورة مرغوبة فالعلم ليس سهلا...

 كما أنه يعي بأنه اخترق المشهد الخارجي بعدما كان ضبابيا ليتحول إلى مرآة تعكس ما يريد التعبير عنه وإفراغ شحنة الحزن التي كانت تلازمه أثناء التدريس: "أنفاسه ترتسم على بلور الشباك في شكل طبقة تحجب عنه المشهد في الخارج"، وفي موضع آخر "سيجارة في شفتيه، مستلقيا على فراشه، أفكار حزينة بعد منتصف الليل. موسيقى تعود إلى عهد التسعينات، يعود إلى فراشه البارد وتسرح به الذاكرة بعيدا". كتلة من الأنفاس تعبر عن دواخله: "حزن داخلي بل تمزق شنيع"، لكنه يلازم رحلة البحث وتحرير الذات: "ظل هو هنا يقارع الرياح ويواجهها بكفه الأعزل". فالحل هو علمي لا غيره، الإيمان بالعلم.

كما يضعنا القاص أمام مرتكزات مادية للتذكر وخاصة الأمكنة التي لها علاقة بالذاكرة، فهو يدرس الكيمياء في نفس القسم الذي درس فيه الرسم وهو تلميذ ويذكره بمقعده القديم وأصدقائه ومن له صلة معهم في الحاضر. ونكاد نجزم أن المؤلف يغذي نصوصه بشذرات من السيرة الذاتية حين يحدثنا عن الاختصاص الذي يدرسه، أو الأمكنة التي يعيش فيها في الحاضر.

ورغم جمالية الأمكنة الأمومية في الماضي إلا أنه يحدثنا في موضع آخر عن ماض مستلب حين يتحدث عن المكان الذي عاش به  الراوي ومازال. ثكنة عسكرية حذو الحنايا العظيمة الشاهدة على مجد روما التي استعمرتنا"،  حتى المنزل الذي تقيم فيه العائلة فقد كان على ملك المستعمر.chappi.

فالكتابة عند عادل بن رحمون هاجس وجودي تتأمل الماضي، وتنشط الذاكرة وتسترجع بعض تفاصيلها لتنسج غطاء يقيها من تقلبات الزمن.

 

هيام الفرشيشي

قاصة وناقدة – تونس

.......................

أمطار لا تتوقف

بقلم: عادل بن رحمون

أمطار لا تتوقّف..أنفاسه ترتسم على بلّور الشبّاك العتيق في شكل طبقة تحجب عنه المشهد بالخارج. تلاميذه في القسم يصرخون، ويهملون إنجاز التمرين الصعب. يدير وجهه المكفهّر مهدّدا اياهم بالعقاب. تهدأ موجة التمرّد. يعود لمواجهة البلّور. يرمق حركة الذاهبين والعائدين بلا هدف، من شبّاك القاعة المطل على الشارع الضاج بالحركة…

حافلة صفراء بأبواب متهتّكة تكاد تسقط المسافرين البسطاء المتشبّثين بقضيب مترنّح. عجوز لا تلحق بتلك الدابة الصفراء، كما لو فاتها العمر بكل فصوله.

يشعل السيجارة الأخيرة في العلبة.

 يتذكّر آخر حوار دار بينه وبينها كما لو أنه دار بينهما البارحة. كان نقطة النهاية لعلاقة كان الفقر كان كفيلا بإنهائها من غير رجعة. بدا يومها مكابرا رغم يقينه بحجم الدمار الذي سيلحق به حين اختار إمرأة ذكية وجميلة...وفي بلده يسمى هذا  انتحار بيّن لأن المرأة الذكية تخلق المشاكل.

عادت به الذاكرة لأيام كان ينتظرها بمحطّة الحافلة من أجل أن يراها فقط، لا ليحدّثها، أو يقبع حذوها في الحافلة المتراصّة. ينزل بعد نقطة هبوطه فقط حتى يشيّعها بعينيه وهي تصعد تلك الربوة الحادّة كي تصل لبيتهم. ويعود هو أدراجه سعيدا بصور مزدحمة في ذهنه، وجهها الملائكي، ضحكتها الساحرة وحتى غضبها الرائع.

تسافر به الذاكرة ليوم خطوبتها. يومها أحسّ بأنه لم يحافظ على معدن ثمين بات يمتلكه، أو ربما صروف الدهر جعلته يخسر الرهان ليتصدّع قلبه، ويصاب بوعكة باتت تمنع تسرّب أي شعاع حب لإمرأة أخرى.

تركته حبيبته. وسافرت هناك وراء البحار ليظل هو هنا، يدير معارك دونكيشوطيّة يدرك أنه سيخسرها حتما. سافرت هي للمال والجاه والبذخ والأضواء والراحة، وظل هو هنا يقارع الرياح ويواجهها بكفّه الأعزل...

ما يقوم به لن يخرج عن دائرة التصعيد.فكل الحروب كانت بسبب النساء، وستظلّ. ما الفائدة من جلد الذات اليوم.

لقد ضاع كل شيء ولا إمكانيّة لاسترجاعه.لن يعدم ذلك الماضي. سيحتفظ به بكل مرارته. سيتحدى الطبيعة التي لا تقبل الفراغ. فليكن قلبه مجرّد آلة لضخّ الدماء..

يقطع خلوته صوت تلميذه النجيب "سامي"، ويقول له: "لقد وجدتها سيّدي". يمضي لدكّة ذاك التلميذ. ويطّلع على عمله بعينيه المنتفختين من أثر السهر، من أثر الخمر، وخيالات الليل السرية. ترتسم على محيّاه إبتسامة. رغم كل الهزائم هاهو ينتصر في صنع نجاح، وإن كان صغيرا لينمو، وقد يعترضه ذلك التلميذ يوما ما وهو إطار  في بلد باتت فيه فرص النجاح شحيحة على المعوزين. يربّت على كتف تلميذه، ويقول له بصوته الأجشّ: "أحسنت إبني". ويعود للمصطبة بخطاه المتثاقلة. يجلس على الكرسي القديم منتظرا ناقوس المعهد. ينظر ناحية الشبّاك.  لا تزال تلك العجوز منتظرة للحافلة الأخرى التي قد لا تأتي. يضحك بشكل يجعل التلامذة يهمزون ويهمسون: "ما الذي يضحك أستاذنا المتجهّم"..

 

 

في المثقف اليوم