قراءات نقدية

ترنيمةٌ في محرابِ الجمال للشَّاعر: جميل حسين السَّاعدي

وليد العرفي إشراقة العنوان: ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ العنوانَ بمثابة الرأس من الجسد يمنح القامة سيمياءها وشخصيتها المائزة، ومن هنا يبدو عنوان قصيدة  (ترنيمة في محراب الجمال) ذا أبعاد واصفة مانحة القصيدة الجسد شكل تميز، وبتحليل بنية العنوان سنجد أن البنية اللغوية نهضت على التركيب الاسمي،وهو دليل الثبات والسكون، وهذا يعني صيرورة ساكنة لا متحولة سعى الشاعر إلى تأكيدها في هذا البناء اللغوي الاسمي، وبتحليل عناصر العنوان بلحظ أنه يتألف من خبر محذوف المبتدأ إذ تقدير الكلام هي ترنيمة، وعائدية الاضار هنا إنما هي القصيدة الجسد الكلي، وشبه جملة في محراب  والمضاف الجمال، وبإمعان الدلالة المعجمية نستنتج أن الشاعر حاول الجمع في ثيمة العنوان بعناصر باعثة على الانشراح والسعادة والقداسة، وهي ما دلت عليها دالات ترنيمة والترنم فعل صوتي دال على ترجيع الصوت والتفنن بأدائه لحسن فيه، وترنيمة قصد بها الشاعر أنها واحدة غير متكررة أي هي قصيدة مفردة منفردة، ومن ثمَّ يمنحها هالة من القداسة من خلال حيز مكاني يختاره إنه اسم المكان الدال على الطهر والنقاء والصفاء، وهو ما يطلق على مكان الإمام في المسجد لأداء الصلاة، وقد أضيف هذا المكان الجغرافي الى ما هو متصور ذهني مرتبط بثالوث القيم المطلقة المتمثلة بالخير والحق والجمال، وبهذا الاستشراف العنواني يمنح الشاعر جميل حسين  الساعدي صيدته جواز سفرها؛ لتعبر قلب المُتلقّي قبل أن يبدأ بقراءتها .

في المتن اللغوي

تبدأ القصيدة

بصيغة التعجب المنبعثة من تأكيد حقيقة أنذَ ساعات الصفاء والسعادة قليلة عابرة في زمن الإنسان يقول:

 مـا كــانَ أقصــرها سويعات  الصـــفا

                  فلتملأي كأس الهــــــــوى كي نرشفـا

ولتعـــــــزفي لحْـــــنَ اللقـــاءِ لعلّنـــي

                 أنســـى بــهِ ما كانَ مِنْ زمــنِ الجــفــا

وقتُ الهنــــا هوَ لحظـــــةٌ يــا ليتـــــهُ

                   قــدْ طـــالَ أوْ ليتَ الزمــــانَ توقّفـــا

فدعـي التحدّثَ عنْ زمــــانٍ قدْ مضى

                   لا توقظــــي جرحا ً قديما ً قد غفــــا

يلاحظ لقارىء أن الحقل الدلالي للألفاظ قد اكتنز بوال سويعات وما في هذا التصغير من عمق وكشف وإبانة عن قصر الوقت الذي لا يُحقّق للشاعر نيل مبتغاه من الفرح والهناءة، ولذلك تبدو حالة القلق منبعثة بالأسلوب الإنشائي الذي تنوّع بين صيغة الطلب بالفل الأمر: (املأي، اعزفي ) والتمني باستخدام الأداة: (ليت) التي جاءت محققة غايتها في بلوغ مرغوب مستحيل التحقق لحظة مطلبه، وأسلوب الرجاء بالأداة: (لعلَّ)

وينحى الشاعر من حالة الأمنيات، وتمنّي المرغوب إلى حالة الثبات القارّة بالصيغة الفردية التي تنظر إلى الذات، وتتغلغل فيها؛ لتكتشف أسرار الحياة وجمال الحياة: يقول:

أنـا شاعرٌ عشــــق َ الجمالَ وذاق خمـ

                    ـرتهُ فأسرفَ في الشرابِ وما اكتفى

غنّـــــــى معَ الأطيــارِ ألحــانَ الهوى

                     نسـَــــج َ الأزاهـــرَ مئزرا ً وتلفلفـــا

ثمة إمعان في الحالة الفردية التي تستبطن الذات وإمكاناتها التي تتراءى في محاولة رسم بعديها المادي والمعنوي؛ فالشاعر عاشق، يستلذ مذاق خمرة العشق الذي يبدو عشقاً صوفياً، لا عشقاً مادياً، وبهذه الإحالات يكشف الشاعر عن نزوعه الرومانسي المتشح بمثالية عالية؛ فنجد مفردات المتن تحتشد بحمولاتها الدالة من مثل: (عشق، خمرة، ألحان، الأطيار، الأزاهر، الهوى)

لينتقل في التفاتة أخرى إلى طبيعة الفن الذي يمتلك مهارته، والرسم الذي يتقن تلوين لوحته به، إنه الشعر الذي يعرف الشاعر كيف يشكّل منه لوحة مرسمه النابضة بالحياة:

الحســــــــنُ جسّــــــدهُ بشعــرٍ لوحــة  ً

                   سَحَـــــــرتْ فأمسى كلّ قلبٍ مُتحفــا

ومِــــنِ النجــومِ الزُهـْــرِ صاغ َ قلائداً

                    وحِلــــى ً لربّــاتِ الجمــالِ فأنصفــا

فــــــي معبــدِ الحبّ انزوى متبهــّـــلا ً

                   وأقـــــــامَ فــي محــرابهِ وتصوّفــــا

ويبدي الشاعر في الأبيات الأخيرة من القصيدة تأكيد أنه ناسك في محراب الحب، لا يخلف وعد اللقاء، ولا يتراجع عن لحظة مُمكنة لتقريب اللقيا

ويبدو شغف الشاعر بهذه اللحظة السانحة محاولاً القبض على كل دقائق الحالة وتفاصيل الموقف؛ فيتناوب أسلوبه بين  الخبر حيناً في قوله:

اليوم للعشــــــــاقِ يومُ لقـــــــــــائهِــم

                     قــدْ خــابَ منْ عنــهُ سهـا وتخلفـــا

وأسلوب الإنشاء بصيغة النداء في قوله:

يـــــــا مَنْ عشقتِ الزهْــرَ مثلَ فراشـةٍ

                   وشـــــدوتِ للحبّ النقـــــــيّ وللوفــا

إنْ غـابَ وجهـي عنكِ يومـا ً فانظـري

                   فـــي زهرة ٍ أو فـي جنــــاحٍ رفرفــا

وإذا لقيــتِ العندليــــــبَ بروضـــــــة ٍ

                   يشــــــدو بألحــــــانِ الهوى مُتلهّفـــا

رّدّي عليــــهِ ببعضِ شعــري علـّــــــهُ

                   يتذكّـــــــــرُ المتولّـــــــــهَ المتعففــــا

ويأتي أسلوب الشرط في المتوالات الإشارية نهاية القصيدة، اشتراطات الإيجاب بالطلب،  وتعلّق السبب بالنتيجة عبر:

غياب الوجه  ـــــــــــــ بالنظر،

لقيا العندليب ــــــــــــــــ الرد بالشعر

وكل هذا الارتباط، وذلك التعلق، إنما هدفه التعلّل بتذكذر المتوله المتعفّف، وهو الشاعر نفسه الذي يُنهي قصيدته بقوله:

فالكـــونُ قبل الخلقِ كــــــانَ قصيـــدة ً

                  كنّــــــــا بها لو تذكـــرينَ الأحــــرفا

وقد جاء بيت الختام في صيغتين اسمية الصدر، وفعلية في العجز؛ ليفيد دلالتين؛ فالصدر يفيد الثبات، وهو صدر توشّح الحكمة نمطاً تعبيرياً في الصيغة والبنية، وكأنّي بالشاعر يحاول الخطاب المعهود في الكتاب المقدّس: " في البدء كانت الكلمة "، فيما جاء العجز بالصيغة الفعلية، والزمن الماضي في إشارة إلى تأكيد حقيقة أزليَّة الحبّ،  وتعبير الشعر عنه بوصفه حالة إنسانية خالدة، ومُستمرّة ما بقي الإنسان في الوجود .

 

د. وليد العرفي

 

 

في المثقف اليوم