قراءات نقدية

النفور من تعلّم العربية الفصحى.. قراءة في الأسباب (1)

منتهى البدرانفي البدء أود الإشارة إلى أن هذا البحث بسبب ترامي أطرافه، وتشعبه سيكون على حلقات؛ ليشكّل سلسلةً لموضوعٍ أعدّه من أهم الموضوعات التي تستوجب تسليط الأضواء عليها، وإشباعها تحليلا وبحثا بموضوعية تامة بمنأى عن أي أصفاد فكرية تحيط بالموضوع، ومن منطلق مسؤوليتي من حيث تخصصي في مجال اللغة العربية الفصحى، التي ما زلتُ تلميذا متواضعا في مدارسها، وأراني أقف حسيرة في أروقتها عند بعض المواقف اللغوية إذ أجدني أستعطي الصحة اللغوية للساني ومدادي من بين ركام الخلافات النحوية، وتشعب الأحكام اللغوية، قررتُ أن ألقي بدلوي بين الدلاء علّني أترك بصمة نافعة تشعرني بالوفاء للغتي الغراء، مُحاوِلةً في هذه السلسلة البحثية الابتعاد عن التشعبات والتفرعات التي تنفّر القارئ، وكذلك تجنب المصطلحات المقعرة واستعراض ما صعب منها؛ حرصا منّي على أن يكون البحث سَلِسا مفهوما لدى المتلقين بمختلف مراتبهم ورتبهم.

توطئـــــة:

مما لا يختلف فيه اثنان أن اللغة وسيلة، ولكن وسيلة لأي شيء؟ سيكون الجواب في الأعم الأغلب إنها وسيلة للتواصل والتعبير عن الأفكار، وإنه لمن المجحف تحجيم دور اللغة وقَصْرِها على هاتين الوظيفتين. مما تجدر الإشارة إليه أن التواصل يتم عبر اللسان – كما يرى دي سوسير – فهو يعدّ اللسان أداة للتواصل بين الأفراد المنتمين للغة معينة، والتواصل عنده يكون بأدلة لغوية وغير لغوية، حيث أن الأولى من شأن اللسانيات، والثانية من اهتمامات السيمائيات، واللسان عند دي سوسير عبارة عن تواضع اجتماعي، أما اللغة فهي ملكة بشرية يشكّل اللسان جزءا منها، إذ لا وجود للغة من غير اللسان[1].

دور اللغة في حياة الأفراد

إن اللغة أكثر من أن تكون مجردَ وسيلةِ تعبيرٍ عن الأفكار "فمن خلال اللغة ندرك العالم، ويُحوّر الكون ويتطور، وتعمل آليات التفكير والذاكرة، ونتواصل فيما بيننا، ونشتغل وننتج، ونترجم تجاربنا ومشاعرنا"[2]، فاللغة وسيلةُ تواصلٍ ووسيلةُ نقلِ خبراتِ المجتمعات السالفة للأجيال، فلو أن الأجيال اغتربت عن لغتها، ونفرت منها، ولاذت للغة أسهل لتعلمها، فإن الحبل الممتد بين الماضي والحاضر سينقطع، فكيف ستفهم الأجيال ماضي أمتها؟ وكيف ستترجم أمجادها وإنجازاتهم؟ إن عدم الإقبال على اللغة الأم سيؤدي إلى اندثارها رويدا رويدا؛ لأنها بعد الاحتضار وإن طال سيكون الموت.

من التوهم الكبير الظن بأن "اللغة أمرا ثانويا في حياة الإنسان، أو مجرد أداة تواصل في مجتمعه، بل هي قوام فكره وخياله ووجدانه، وصيغة قيمه وعقائده"[3]، ونظرا لدور اللغة الثقافي الكبير فقد أشار عميد الأدب العربي طه حسين إلى أن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم هم ناقصوا الثقافة، فاللغة ترجمان الحضارات، وقد ذكر صامويل هنتغتون أن "الحضارات هي كيانات ثقافية وليست كيانات سياسية، أو هي الكيان الثقافي الأوسع الذي يضم الجماعات الثقافية مثل القبائل والجماعات العرقية والدينية والأمم"[4]؛ من هنا تتأتى ضرورة الوعي باللغة؛ لأنها "ذخائر المقولات وخزائن المفاهيم، بحيث يستحيل عليك أن تفكر تفكيرا مركبا ثريا بلغة ساذجة فقيرة"[5].

إن الوعي باللغة العربية من الأمور المهمة والهامة التي يجب أن يلتفت إليها الفرد العربي؛ لأن "الوعي باللغة واللغة نفسها وجهان متكاملان للوجود العربي، وللإنسان العربي...؛ لهذا كله فإن الصراع اللغوي يحتل المركز الأول في أتون الصراعات، حتى وإن بدا الصراع اقتصاديا أو سياسيا، أو دينيا أو اجتماعيا في شكله العام، فإن محور الصراع إنما ينطلق من اللغة، فهي ناقلة للثقافة وحاملة لروح الحضارة التي تعبر عنها هذه اللغة"[6].

في هذا الصراع اللغوي البقاء للأقوى لغة وفكرا وثقافة، فلا حضارة بدون ثقافة، ولا ثقافة بدون لغة، فإن ضعفت اللغة بضعف أهلها ضعفت حضارتهم وثقافتهم[7]، يقول الدكتور محمد محمد داوود[8] "ازدهار لغة ما دليل تماسك أهلها، ورفعة حضارتهم، كما أن ضعف لغة ما دليل على ضعف أهليها وتراجعهم، فاللغة بأهليها قوة وضعفا".

فائدة قوة اللغة

قبل أيام كنت أصغي إلى تقرير يعرض أقوى ثلاث لغات انتشارا في العالم، وكانت اللغة الإنجليزية تحتل الصدارة ومن ثم تأتي الفرنسية، والصينية التي تحتل المرتبة الثالثة، وفي سياق آخر استمعت إلى تقرير معهد انسيادAnsead  الفرنسي العالمي وجاء في ضمن تصنيفه لأقوى اللغات الترتيب الآنف الذكر نفسه الإنجليزية، ثم الفرنسية، ثم الصينية، وقد جاء في سياق التقرير سؤال: ما الذي يجعل اللغة قوية؟ وقد تلخصت الإجابة في النقاط الآتية:

قدرتها على الانتقال بين الشعوب.

إتاحتُها لمُتْقِنها جني الأموال.

قدرتها على فتح قنوات تواصل بين البشر.

حضورها في المعرفة، والثقافة، والإعلام.

وزنها في عالم الدبلوماسية.

يقول الدكتور محمد محمد داوود: "قوة اللغة من قوة أهلها"، بمعنى أنه يتوجب على أهل أي لغة بذل الجهود الحثيثة لجعلها لغة مرنة يسهل تداولها على متحدثيها، وكاتبيها، ومتعلميها.

ما تقدم يُفضي بنا إلى طرح تساؤل: ما أسباب صدارة اللغة الإنجليزية وعالميتها؟

بغض النظر عن دقة  هذا التصنيف للتقرير أعلاه، أو عدم دقته، دعونا نطلع على أسباب صدارة اللغة الإنجليزية كأسهل لغة في التعلم، إذ تعد اللغة الأسهل على الإطلاق مما يؤدي إلى تصنيف العربية هي الأصعب لو قيست بها، وكذلك تعد أوسع انتشارا في أنحاء العالم، وهذا كله بفضل جهود أهل هذه اللغة، فالأمر لا علاقة له بمؤامرةٍ، ولا يرتبط بقدسيةٍ أو وحيانية أو ما شابه.

إن اللغة الأنجلو-أميركية لم تأتِ بهذه القوة العالمية من فراغ، ولم تنشأ سهلة طيّعة كما هي اليوم، فقد مرت بمراحل من التغيير، والتطور، والتيسير؛ إذ كانت في أصل نشوئها صعبة لكنها نمت وتطورت وسمح أهلُها وحراسُها للدارسين بتطويرها، إذ تقبلوا مشاريع الإصلاح التي تصب في مصلحة اللغة ومتعلمها دون زجر، أو رفض قاطع، أي إن حراس هذه اللغة لم يقفوا بوجه أي انتفاضة على صعوبة اللغة بدعوى الحفاظ على أصالتها، لأنهم أدركوا أن الدوغمائية في هذا المجال ستؤدي إلى الصعوبة المؤدية إلى النفور من متعلميها، ونراهم نجحوا في الحفاظ على بقائها، و شيوعها، وعالميتها على الرغم من عدم اقترانها بأي قدسية سماوية.

لقد بُذلت جهود جبارة لتيسير هذه اللغة على متداوليها، ومن ثم الدأب على انتشارها بوساطة العمل الحثيث فضلا عن "الحركة المعجمية الكبيرة التي تخدم الإنجليزية بكل الأشكال والألوان؛ فهم يخططون بشكل جيد لهذه المعاجم في تأليفها وانتشارها"[9]، هذا من جانب تيسيرها، أما الجانب الآخر فيتمثل في النفقات الكبيرة، والميزانيات الضخمة التي تُخَصص لأجل تسهيل وصولها إلى أنحاء العالم بشكل سهل كالجامعات الأمريكية، والمعاهد البريطانية المنتشرة في كل مكان من العالم، ناهيك عن وكالات الإعلام البريطانية والأميركية وجهودها في تقديم الخدمات المجانية لتعلم هذه اللغة، مما أفضى بها إلى إقبال واسع، وجمهور عريض.

إذن من بين أسباب صدارة اللغة الأنجلو- أميركية:

كونها لغة سهلة، ميسرة، طيعة، متجددة، قابلة للتطور والنمو؛ لذا فهي لا تحتاج لكثيرِ جهد في تعلمها، ولا يحتاج المتعلم لتكوين عبارة نحوية سليمة إلى استحضار عدد من وجوه الإعراب، ولا يتوسل إلى ذاكرة حديدية تسعفه في تذكر خلافات المدارس النحوية ليؤلف عبارة تتماشى مع القياس، وعليه أن يحيط علما بالسماع، والشاذ، والضرورة، والفصيح والأفصح بحسب لهجة فلان وفلان وما شابه ذلك من المنفرات.

خَصصتْ تلك الدول ميزانيات ضخمة لتعلم لغتها مجانا للناطقين بها، ولغير الناطقين وذلك للحفاظ على مركز الصدارة، فلو أنك تصفحت البحوث الموجودة في شبكة النت والأنشطة في هذا المجال ستطلع على المؤسسات الضخمة التي تدعم لغتهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر أذكر نماذج في دعم اللغة منها الولايات المتحدة الأميركية تستعمل خمس هيآت لدعم لغتها وهي:

(DD- SD- Peace Groups - AID- USIA).

ولا نغفل جهود بريطانيا في الدعم اللغوي عبر الـ (BBC) هيئة الإذاعة البريطانية المدعومة ماليا من القطاع الحكومي الذي يخصص لها ميزانية سنوية ضخمة، وهذه الإذاعة لديها سلسلة برامج لتعلم اللغة عبر الإذاعة والتلفاز سابقا ولاحقا، وعبر المواقع الإلكترونية لاحقا، علاوة على ذلك نشاطات المعهد البريطاني من حيث طباعة الكتب ونشرها، وإقامة الندوات، والمؤتمرات، والمنح الدراسية المجانية الداعمة للغة.

يُعزي الدكتور محمد داود سبب سهولة اللغة الإنجليزية وصعوبة اللغة العربية "إلى مستعملي اللغة وليس إلى اللغة ذاتها فهو يقول إن العيب فينا وليس في فصحانا ولعل مسألة صعوبة العربية –في ذهن المتعلم- ناتجة من تصور أن اللغة العربية الفصحى هي النحو فقط، وهذا وَهَمٌ وخطأ أضر باللغة العربية، فاللغةُ أصوات وكلمات وتراكيب ودلالات".هذا الكلام مردود ولكن ليس محله الآن.

السؤال الذي أود طرحه ومن ثم الإجابة عليه هو:

ما الذي قدمه  العرب وحراس الضاد للعربية من حيث توسيع الإقبال عليها ومن حيث انتشارها؟

يتبع في الحلقة الثانية...

 

منتهى البدران - العراق

.......................   

(1) كي لا يطول الحديث عن  التمييز بين اللغة واللسان أدعو من رغب بالاستزادة مراجعة كتاب(محاضرات في اللسانيات العامة).

(2) اللغة والخطاب، عمر أوكان، 12.

(3) في التعريب والتغريب، محمد فوزي، 93.

(4) صراع الحضارات، 71.

(5) مغالطات لغوية الطريق الثالث إلى فصحى جديدة، د.عادل مصطفى،17.

(6) اللغة بين الثابت والمتغير دراسات نصية، أحمد عفيفي، 73.

(7) ينظر: المصدر نفسه،74.

(8) كاتب وداعية إسلامي مصري، استاذ علم اللغة بكلية الآداب جامعة قناة السويس، وخبير في مجمع اللغة العربية في القاهرة.

(9) اللغة بين الثابت والمتغير، 75.

 

 

 

في المثقف اليوم