قراءات نقدية

فلسفة الشعر؟!

صادق السامرائيتساءل ذات يوم من عام 1870 الشاعر الفرنسي (لوتر يامون) بقوله   "لقد عرفت أن هناك فلسفة وراء العلم، فهل هناك فلسفة وراء الشعر؟".

وقد يكون من الصعب والمستغرب في أيامنا أن نتساءل "ما هو الشعر"، وهل هو ذاته كما كان في الماضي أم أنه أصبح شيئا آخر، وما هي فلسفته ومبرراته المعاصرة.

فالشعر لا يمكنه أن يبقى مجرد تعبيرات عن العواطف والمشاعر البشرية في عالم مادي التوجهات والتفاعلات، بل عليه أن يكون نشاطا إبداعيا فكريا وعقليا متجددا لكي يعاصر.

وقد إستهلك الشعراء عبر العصور ما يتعلق بالتفاعلات البشرية والمشاعر والأحاسيس، وسطروا كل ما يمكن للخيال البشري أن يجود به في هذه الموضوعات، مما أدى إلى الإجترار وإعادة التصنيع.

وبعد أن إنتقلت البشرية إلى الثورة العلمية المعاصرة وبعدها ما أصبح للشعر دور - خصوصا في المجتمعات المتأخرة - لأنه بقي مقيدا بموضوعات تجاوزها الزمن وغادرتها حركة الأيام المتدفقة بالعطاءات العلمية، التي لامست دقائق الحياة الإنسانية وشكلتها وفقا لما تعطيه من إبداعات مادية تتمتع بها البشرية اليوم.

وأصبح من اللازم أن يكون للشعر أغراض وأدوار أخرى في عالم يفور بهذه الإنجازات العلمية المتلاحقة.

لقد تمكنت الفلسفة من الإنتقال الخلاق إلى مراحل مطلقة فأنجبت التفكير العلمي، الذي هو فلسفة معبرة عن أفكارها ومنطلقاتها بالمخترعات والإكتشافات، والقوانين الفيزيائية والكيميائية والرياضية، التي غيّرت الحياة وأسهمت بقوة وفاعلية في صناعة التطور الحضاري في الأرض.

ولا يمكننا أن نتخيل الحياة المعاصرة من غير المنجزات العلمية الكبيرة التي نتمتع بها.

وبما أن الشعر تعبير عن الحياة بجوانبها الذاتية والموضوعية، فأنه قد أصبح في حالة إمتزاج تام مع العلم وأضحى العلم فلسفة الشعر، ومنه ينطلق إلى آفاق بلا حدود تتسع مع الأيام، وتستوعب العطاءات والتنوعات الإيقاعية والفكرية والعاطفية.

وعندما يستند الشعر على العلم وينطلق منه،  يكون قد تفاعل بقوة وصدق مع الحياة وتجاوز الأفكار القديمة، وأنماط التفكير التي غادرها مركب البشرية المبحر بسرعة في نهر الوجود المتدفق، وعندها لا نجد موضعا للحديث عن القصيدة العمودية والتفعيلة والحرة والرقمية والتفاعلية والشعرية، وغيرها مما تجود به قريحة الوسوسة بالأشكال، التي لا يصغي لها أحد في عالم تسيّد فيه العلم وأمعن في صياغة حياته وفكره، وأوجد مهارات علمية وإبداعية فائقة.

إن إختناق الشعر في العالم المتأخر في آبار الزمن الظلماء وأسره في أغراضه المندثرة، هو الذي يدفع للكتابات المملة عن التقنيات والأشكال، ولا يساعده للخروج من هذا القيد الثقيل.

فما نكتبه يدور في حلقة مفرغة، ويستلهم بعضا من "قديم" العالم المتقدم، ويحاول ببطء أن يهضمه ويعبر عنه بأساليب لا ترقى إلى مستوى القصيدة "القديمة" في العالم المتقدم.

مما دفع إلى العديد من الكتابات المبهمة والغامضة في طرحها، لعدم قدرتها على تقديم الفكرة وتقريبها إلى النفوس والعقول، بل وبسبب عجزها تدثرت بالغموض والرمز المجرد من الدلالات المعرفية.

ويبدو أن الشعر المعاصر عبارة عن  بحث علمي أداته الفكر المتوقد بالمشاعر والأحاسيس المتفاعلة مع القلب النابض للحياة.

فالشاعر صار يتخصص في موضوع يعشقه ويجتهد فيه بكل طاقاته الإبداعية، للوصول إلى جوهره وبهذا يقدم شيئا مفيدا للمعرفة الإنسانية.

فما عاد الشعر مثلما كان ونحن في هذا العصر الجديد المشحون بالثورات والتطورات العلمية، التي فتحت آفاقا متعددة للفكر والخيال، وأصبحت المعرفة العلمية متفاعلة مع مفردات وجودنا الأرضي.

ولهذا فأن عزل الشعر عن العلم ما أصبح ممكنا، بل أن عليه لكي يتواصل ويتطور أن يتفاعل بكل طاقاته معه، ويوظفه في تعبيراته المتنوعة.

ويبدو أن ذات الفلسفة التي تكمن وراء العلم هي التي تقف وراء الشعر، فلا يمكننا أن نفصل فلسفة العلم عن الشعر، لأنهما يعبران عن الحياة ويحققان تطورها وتفاعلاتها المتجددة.

ففلسفة الشعر هي الحياة التي حققها العلم بإنجازاته الخلاقة، وبهذا يكون الإرتباط بينهما عضويا وتاما.

أن التلاحم ما بين العلم والشعر صار ضروريا وحتميا من أجل أن يكون الشعر معاصرا، أو متوافقا في إيقاعاته مع خطوات العصر.

وفي هذا يكمن الفرق بين قصائد العالم المتقدم والعالم المتأخر.

فشعراء العالم المتقدم أصبحوا متخصصين في موضوعاتهم التي يكتبون عنها، فكل واحد منهم قد إهتم بظاهرة أو فكرة وراح يكتب عنها ويسطر أفكاره، وما يتوارد إلى خياله من صور وتجليات معرفية وبحثية عنها.

فترى القصيدة وكأنها أفكار مكدسة ومنظومة بدقة متناهية، تظهر قوة وقدرة المبدع على هضم موضوعه وتحويله إلى مقاطع شعرية تحرك الفكر والمشاعر وتضيف شيئا مهما للقارئ.

 

فقصيدة العالم المتقدم ليست إيقاعات وتفاعلات عاطفية وإنفعالية على الورق وحسب، أنها أفكار متدفقة تعالج ظاهرة أو موضوعا يهتم به الشاعر، ويجاهد للتخصص به والتميّز في الكتابة عنه.

فترى شاعرا يهتم بالظواهر الفلكية وآخر بالتفاعلات البشرية، وغيره بالموضوعات النفسية والأمراض، وهناك من يهتم بالهندسة أو بالحرب، ومنهم من يكتب شعرا في الفيزياء والكيمياء، بل وحتى في الرياضيات وما يتعلق بالحاسوب، وغير ذلك من الموضوعات العلمية، التي تجلب الإهتمام وتستدعي التخصص والمعرفة الواسعة بها، والتعبير عن ذلك في القصائد المعاصرة الجديدة.

قصائد العالم المتقدم تتحدث عن تفاعلات الإنسان مع المستجدات وكيف سيكون عليه المستقبل، وهي تحاول بكل طاقات مبدعيها أن توظف العلم بمفرداته وتطوراته المتنوعة، لكي تبني قصيدة اليوم المفكرة والمحفزة على التفكير والإبداع الجديد، فهي قصيدة حية ومتطورة وتتسابق مع المعطيات العلمية على جميع الأصعدة.

وبرغم وسائل الاتصال الحديثة والمعرفة الفورية لما يحصل في العالم من حولنا، يبدو أن العالم المتأخر لا يمكنه أن يواكب بسهولة، لأن التقدم بحاجة إلى إستعداد نفسي وفكري وعاطفي وتنمية إقتصادية وإجتماعية شاملة، تحرر أبناء المجتمعات المتأخرة من القيود التي تكبل حرية الرؤية والتبصر والنظر.

ولهذا فأن المجتمعات المتأخرة ستبقى متأخرة والمجتمعات والمتقدمة ستمضي في تقدمها، وبهذا فأن المسافة الزمنية والنفسية والفكرية والعاطفية ستكبر، وستتسبب في مزيدٍ من الإرتباك والتشويش وعدم القدرة على الهضم والإستيعاب لتراكم المواد الجديدة، وعدم مواكبة الإنسان المتأخر بكل كيانه لمقتضيات الإرتقاء إليها، وإستخدامها في صياغة تفكيره وبناء رأيه وتحقيق عطاءاته.

العالم المتقدم يتحرك بسرعة فائقة، والعالم المتأخر لا زال يتحدث عن موضوعات قد تجاوزتها حركة الحياة ،  فتراه يتحدث عن ظواهر حصلت قبل عقودٍ أو قرونٍ عديدة، وأصبحت في أرشيف ذاكرة العالم المتقدم الذي يعيش ظواهر أخرى وثورات معرفية لاحقة ومتجددة.

إن هذا الخطو السلحفاتي خلف عالم يسير بأسرع ما يمكن أن يكون عليه المسير الأرضي، يدفع بالعالم المتأخر إلى الإنكماش والرجوع إلى أبعد ما يمكن الرجوع إليه من الزمن الذي يحاول التماهي معه، لكي يوفر لنفسه شعورا بالأمان والقدرة على المحافظة على تماسك الأعماق والبقاء والتواصل النوعي.

ونرى ذلك بوضوح على مستويات المعرفة والنشاطات المتنوعة الأخرى، في الحياة القائمة في العالم المتأخر العاجزعن اللحاق بالآخر، الذي ينتج وهو يستهلك ويستهلك حتى يتعب وينهار ويندثر، لأن الإستهلاك إندثار والإنتاج إنتصار.

ووفقا لهذا فأن الشعر سيبقى متأخرا في قدراته التعبيرية عن شعر العالم المتقدم، ولا يمكن فهم الطرح القائم في العالم المتقدم في عالم متأخر، ويكون للزمن دور ثقيل ومتعب في هذا الشأن البشري المعقد التفاصيل.

لكن الشعر يمكنه أن يكون قائد الحياة في العالم المتأخر، إذا إستطاع أن يهضم التطورات ويصنع منها قصائد تتفاعل مع المجتمع، وتنتقل به بخطوات أسرع إلى حيث يحاول اللحاق بالعالم المتقدم، أو يمكنه أن يخرج المجتمع من التباطؤ في المسير ويضخ فيه طاقة الإصرار والتوثب إلى أمام، وبهذا يكون الشعر قد قدم شيئا مهما ومفيدا للمعرفة والمجتمع، وساهم في تحقيق الخطوات المناسبة في حركة الحياة.

وأخيرا، فما عادت أغراض الشعر من مديح وفخر ورثاء وهجاء وغزل وغيرها ذات قيمة معاصرة لأنها لا تقدم ما يفيد، وبات على الشعراء أن يكتشفوا الطريق المعاصر الجاد الذي يتفاعل مع العلم لكي تتوسع الأغراض، وتمتلك أبجدية الإبداع الجديد الذي لا يعرف الحدود، ولا يمكن حصره في أعداد معينة، وأن يدركوا أن العلم أصبح فلسفة الإبداع وأن جميع الكتابات الإبداعية لابد لها من نهج علمي تسير عليه لكي تتفاعل بقوة مع الحياة.

ولكي تقدم القصيدة شيئا فكريا ومعرفيا وجماليا مفيدا، لا بد لها أن تتخذ منهج البحث العلمي سبيلا لتواصلها الخلاق مع الحياة.

ويبدو أن على النقد أيضا أن يستيقظ من سباته ودورانه في حلقة التأخر المفرغة، لكي يرتقي بمدارسه وأفكاره وتصوراته إلى حيث العالم الذي نعيشه، وأن يخلع عنه عباءة التأخر، ويكون في قلب المعاصرة والحياة المتدفقة بالقدرات والإبداعات العلمية الجديدة، لكي يقود الإبداع ويدفعه بقوة إلى الأمام.

وعليه فأن الثقافة العلمية أصبحت من ضرورات الإبداع وخصوصا الشعر، فالعلم ثقافة ولابد من الانفتاح على العلم وإشاعة الثقافة العلمية في المجتمعات المتأخرة لكي تتقدم.

وإنّ الشعراءَ نرجسيون ولا يقبلون القسمة إلا على أنفسهم!!

 

د. صادق السامرائي

27\9\2007

 

في المثقف اليوم