قراءات نقدية

عبد الرزاق اسطيطو: دور تعدد مصائر الشخصيات في تطوير أحداث الرواية وتعقيدها

رواية "جارات أبي موسى" للروائي المغربي أحمد التوفيق أنموذجا

عملت رواية "جارات أبي موسى" على استلهام مادتها الروائية من التاريخ المريني، مركزة على أحداث وشخصيات وفضاءات بعينها ارتبطت بهذا التاريخ، ومثلما اختار الروائي والمؤرخ المغربي أحمد التوفيق لروايته "جارات أبي موسى" شخصيات تاريخية حقيقية كشخصية ابي موسى الدكالي التي عاشت في فترة حكم بني مرين للمغرب، فإنه كذلك عمل بالمقابل على خلق شخصيات أخرى من خياله كشخصية شامة بطلة الرواية وجاراتها وصديقاتها الخادمات وزوجة القاضي ابن الحفيد وغيرهن بحيث جعل الشخصيات التاريخية تبدو وكأنها شخصيات متخيلة والشخصيات المتخيلة تبدو وكأنها شخصيات تاريخية. ومن خلال تاريخ بني مرين الذي مثله السلطان (أبو الحسن) وابنه (أبو عنان) والقضاة (ابن الحفيد وأبوسالم الجورائي) والعامل (جرمون وأعوانه) والولي المتصوف الزاهد (أبي موسى الدكالي) وتاريخ الشخصيات المتخيلة نرصد المصائر المتعددة المترابطة والمتداخلة لشخصيات رواية جارات أبي موسى، وفي هذا التعدد الذي ساهم في تطوير الأحداث وتعقيدها تكمن متعة هذه الرواية وجماليتها. فماهي مصائر أحداث وشخصيات رواية جارات أبي موسى؟ وكيف ساهمت هذه المصائر في تطوير أحداث الرواية وتعقيدها؟

تعد شامة بنت العجال راعي بقر القاضي ابن الحفيد الشخصية المركزية التي تدور كل الأحداث في فلكها وتعمل على ابراز مفاتنها وخصالها وقوة شخصيتها؛ فهي فتاة جمعت ما  بين الحسنيين حسن الجمال وحسن الخصال الإنسانية النبيلة، وقد ترعرعت كخادمة في بيت القاضي ابن الحفيد وصارت معزتها في قلبه مثل معزة بناته وتشربت على يد زوجته الطاهرة مهارة التدبير وتوقد الذكاء، ورقة الحديث وخفة الروح .فشامة التي كانت خادمة في بيت ابن الحفيد ستتحول من خادمة إلى زوجة لقاضي القضاة أبو سالم الجورائي، فبعد إعجابه بجمالها ورقتها في حادثة الطست والماء المغلى  ببيت ابن الحفيد أثناء نزوله ضيفا عنده، سوف يعقد قرانه عليها في نفس الليلة ويغير اسمها من شامة (الخادمة) لورقاء (السيدة)، وفي ذلك تحول وانقلاب في حياتها وحياة الآخرين المحيطين بها وفي مسار الرواية وأحداثها وحبكتها، حيث ستتداعى الأحداث المشوقة وتظهر شخصيات وأماكن جديدة استدعتها مرحلة تحول الشخصية المركزية شامة من وضع لوضع آخر  ومن مصير (خادمة) لمصير آخر (السيدة). وينساب السرد وهو يتابع هذا التحول بلغة رائقة معطرة واصفا جمال شامة وعبقريتها في التدبير والتصرف والتعامل مع الوضع الجديد ومدى قدرتها على تأويل لغة وسلوك وردود الآخرين، وراسما في الآن نفسه مصيرها الجديد الذي سيؤدي ضمنيا إلى ظهور أحداث ومصائر لشخصيات أخرى وهي تصارع  قدرها وواقعها وسلطة الآخر وجبروته ومكره، وفي ذلك متعة الرواية. فانتقال بطلة الرواية شامة من وضع الخادمة إلى وضع السيدة سوف يجر عليها نقم الحساد ويخلق لها من الدسائس والمؤامرات ما لا يعد ولا يحصى، وهذه الدسائس سوف تخلق مصائر جديدة للشخصيات كالمصير الذي سوف تلقاه خادمات الجورائي (بيعهن في سوق النخاسة)، وتؤدي في نفس الوقت إلى ظهور شخصيات جديدة كشخصية الطبيب اليهودي والحارس العبد فاتح، ويكشف لنا السارد العليم بكل شيء القابض بزمام الحكي من بدايته لنهايته مدى دهاء شامة "ورقاء" وقدرتها وحكمتها على التكيف مع الوضع الجديد الذي سيقت إليه من غير أن تعلم ومن غير أن تكون لها القدرة على الرفض. وأقوى الدسائس والمؤامرات التي تعرضت لها شامة بعد حادثة الطست المدبرة من زوجة ابن القاضي ابن الحفيد وخادمته هي حادثة تسميمها من طرف زوجة الجورائي بعد معرفتها بحكاية الزواج، وهي الحادثة التي كادت أن تنهي حياتها لولا علاج الطبيب اليهودي الذي تدخل في الوقت المناسب. ثم تنقلب حياة شامة ورقاء من جديد من سعادة إلى شقاء ومن سيدة إلى خادمة، وذلك بغرق زوجها الجورائي مع من غرقوا في البحر بعد خروجه رفقتها ورفقة السلطان في حملة عسكرية في الأطراف الشرقية من البلاد، فترسم الأقدار من جديد للجورائي ولشامة وللحاكم مصائر حزينة وشديدة السواد، فمصير الجورائي كان هو الموت غرقا في بحر هائج ومصير الحاكم هو فشله في الحملة وفقدانه للحكم بانقلاب ابنه عليه، وكلا المصيرين سيقلبان حياة شامة رأسا على عقب. فشامة سوف تعرف  مصيرا سيئا كله تعاسة لم تكن تتوقعه حيث جعلها هذا المصير تتحول بغرق زوجها الجورائي إلى متاع ينقل إلى بيت السلطان الجديد المنقلب على والده. فحياة شامة ومصيرها ارتبط بحياة ومصير شخصيات أخرى وفي ذلك تطور وتعقيد لأحداث الرواية . وقد عرفت شامة بخبرتها وذكائها وحسن تربيتها كيف تتقرب من أم السلطان الجديد أم الحر فصارت قريبة منها ترافقها في كل مشاورها وأشغالها بما فيها رحلتها التي تعرضت فيها شامة لمصير آخر ألا وهو الخطف ولولا تدخل فرسان (طلبة) أحد شيوخ زوايا تلك المنطقة لما عرف لها حس ولا أثر. ففي كل مرة تفاجئنا الرواية بمصير جديد لبطلة الرواية شامة فبعد تحريرها من يد قطاع الطرق اثناء رحلتها للحج رفقة أم الحر سوف تجد نفسها من جديد تواجه مصيرا مجهولا آخر بوفاة أم الحر التي أوصت مرافقيها من الحراس  عبر وصية مكتوبة إلى إرجاع شامة  من جديد إلى بيت القاضي ابن الحفيد مخافة عليها من الدسائس. ولم يدم استقرارها طويلا ببيت ابن الحفيد لتواجه مصيرا آخر أسوأ من المصائر الأخرى زاد من توتر الحكي، وساهم في ظهور فضاء جديد غني بالأحداث والشخصيات والمصائر والدلالات ألا وهو فضاء فندق الزيت الذي يعد من الفضاءات التاريخية لمدينة سلا في عهد المرينيين، ومعه تظهر شخصية أبي موسى الدكالي وجاراته الست بمصائرهن المختلفة  ثم ينفتح من جديد مصير شامة على مصائر شخصيات الرواية ويرتبط بهم ارتباطا إما في شكل صراع (شامة ضد العامل وتودة) وإما في شكل حب (شامة وهي تتعلق بسانشو وابي موسى) مما سيؤدي إلى خلق نوع من الصراع والتوتر المفضي إلى الرفع من منسوب  التشويق في الرواية. ففي تحول حياة شامة وانقلابها نرصد تاريخ مرحلة مهمة من حكم المرينيين  كيف كانت تدبر وتساس وأثر ذلك على حياة الناس من سلاطين وقضاة وعامة الناس. ومخافة على استقرار بيته وحبا في شامة التي يعتبرها واحدة من بناته قام القاضي ابن الحفيد بتزويجها لعلي سانشو وهو رئيس المعلمين المكلفين بتزويق المدرسة التي أمر السلطان ببنائها وزخرفتها وهو الزواج الذي يطرح معه سؤال لماذا علي سانشو وليس غيره؟ فشامة بهذا الزواج وبعد وفاة ابن الحفيد سوف تنلقب حياتها دفعة واحدة من السعادة إلى الشقاء وبذلك يرسم الروائي أحمد التوفيق لحياة شامة مرحلة جديدة من حياتها كلها شقاء وتعاسة وصراع ضد مكائد العامل جرمون، وبالتالي فحياة شامة بطلة الرواية عرفت عبر مسار أحداث الرواية مرحلتين متناقضتين مرحلة السعادة ما قبل زواج سانشو ومرحلة الشقاء والمعاناة بعد زواجها من سانشو ووفاة القاضي ابن الحفيد، فهي سوف تعاني هي وزوجها علي سانشو من مرارة العيش بسبب دسائس العامل جرمون وأعوانه وعميلته تودة. حيث سيطردهما العامل جرمون من بيت الأوقاف مما ستظطر معه شامة إلى الاستقرار بفندق الزيت الذي سيتحول إلى مسرح لأحداث الرواية ومرآة تعكس حياة الناس في أوج الدولة المرينية (رواج فندق الزيت) وبداية انهيارها (كساد تجارة فندق الزيت وتحول غرفه للدعارة) ، وسوف تزداد معاناتها بافلاس زوجها علي سانشو ودخوله السجن وعودته إلى بلاده الأندلس وتحرش العامل بها وانتشار الجفاف والجذام ومظاهر الجوع والخوف بين الناس، وبوفاة جارها أبي موسى الدكالي التي رفضت بسببه هجرة فندق الزيت وتنفيذ رغبة نقيب الشرفاء لأنها كانت تعتبره حرزها والعين الساهرة عليها . وهكذا أثرت كل هذه المصائر على حياة شامة وحياة الشخصيات الأخرى وساهمت في تطور وتعقيد أحداث الرواية ودفعها إلى التأزم بعد كل انفراج .

 وأمام الفراغ الذي خلفه رحيل علي سانشو وموت أبي موسى تلبست شامة في النهاية حال مولاتها الطاهرة ورضيت وسمت فوق جروحها وماضيها مع مرور الأيام، مثلما سمت رواية جارت أبي موسى فوق التاريخ الرسمي للمرينيين الذي دونه المؤرخون لتكتب تاريخها الخاص بها كرواية تبحث عن الصدق الفني في الكتابة الروائية بتعبير الباحث محمد القاضي أكثر مما كانت تبحث وهي تروي حكايات جارات ابي موسى بما فيهن شامة عن الصدق التاريخي في الأحداث والوقائع التاريخية في ضوء قناعة ورؤية الروائي أحمد التوفيق الذي كان يبدع كونا روائيا يتكون في آن واحد من عناصر متخيلة، وعناصر واقعية تاريخية، انطلاقا من اندغام التاريخي والواقعي والمتخيل بشكل تأويلي وتخييلي داخل الرواية .

***

عبد الرزاق اسطيطو

في المثقف اليوم