قراءات نقدية

البخيل بين الجاحظ وموليير

يسري عبد الغنييذكر بعض النقاد أسلوب المقارنة بين الأدباء والفنانين وبخاصة إذا تباعد العصر الذي عاشا فيه، وتباينت البيئة في صورها المتعددة، وهنا يتساءل المستشرق / بلاشير (1903 ـ 1973) ما الذي ربط بين الشاعر / أبي الطيب المتنبي، والفيلسوف / نيتشه حتى يقيم بينهما العقاد مقارنة، وما الذي جمع بين المتنبي وفيكتور هوجو ليقارن بينهما فون هامر؟ !.

يرفض أصحاب هذا التيار الفكري المقارنات الأدبية على أساس أن شخصية الفرد لا تتكرر، وأن بصمات هذه الشخصية معجزة الخالق المبدع لا يمكن أن تتكرر في مخلوقين أو توأمين، فالصوت والبصمة والرائحة سمات الشخصية الخارجية تميز إنسانًا عن إنسان والأسلوب والفكر من سماتها العقلية تميز إنسانًا عن إنسان .

ثم أضاف هيجل الألماني ومن بعده النقاد والمؤرخون سمة خاصة بالأدباء والفنانين، تميز الأديب عن الأديب، والفنان عن الفنان، وهي تطابق الشكل والمضمون، وعلى الرغم من ذلك فإنه يحلو لكثير من النقاد والدارسين عقد مقارنات أدبية بين أهل الأدب أو بين أهل الفن، فأبو نواس هو رامبو العرب في نظر المستشرق / رينيه خوام، وطه حسين هو مارتن لوثر الأدب العربي في الموسوعة البريطانية ...

ونميل في هذا المقام إلى صف هؤلاء الذين يجدون بين أدباء الشرق والغرب ملامح إنسانية وعقلية متشابهة أو متقاربة، والسبب الذي نراه واضحًا وراء ذلك قائم في وحدة العنصر البشري والأسرة الإنسانية، ومصيرها، ووحدتها في البحث عن معنى وجودها، والكشف عن الغموض الذي يلف الطبيعة والحياة وما وراء الحياة، إنها أسئلة تلح على كل إنسان، وعلى كل عصر مهما تعددت الأديان، واختلفت البيئات، وتوالت العصور و برغم تمايز الأفراد .

وهنا نسأل: هل يمكن أن يخلو مجتمع من (البخيل)؟ وهلي يمكن أن يخلو عصر من هذا النموذج أو النمط بين الرجال والنساء؟، بالطبع لا نظن ذلك .

ليس الأدب أو الفن مجرد محاكاة مادية للطبيعة والواقع، وإنما هما رؤية فنية تكشف عن الحق والخير والجمال، ولأن هذه القيم لا محدودة، لأنها قيم إلهية سامية خالدة، فلن تجف الرؤى، ولن تصل ـ حتى يرث الله الأرض ومن عليها ـ جهود البشر إلى استيعابها والإلمام بها، ولذلك سيظل وحي الأدب والفن خلاقًا متجددًا متدفقًا دائمًا وأبدًا .

نقول: إن عنصر المبالغة في تحليل البخيل، ونعني شخصية البخيل عند كل من الجاحظ وموليير، يبدو لنا ظاهرًا بمجرد القراءة المتأنية، فالبخلاء عندهما يستحيل وجودهما أو على الأقل ليسوا من البخلاء العاديين، ولكننا نعلم أن المبالغة سمة أساسية من سمات الرؤى الفنية التي تنطلق من الواقع وتتجاوزه، الواقع المحبب الذي نعايشه ونراه .

لقد كان الغلو في التصوير والتحليل وسيلة من وسائل الغوص في أعماق النفس والطبائع عند الجاحظ و موليير، ومن أمثلة ذلك: زبيدة بنت حميد الصيرفي، صاحب مائة ألف دينار، أي أنه مليونير بأسلوب عصرنا، يناقش البقال في الوزن بين الشعيرات (من الشعير) الأربع الصيفية، وبين الثلاث الشتوية وقد أثقلها الندى .

وعند موليير نجد أن هربا جون البخيل يفتح فمه في بلاهة وسذاجة لدى سماعه فالير خطيب ابنته وهو يقول: إن على الإنسان أن يأكل ليعيش، لا أن يعيش ليأكل، وحين يقبض هاربا جون بيده اليسرى على يده اليمنى ظنًا منه أنها يد غريبة امتدت تحت الطاولة لتسرقه .

لقد اختار شيخنا / الجاحظ بخلاء من طبقة المثقفين، وكبار رجال الدولة، كالوزراء والولاة، أما موليير فقد اختار بخيله من الطبقة الوسطى، حين تنزل عليه ثروة هائلة فتكشف عن خباياه و عن ضعفه .

ويتفق الجاحظ وموليير في تصوير الصراع الداخلي في أعماق البخيل، حيث نجد الشهوة العمياء والأنانية البغيضة، والاختلال في القيم، يغلف كل ذلك ستار من الأحاسيس الإنسانية العميقة الدامية، فالضحك يمتزج بالأسى، والسخرية تكشف عن ضعف الإنسان حين تستبد به الأهواء، فالقارئ أو المشاهد، يضحك ويشفق على من يضحك منهم ومن سلوكهم، البخيل عندهما إنسان مريض ومصيبته أنه لا يدري أنه مريض، ولا يريد أن يدري بذلك، وكأن البخل أضحى بعضًا من الطبيعة .

لا جديد تحت الشمس، ولكن الجديد هو أخذ الأديب من القديم مازجًا إياه بإبداعه لتكون أمامنا صورة جديدة لا مثيل لها، فموليير وقف أمام بخيل (بلوت) وتفوق عليه، والجاحظ أخذ كتابه عن روايات الأصمعي والمدائني وأبي عبيدة، وفاقهم جميعًا .

ويمكن أن نجد عند موليير صورًا حية نابضة للمجتمع الفرنسي في عصره، عاكسًا أحوال الناس وسلوكياتهم ونفسياتهم، فقد خالط الرجل الناس وعاش معهم، وكتب عن واقعهم، ونفس الأمر بالنسبة للجاحظ، ولذلك نذهب إلى أن الأدب شعرًا ونثرًا تاريخ أصدق من أي تاريخ، والشاعر مؤرخ أروع من أي مؤرخ، فالأدب الصادق الحقيقي لا يعرف الخوف أو المداهنة التي نجدهما عند المؤرخين .

نقرأ صورة للبخل عند الجاحظ، حيث يتكلم عن الشيخ الخراساني الذي كان يأكل، إذا مر به رجل فسلم عليه، فرد عليه السلام، ثم قال: هلم عافاك الله، فلما نظر إلى الرجل قد انثنى راجعًا يريد أن يمر من فوق الجدول أو يعبر النهر، قال له: مكانك فإن العجلة من الشيطان، فوقف الرجل، فأقبل عليه الخراساني وقال: تريد ماذا؟ قال: أريد أن أتغذى، قال: ولما ذاك؟، وكيف طمعت في هذا؟، قال: ويلك لو ظننت أنك هكذا أحمق ما رددت السلام، العادة فيما نحن فيه أن تكون إذا كنت أنا الجالس وأنت المار أن تبدأ أنت فتسلم، فأقول أنا حينئذ مجيبًا لك: وعليكم السلام، فإن كنت لا آكلاً شيئًا سكت وسكت أنت، ومضيت أنت وقعدت أنا، وعليّ أن أقول: هلم وتجيب أنت فتقول: هنيئًا، فيكون كلام بكلام فأما كلام بفعال وقول بأكل فهذا ليس من الإنصاف ...

ونقرأ في مسرحية (البخيل) لموليير، الفصل الرابع، المشهد السابع ـ هربا جون يصرخ داخلاً، وقد خلع قبعته: إلى اللص، إلى اللص، إلى القاتل، إلى الجاني، علك أيتها السماء العادلة، لقد هلكت، لقد نحروني، لقد سرقوا مالي، من تراه اللص، ماذا حل به، أين هو، في أي مكان يختبئ، ماذا أفعل لأعرفه، إلى أين أجري، أليس هو هنا، أليس هو هناك، من هذا، قف، أعد إلي مالي أيها النذل، (يقبض على ذراعه اليسرى)، آوه، هذا أنا، لقد فقدت صوابي، إني أجهل من أنا، وأجعل أين أنا، وأجهل ما أعمل ...

ويواصل بخيل موليير كلامه في نفس المشهد: أه !!، يا دراهمي المسكينة، يا صديقتي الغالية، لقد حرمت منك، وبما أنك انتزعت مني فقد فقدت سندي وعزائي وفرحي، انتهى أمري ولم يبق لي بعدك حاجة في الدنيا، بدونك يا دراهمي لا أستطيع الحياة، انتهى الأمر، إني أتلاشى، إني أموت، بل لقد مت فعلاً، لقد دفنت، من يستطيع من يبعثني من الموت بأن يرد دراهمي الغالية ..

بقى أن نقول: في واقع الأمر لقد كان شيخنا الجاحظ أروع في نظرته الشمولية وتحليله المتنوع للشخصيات المتعددة، ولكن الإبداع والفن جميل، جميل شرقًا وغربًا، عند الجاحظ وعند موليير، وعند غيرهما، فالقضية كلها هي: الإنسان، فليحيا الإنسان في كل زمان ومكان .

 

بقلم: د يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم