قراءات نقدية

أسامة غانم: المغامرة السردية في ذاكرة النص

اسامة غانميستمد الروائي حامد فاضل في روايته "لقاء الجمعة"* عناصر روايته التكوينية الثلاث من الذاكرة / التجربة الوجودية الواقعية من شخصية خضير عباس الواقعة خارج النص تماماً، والخيال من الروائي، مما يعني " له السداة وللخيال اللحمة ولي الحياكة شكراً للأستاذ خضير عباس - ص5 الاهداء "، أي له السُدّاة لـ خضير عباس بمعنى مادة النسيج، فالسَدَاةُ = سَدَاةُ النسيج: ما مُدّ من خيوطه، السدى / اللحمة للخيال بمعنى الخيوط، لحمة الثوب = خُيُوطُهُ المُمتَدَةُ عَرْضاً يلحم بها السَدى / الحياكة لـ حامد فاضل - الروائي .

وفي العتبة، نقرأ مرة ثانية على لسان الراوي ما جاء على لسان الروائي: " تلك الذكريات التي شكلت سداة نسيج روايتي، والمذكرات التي كونت لحمتها .. الرواية التي نويت حياكتها عن نضال القوى الوطنية العراقية واخترته هو كمثال لذلك – ص 11 الرواية "، ففي هذا يقوم الراوي بدمج العناصر الثلاث والإستراتيجيات ألحكائية الخيالية ليدفع الى المقدمة بالاستفهامات التاريخية، وهذا ما تشتغل عليه الميتارواية التاريخية، وهو أحدى أشكال ما بعد الحداثة .

وفي رواية " لقاء الجمعة " تتحقق مقولة المؤلف المزدوج التي اشتغل عليها الناقد عبد الله الغذامي، في كتابه "النقد الثقافي"، لتأكيد أن هناك مؤلفاً آخر بإزاء المؤلف الاصلي، وذلك هي الثقافة ذاتها التي تعمل عمل مؤلف آخر يرافق المؤلف المعلن، وتشترك الثقافة بغرس أنساقها من تحت نظر المؤلف وهو في قمة تجليات ابداعه، غير اننا سنجد في مضمر النص نسقا كامنا وفاعلا ليس في وعي صاحب النص، ولكنه نسق له وجود حقيقي، وإن كان مضمرا، إننا نقول بمشاركة الثقافة كمؤلف فاعل ومؤثر، باعتبار أن من اساسيّات الأليات النقدية الثقافية التي تشكل النقد الثقافي هي المؤلف المزدوج .

تتكون الرواية من تسعة فصول، الفصل الاول باسم العتبة والفصل الأخير العتبة ايضا، وهما على لسان الراوي بضمير المتكلم، وسبعة فصول على لسان الشخصية الرئيسة سهيل نجم السماوي " فعليا هو يمثل الاستاذ خضير عباس الذي اهدى له المؤلف روايته "، وضعت تحت عنوان رئيسي موحد لكل الفصول مع عنوان فرعي مختلف لكل فصل: الجمعة الاولى / البرقية، الجمعة الثانية / الزهرة، الجمعة الثالثة / المظاهرة، الجمعة الرابعة / الخَنَاق، الجمعة الخامسة / الدخول، الجمعة السادسة / النفق، الجمعة السابعة / البيان .

تبدأ الرواية بجملة اخبارية، بفقدان (ضياع – اختفاء) الحاسوب المحمول للراوي، والذي يحتوي على جميع لقاءات الجمع مع سهيل السماوي بالإضافة الى مخطط الرواية الذي وضعه الراوي، " ربما هي المرة الألف، التي تُعيد فيها ذاكرتي شريط ذلك الصباح الشباطي المطير، الذي فقدت فيه حاسوبي المحمول .. ماذا أقول لسهيل السماوي؟ - ص 11 الرواية " .

ويستمر الراوي مؤنب ذاته يتسأل:

-تُرّى أين، كيف، متى ضاع الحاسوب؟

أضاع أم سُرقْ؟ ص 12 .

ولا يتبدد عماه الا حين يستلم رسالة عن طريق البريد الالكتروني من المسمى جابر عثرات الروائيين يخبره فيها بانه سوف يرسل: " ملف الرواية التي كتبتها اعتماداً على ما وجدته من معلومات في مخططك، أرجو أن تقرأها بدقة تضاهي الجهد الذي بذلته أنا في انجازها – ص 35 الرواية "، عندئذ تتوضح الامور للمتلقي وللراوي، ولكي يطلعا على ملف رواية لقاء الجمعة المرقوم من قبل جابر عثرات الروائيين، المدون فيه سيرة حياة سهيل السماوي، في حدود دلالية واضحة المعالم: إنه يفعل، ويعاني، ويفكر، ويعي ضمن حدود وجوده المتحقق أي في صورته الفنية المحددة بوصفها واقعا حقيقياً أنه عاجز عن التوقف عن كونه ما هو عليه بالفعل، أي عاجز عن الخروج من حدود شخصيته " 1، المرسومة بدقة من قبل الروائي بوعيه الذاتي، الوعي الذي يصور سهيل السماوي ويحدد ابعاده، ضمن خلفية تتكون في خارج الصورة، أي ضمن العالم الحقيقي . وذلك لأن " وعي المؤلف هو وعي الوعي، يعني الوعي المتطابق مع البطل وعالمه،الوعي المناسب والمكمل لهذا البطل " 2.

من حق المتلقي أن يتسأل، لماذا اختار الروائي " لقاء الجمعة " اسماً لروايته؟ واذا اختاره، هل اختاره بقصدية مضمرة وعلى المتلقي أن يبحث عن المعنى؟ وبالعودة الى قواميس اللغة العربية، لقاء لغة تعني: اجتماع / مقابلة، ملتقى: مقابلته واستقباله . اما الجمعة لغة تعني: الاجتماع / المجموعةُ / الالفْةُ، واشتقاقها من الجْمع،عليه يكون العنوان: الاجتماع . رغم أن هنالك تأويلات متعددة طرحت من قبل البعض على تفسيره كعنوان لا مكاني لا زماني والحقوه بالميثولوجية الاسلامية على انه يعني صلاة الجمعة، ويجب أن لا يغيب عن بالنا ان الذي حدد اللقاء يوم الجمعة هو: سهيل نجم السماوي " ص 26 "، وهو ذلك الرجل اليساري، الذي كان لاجئاً سياسياً شيوعياً في المانيا، وقبل ذلك من المؤسسين الاوائل لأول خلية شيوعية في مدينة السماوة، حاصل على ماجستير في القانون الدولي من جامعة كارلس في جيكوسلوفاكيا، نعم يعتبر الفكر الشيوعي فكرا امميا، أي لا تحده حدود ولا لغات ولا قوميات، لأن الايديولوجيات بالأساس هي لا مكانية ولا زمانية، فهل كان لقاء الراوي بــ سهيل السماوي لقاء صلاة جمعة أم لقاء استماع وتدوين الملاحظات للأعداد " لملف رواية لقاء الجمعة"؟

سهيل نجم السماوي، شخصية موزعة ما بين مدينة السماوة وبين صحراء البادية، شخصية حالمة، حتى وهو في المعتقلات والسجون يحلم، شخصية متمردة على وضعها السياسي – الاجتماعي، هذا كله جعل الروائي يتواجد على حافات العمل الذي يكتبه هو نفسه كمبدع فعّال له،لأن تدخله في هذا العمل يخّرب ثباته الجمالي . لذا كان الروائي " داخل العمل بالنسبة للقارىء هو مجمل المبادىء الإبداعية التي يجب أن تتحقق، وهو ايضاً وحدة الجوانب المكونة للرؤية التي تنسجم مع البطل وعالمه . أمّا فرديته كإنسان فهي فعل إبداعي آخر تماماَ بالنسبة للقارىء وللناقد ولرجل التاريخ"3 .

إن الذي اكسب رواية " لقاء الجمعة " زخماً شعرياً جمالياً مضافاً في سرديات النص، هو خوض الروائي حامد فاضل مغامرة سردية تجريبية في كتابة الرواية، عندما جعل النص يكتب من قبل الشخصيتين الرئيسة: الراوي " كتب العتبات " وسهيل السماوي " كتب اللقاءات السبع " في داخل النص الروائي: " في الهزيع الأخير من الليل . أنهيت مارثون رواية لقاء الجمعة .. حتى تعشقت فصول الرواية بأنفاسي، وسيطر أسلوب جابر العثرات على تفكيري .. كنت أتسأل من المنتصر، أنا الذي هيئت مخطط الرواية، أم ذلك الذي تقمص دور الروائي؟ – ص 214 "، تبقى التساؤلات قائمة ومتواصلة عند الراوي، في العتبة الاولى والثانية، ولكن في الاولى يكون التساؤل قريب من السؤال البوليسي " أين، كيف ، متى؟ أضاع أم سُرقْ؟ "، وحب معرفة الجاني كما يقول تودوروف يدفعنا إلى السؤال: ماذا حدث؟ فيما تجعلنا الإثارة نتساءل: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ وفي حال الحبكة التي تثير التشويق، فإننا نتساءل: ماذا حدث وماذا سيحدث؟ . أم في الثانية فيكون التساؤل اخلاقي – معرفي، حتى بعد معرفة هوية الذي ظهر عنده الحاسوب ! .

تميزت الرواية بأسلوب لغوي متميز وعميق، حيث اتسم بالمعنى المكثف والشعرية العالية، دلالة على عبارات الروائي الجزلة المنتقاة مع مفردات جميلة جدا مختارة بعناية فائقة، شكلت جمل رصينة ذات جمالية فائقة، مما جعل الكلمة الروائية حقا كلمة شعرية، كلمة حية، متفاعلة مع وسط خاص متميز، " فاذا فقد الروائي الأرضية اللغوية للأسلوب النثري، ولم يستطع الارتفاع إلى مستوى الوعي اللغوي النسبي، وأصم أذنيه عن الثنائية الصوتية العضوية للكلمة الحية المتكونة وعن حواريتها الداخلية، فانه لن يفهم أبداً امكانات الجنس الروائي الفعلية ومهامه ولن يحققها"4، ولكن كان حامد فاضل مستوعباً هاضماً لكل هذه الأشتغالات الأسلوبية السردية، وهذه اتت واضحة وخاصة في اشتغاله على الامكنة: مدينة السّماوة، وصحراء السّماوة، في تجليات تشكيله للصور اللغوية لهما، من حيث الاستعارة والانزياح والمجاز، وهنا تختلط البلاغة مع الدَلالة .

ليس ذلك فحسب، بل يقوم بالحفر والتنقيب في ذاكرة التاريخ، للبحث عن هويتهما الموشومة على كل طابوقة بنيت بها الزقورات، وبقايا كل حجارة قد اكلت منها الامطار والرياح، انها مدينة موغلة بـ الأنسان، والواحه الطينية النابضة بالأحرف المسمارية، القابع فيها انكيدو وعشبة جلجامش، فالأمكنة عند حامد فاضل تتحول الى أساطير مجنحة تبحث عن خيمة الله، في عوالم لامحدودة لا نهائية، مطلقة، لنقرأ كيف اشتغل على أسم مدينته، وكيف يتوحد معها من خلال الوصف الصوفي، ثم يبين للمتلقي لماذا هو يعشق هذه المدينة، لأنها اول مدينة خط الانسان فيها اول حرف، واول ملحمة كتبت فيها، واول قوانين سنت فيها، واول مدينة يحكمها الملوك الالهة:

السّماوة

السين من السماء

الميم من الماء

الألف من الفرات

الواو من الوركاء

التاء من التاريخ . ص 186 الرواية .

كنت وما أزال معجباً بمدينتي السّماوة، عروس البادية التي اغتسلت بماء الفرات، وتحنت بطين شواطئه، مولعاً بتاريخها منذ اول لوح طيني نقش بالخط المسماري وتلفع بالتراب السومري، السّماوة التي ولدت من رحم سومر، ارتبط اسمها بأوروك، وجلجامش، وابو الجون، وقطار الموت، وسجن السلمان – ص 24 الرواية " .

نستطيع صياغة مفاهيم العلاقات الممكنة القائمة بين: الأسطوري والتاريخي والتخييلي والعالم الواقعي، لكي نفهم المعنى المتحقق، لذا يجب علينا أن نفهم الوظيفة الدلالية للمعنى في الانزياح عند حامد فاضل، عندئذ نستطيع التمييز بين الصور السردية الظاهرة وتلك الأخرى المضمرة الواقعة خارج السرد المتكونة من خلال الكلمات المضللة، فعندما يتناول صور الغروب في آفق صحراء بصية في حالة الشفق الذي كأن السماء / الازرق تتطابق مع الأرض / الاصفر (نعثر فيها على المرجعيات الاربع متداخلة منسجمة) يتناولها كأنها عملية جماع ما بين المرأة والرجل: يلتحم الجسدان / يتعشقان ببعضهما / لحظة ذروتهما . وباستطاعة أي متلقي مهما كان استقباله للصور السردية استشراف ذلك:

" هناك .. هناك بعيدا هناك، حيث ضربت خيمة الله أطنابها في الآفاق، وبظلالها على بادية بصية .. هناك حيث تنحني السماء، وتنهض الأرض، يمد الآفق بساط العشق، فيلتف الثوب الأزرق بالثوب الاصفر، ويلتحم الجسدان الأعلى والأسفل، يتعشقان ببعضهما وفي لحظة ذروتهما، يصطبغان بلون الغسق، يعرقان فيهطل الغيث، يلحس بلسان الماء جلد الأرض الأغبر، يخلع عليها حلة الربيع،فسيستيقظ وادي بصية من سبات الشتاء، يغسل وجه بدلاء السماء، يمشط شيبة العشب ويصبغها باللون الاخضر، يلقي على كتفيه عباءة أزهار قوس قزح، ويخبىء في زوادته الكمء النابت من غير جذور – ص 59 الرواية " .

في الاقتباس التالي سيكون الاستشهاد على شكل تشبيه، سيكون اكثر وضوحاً وخاصة انه جاء على لسان الدليل البدوي لقافلة سجناء نقرة السلمان، عندما استخدم مفردات لغوية متداولة في صحراء السماوة والتي تعتبر عند سكان الصحراء مفردة اعتيادية، أما بالنسبة للأخرين الذين لا يسكنون الصحراء فهي غريبة، غير مألوفة، تدهش مستمعها:

-ها قد وصلنا إلى النهدين .

دهش السجناء من تشبيه الدليل للتلين، لكنهم اثنوا عليه حين مروا بحذائهما، فقد كان التلان مكورين متوّجين بقمتين بارزتين كحلمتين في صدر فتاة ناهد، ختمت مداعبة عيون السجناء للنهدين بالوصول الى الفّرْج وهو المفرق الذي يبعد 5كم عن الطريق الصحراوي المؤدي الى مرآة الرمل المقعرة المعروفة باسم نقرة السلمان – ص 181 الرواية " .

إن زمن العتبات، هو غير زمن اللقاءات، فزمن العتبات هو تاريخ ما بعد الاحتلال الامريكي للعراق، أي بعد عام 2003، والعتبات هي عبارة عن حكي الراوي غير المكتوب، وهو خارج المتن ولكنه داخل الرواية أما زمن اللقاءات هو التاريخ المحصور ما بين عام 1948- 1958، هو الزمن المكتوب على شكل مذكرات تعتمد اعتماداً كلياً على ذاكرة سهيل السماوي " الذاكرة مستودع الذكريات " في المتن، فالذاكرة هي الربط بين الماضي - الحاضر – المستقبل ‘ كيف يعي الانسان ذاته من دون ذاكرة؟ فالذاكرة هنا هي الهويّة، لذا فإن غيابها يغيَبّ الهويّة مما يعني أن الانسان الذي كنته بالماضي او الذي سأكونه في المستقبل، هو الهويّة . مما يعني أن ذاكرتنا تمنحنا الإحساس المتواصل بالفردية، والذات، والهوية . فالهويّة تعيش بالذاكرة . والدلالة على ذلك حتى في الموت نكون بحاجة إلى ذاكرة، شواهد القبور تمثّل هويّتنا وذاكرتنا، أن ثنائية الهويّة والذاكرة تحيل الى الحركية المرتبطة بالسؤال المسافر، دوماً، الذي يكتمل بالتوكيد القائم على الانفصال داخله، كذلك فإن ثنائية الهويّة والذاكرة، تنتمي الى الرؤية التي تقول بلا نهائية الكتابة 5 .

وبالنتيجة الحتمية تكون الذاكرة الشخصية او الجماعية جزء مهم من التاريخ العام، وفي هذا وفق الروائي في مزاوجة الواقعي / الوثائقي / التاريخي بالسرد الفني التخييلي، مما منحه هذا اعادة صياغة الاحداث وفق رؤية روائية فنية متخيلة بشفرات حكائية معرفية – ثقافية، جعل السيرة الشخصية النضالية لـ سهيل السماوي، منذ تعرفه بأمين مكتبة متوسطة السماوة منير الجميلي الرجل اليساري المثقف، واطلاعه على افكاره، الذي قام " اضفاء نصاعة ضوء من سراج فكره المضيء، الى جذوة قراءة سهيل السماوي – ص 69 الرواية " . وقيادته لمظاهرة شعبية لدعم انتفاضة تشرين الثاني عام 1952، ادت الى اعتقاله وسجنه في مركز الخَنَاق في مدينة السماوة هو وجماعة من زملائه الطلبة، ثم تسفيرهم الى معتقل ابو غريب، ثم نقلهم الى سجن بغداد المركزي لعدم تمكنهم من دفع العشرة دنانير، ليطلق سراحهم بعد أن جمع المبلغ من قبل اهل السماوة الميسورين، وهكذا بدت مسبحة الاعتقالات والسجون تكر على سهيل السماوي، ثم بعد حادث قطار الديوانية، يعتقل في مركز شرطة السكك لينقل بعدها الى التحقيقات الجنائية ثم الى سجن معسكر الرشيد ليستقر بعدها في سجن بعقوبة لحين حفر النفق المشارك فيه وهروب السجناء، على اثره ينقل الى نقرة السلمان في بادية صحراء السماوة، ليبقى فيها لحين قيام ثورة 14 تموز 1958، ليطلق سراحه بعدها بأيام، الرواية حوت للكثير من الوقائع التاريخية التي حصلت للسجناء، وخاصة في سجن بعقوبة، مع الكثير من الاسماء الحقيقية مثل: حسين مردان – محمد مهدي الجواهري – كامل الجادرجي، وللكثير من اسماء القيادات الحزبية للحزب الشيوعي العراقي: حميد عثمان – ارا خاجادور – طالب عبد الجبار و عزيز محمد من جماعة راية الشغيلة .

هذه السيرة الشخصية النضالية لسهيل السماوي كما نوهنا، حْولهّا الروائي بقدرة فنية عالية لتصبح هويَة وذاكرة نضالات الشعب العراقي، ولتصبح بالذات جزءاً من تاريخ نضال الحزب الشيوعي العراقي، رغم اننا " نعرف بالطبع أن ما نقرأه ليس هو ‘ الواقع‘، ولكننا نقوم بكبت معرفتنا حتى نزيد متعتنا . ونميل لقراءة المتخيل كما لو كان تاريخاً . وبمعاملة المتخيل بوصفة وثيقة تاريخية، يستخدم فاولز المواضعة ضد نفسها . ونتيجة لذلك، بدلاً من أن يعزز إحساسنا بالواقع المستمر، يمزقه لتعرية مستويات الوهم . إننا نضطر من ثم الى تذكر أن عالمنا ‘ الواقعي‘ لا يمكن أن يكون العالم ‘ الواقعي ‘ أبداً للرواية . ولذا، في الوقت الذي يبدو أن كسر الإطار يجسر الفجوة بين المتخيل والواقع، فإنه يعمل على تعريته في حقيقة الأمر " 6 .

لقد عمد الروائي في ‘ لقاء الجمعة ‘ الى خديعة الذات القارئة عندما جعلها لا تستطيع أن تميز بين الخطابين التاريخي والتخييلي الا بصعوبة بالغة رغم أن التخييل السردي يقدّم لمحات عن البنية العميقة للوعي التاريخي حيث يكون بمقدور الروائي أن ينسج " يصيغ، ينتج " خطاباً خيالياً قد لا يكون أقلّ حقيقية عن احداث واقعية لكونه خيالياً، وهذا ما دفع المتلقي أن يميز بكل سهولة بين الأيديولوجية التقدمية اليسارية وبين الرجعية القمعية، فالعبرة في جوهر الخطاب وليس محتواه، كما نوه الى ذلك بارت عندما قال " نستطيع أن نرى بمجرد النظر إلى بنية الخطاب التاريخي ومن دون الحاجة إلى استحضار مادة محتواه، فإنه في جوهره شكل من الصياغة الأيديولوجية، أو بدق أكثر صياغة خيالية " 7 .

وهذا ما نراه حاصل عندما يقدم لنا ذلك من خلال اسلوبية سوسيولوجية للحدث ظاهره الادانة وباطنه التعرية والكشف، من خلال حدثين، الاول بعد 2003 / الاحتلال الامريكي، والثاني في العهد الملكي / الاحتلال البريطاني، حيث يكون فيه الانفتاح على النص انفتاحاً على المُتخيّل الذي يحُرّره المَعنى:

قطة جميلة، تلطعُ الماء من بركة بحذاء الرصيف، حتى إذا ما ارتوتْ ولحستْ شعرها وتمطتْ، فأجاتها سيارة أوبل زرقاء غير مرقمة، وما بين مَدّ بصري وجزره، صرخت القطة، قفزت، وقعت، وبصحوةِ موتٍ باتجاه النخلة ركضت، ثم تحت طابور صور المرشحين خمدت، في اللحظة نفسها التي اطلق سائق الأوبل النار على رجل من السَابلة، فارداه في الحال، قيل انه كان ضابطاً في الجيش العراقي المُنْحلْ – ص 14 الرواية .

لمحة ذكية ذات دلالات ايحائية – رمزية، تحمل معاني متعددة " تحت طابور صور المرشحين خمدت "، كما خمت الشعب، وعندما تتطلع على القطعة السردية الثانية، تقرأها كأنها ملحقة أو تتمة للقطعة الاولى حيث يتحقق التطابق في الاختلاف:

رحب الخياط اسكندر اللبناني بسهيل السماوي، وفي انتظار الأستاذ عزيز الشيخ . طفقا يتحدثان وهما يحتسيان القهوة عن الوضع الاقتصادي المتردي وعن التبعية والمحسوبية والمنسوبية وتفشي الرشا والفساد الاداري والاجراءات التعسفية التي تمارسها الحكومة لقمع المظاهرات المطالبة بالتغير . 114 الرواية " .

نتسأل هل هنالك اختلاف ما بين العهد الملكي والحكومة الحالية في احداث قمع المظاهرات الشعبية؟ بل نرى الآن اضيفت اجراءات اكثر وحشية واكثر شراسة، مثل الاغتيالات والاختطاف . لنعود نتسأل مرة أخرى هل هنالك فرق بين الاثنين؟ وكيف؟ .

ويبقى التساؤل قائماً عن من هو جابر عثرات الروائيين؟ للراوي وللمتلقي، الذي ارسل ملف رواية لقاء الجمعة والمكتوب من قبله، الى الراوي " لم يطلق عليه الروائي الى نهاية الرواية اسماً ":

- ماذا عن حاسوبي الذي عندك .

- ستجده صباح غداً معلقاً على جذع النخلة الشامخة قدام مطعم فلسطين . والآن اتمنى لك ليلة سعيدة .

- لحظة اسمح لي ألم تنس شيئاً أخر؟

- لا لم أنس، دقيقة وسترى صورتي وتعرف اسمي .

- الله!

صرخت وفتحت عيني على سعتهما، وأنا احدق غير مصدق بصورة سهيل السماوي . – ص 216 الرواية " .

اخيراً، عندئذ نعرف من هو جابر عثرات الروائيين، حيث يكون هو ذاته بعد الاحالة الى ما وراء الرواية المتواجد في الاهداء: خضير عباس .

لتبقى الندوب على خرائط جسده مزروعة، منذ أن ابتدأت رحلته في سجن مدينة السّماوة، وانتهت في سجن نقرة السلمان الصحراوي المزروع في بادية السّماوة .

وليبقى حامد فاضل من القلة المعدودة من الكتّاب في مغامرة الكتابة السردية لأنه سندباد رحلات السرد المغامر .

 

أسامة غانم

..........................

الهوامش والاحالات:

* رواية " لقاء الجمعة " – دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر، بغداد، 2020 .

1- ميخائيل باختين – قضايا الفن الابداعي عند دوستويفسكي، ترجمة: د . جميل ناصيف التكريتي، مراجعة د . حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد / العراق ، 1986، ص 73 .

2- ميخائيل باختين – النَظرية الجمالية: المؤلف والبطل في الفعل الجمالي، ترجمة: عقبة زيدان، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق / سوريا، 2017، ص 67 .

3- م . ن . ص 286 .

4- ميخائيل باختين – الكلمة في الرواية، ترجمة: يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق / سوريا، 1988، ص 101 .

5- جوناثان كيه فوستر – الذاكرة، ترجمة: مروة عبد السلام، مراجعة: ايمان عبد الغني نجم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة،2014، ص 90 .

6- باتريشيا وُوه – الميتافكشن: المتخيل السردي الواعي بذاته ‘ النظرية والممارسة ‘، ترجمة: السيد إمام، دار شهريار، البصرة / العراق، 2018، ص 45 .

7- هايدن وايت – محتوى الشكل: الخطاب السردي والتمثيل التاريخي، ترجمة: د . نايف الياسين، مراجعة: فتحي المسكيني، هيئة البحرين للثقافة والاثار، المنامة / البحرين، 2017، ص 101 .

 

في المثقف اليوم